الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بقايا صور من الحياة اليومية/المكان

نقولا الزهر

2008 / 8 / 23
سيرة ذاتية


المكان
بعد عودة الأسرة من دمشق، بدأت أتعرف على المكان، مسقط الرأس والمنشأ والبيت والقرية التي تذهب عميقاً في التاريخ(صيدنايا).
-1-
بيتنا من الداخل عشته بكل جغرافيته وتفاصيله الدقيقة. ومثل كل الأطفال، كان ملعبي واهتمامي ومنجم معرفتي الأول، قبل أن أتعرف على ملعبي الأوسع في الحارة والقرية.
المربع الوسطاني، هو الغرفة التي نزلنا منها إلى دمشق وعدنا لنعيش فيها من جديد. تحتوي على موقد ريفي، وخزانة ببابين ومرآتين و ثلاثة دروج في قاعدتها وتاج في أعلاها، ومطعمة بعروق من خشب الليمون. ويوجد فيها (اليوك) المخصص لوضع كل مستلزمات النوم من الفُرْشٍ واللحف والمخدات والشراشف، ويستره شرشف كبير من التنتنة كان من ضمن جهاز والدتي الذي اشتغلته مثل أية فتاة في سن الزواج. ويوجد فيه (الخرستان) وعمقه حوالي المتر أو أكثر داخل الجدار، كان يتسع لقطرميزات المكدوس والجبنة واللبن الدعابيل والزيتون والقاورمة(اللحم المجفف). هذا الخرستان كان براد البيت في الريف في تلك الفترة، وبالفعل فالمؤونة كانت تبقى فيه حتى أوائل الصيف دون أن يطرأ عليها أي فساد.
وفي الزاوية الجنوبية الغربية من المربع الوسطاني يوجد مدخل(مغارة الحطب)، وفي زاويته الجنوبية الشرقية باب الغرفة إلى فناء الدار، وطبعا خلف الباب عتبة البيت التي يكون مستواها عادة أدنى من مستوى أرض الغرفة، نخلع فيها أحذيتنا. وهذه العتبة كانت تتحول إلى غرفة للاستحمام في كل يوم سبت، حيث لم يكن في البيت غرفة استحمام خاصة كما هو الحال في شقق اليوم، وكذلك الحال لم يكن في القرية حَمّام عام كما هو الحال في المدن القديمة.
وتحت المربع الوسطاني توجد مغارة الحطب، وهي اقرب في شكلها إلى الجَرَّة الصخرية المفلطحة تماما، عنقها طوله حوالي المترين وعرضه حوالي المتر وبارتفاع متر ونصف وهو الذي يشكل المدخل إليها، ثم ينفتح هذا العنق على تجويف كبير واسع في قلب الصخر.كان الأهل يضعون فيها حطب التين والكرمة والشيح بمختلف أنواعه لاستخدامه في التدفئة والطبخ والتنور وسلق القمح وغيرذلك. وفوق مدخل المغارة كانت توجد عِلِّية صغيرة، فيها كل الأدوات التي كان يستخدمها والدي (الفراعة والقزمة والرفش والمَرْ والقدوم والشاقوف والمطارق وبعض الأدوات المستخدمة في نحت الحجر والحبال وبعض الحاجيات الأخرى.
وكان لهذه المغارة البرانية المستخدمة في تخزين الحطب، باب صغير في جدارها الشرقي، ينفذ إلى مغارة أخرى لم نكن ندخل إليها أبداً. وكنا نكتفي بالنظر إلى داخل هذه المغارة الجوانية من الخارج، كان الأهل يحذروننا من الدخول إليها خوفاً من العقارب والأفاعي و ظلمتها الشديدة، وكان يقول لنا والدي أنه حاول مرة الدخول إليها على ضوء السراج، فرأى في داخل جدرانها الصخرية فراغات مستطيلة منحوتة بشكل(كَتَابي أو كتْبيات) تستخدم لوضع الحاجيات المنزلية ولكنه لم يصل إلى نهايات هذه المغارة . فيبدو أنها كهفاً من الكهوف الحجرية التي كانت تستخدم للسكن الإنساني في العصور الغابرة، وحول نهاياتها كنا نسمع حولها من الأهل والجيران حكايا وأساطير، مثلما يحاك دائماً حول المغائر والكهوف في كل مكان. بعضهم كان يعتقد أن مغارتنا الجوانية هذه تتصل بالمغائر الموجودة تحت دير السيدة الكبير، وكذلك بالمغاور الموجودة تحت كنيسة مار يوحنا المعمدان القديمة، التي تقع شمالي بيتنا في منطقة القلعة على بعد حوالي 300 متر. ويقال أيضاً أنها تتصل بمغارة (بيت زلفا) الكبيرة الموجودة تحت منزل بيت عمنا يوسف نمر الزهر، التي نخاف أن نمر من أمامها ليلاً حين كنا أطفالاً صغاراً.
في بلدة صيدنايا القديمة، وقبل الاجتياح الأسمنتي، كان يندر أن يخلو منزل من منازلها من كهفٍ أو كهفين تحته، ويبدو أن البلدة القديمة تتألف من طبقتين، طبقة سفلية من الكهوف الصخرية التي يبدو أنها كانت تستخدم للسكن في العصور القديمة، وطبقة علوية بناها سكان القرية فيما بعد.
وحول حكايا الكهوف، ففي عام 1964 ذهبت أنا وصديقي وزميلي الصيدلي عادل معلوف إلى بلدة صلخد الواقعة في جنوب سورية بالقرب من الحدود الأردنية، في زيارة لصديقنا المشترك الأستاذ غسان جنيدي الذي كان حينذاك يعمل قاضياً في محكمة صلح صلخد، واصطحبنا في تلك الزيارة إلى قلعتها القديمة، التي رأينا فيها مغارة يقول عنها أهل البلدة أنها تتصل بقلعة بصرى، وقد سمعنا منهم أن أحد المهتمين الفرنسيين حاول في أيام الانتداب الفرنسي كشف أغوارها ولكنه انكفأ راجعا خوفا على حياته. في الواقع لا تخلو قرية أو بلدة أو مدينة من حكايا المغر والكهوف، والإنسان بطبيعته لا يكتفي بما يرى بل يهتم كثيراً بما لا يراه وبما يجهله عموماًً.

-2-
بدأ والدي ووالدتي بعد عودتنا من دمشق إلى البلدة، يجريان بعض التغييرات بين فترة وأخرى على المعالم الداخلية للمُرَّبع الوسطاني الذي تعيش فيه عائلتنا. وكانت أولى هذه التغييرات بناء جدار داخله لقطعه إلى قسمين، قسم أكبر وهو للمعيشة وقسم أصغر ليكون مخزناً للمؤونة. وقد بنى لنا هذا الجدار معماري من أقارب والدي يدعى عبدالله مرزوق الزهر(أبو يوسف). هذا البنَّاء، لم أشاهده غير تلك المرة بقامته المربوعة وحطته السوداء المثبتة على رأسه بعقال أسود. كان قليل الكلام، فما أن وصل صباحاً وبعد أن شرب القهوة، حتى قام لينصب الخيط من كتف باب مغارة الحطب إلى كتف باب الغرفة المؤدي إلى (حوش) الدار، ولما انتهى من القياس والحفر قليلاً مكان الجدار الذي ينوي بناؤه، حتى بدأ يتناول من والدي الطين والأحجار التي كانت مهيأة في الحوش؛ وبعد أن يتناول الحجر ويضعه في مكانه، يمرر عليه شاقوله وجهاز الزئبق، وهكذا راح يرتفع مدماك فوق مدماك إلى أن وصل الجدار إلى السقف في عصر ذلك اليوم.
وهكذا فقد اختفى باب المغارة الذي كان يشوه الغرفة وأصبح في آخر المخزن المتشكل بعد اكتمال بناء الجدار. مدت أمي سفرة الغداء التي كانت منهمكة بتهيئتها منذ الصباح، وكانت علائم السرور واضحة على محياها، فقد حدث تطور هائل إذ أصبح لديها غرفة للمعيشة ومخزن للمؤونة. وفي اليوم التالي شرعت في تطيينه ومن ثم تبييضه بالبياض(الحوَّار) ليكون منسجماً مع باقي جدران الغرفة.
مات هذا البناء عبدالله مرزوق الزهر بعد فترة قصيرةً. وبعد حوالي نصف قرن على هذه الحادثة، بعد خروجي من سجن عدرا في 14 تشرين الاول عام 1994، سمعت من ابن عم والدي الذي كنت أتردد إليه كلما ذهبت إلى البلدة، شحاذه يوسف نمر الزهر، حكاية عن هذا البنَّاء الحاذق أبي يوسف، يقول فيها أبو خالد: " حينما راح يتراجع عصر العربيات التي كانت تجرها الأحصنة، وبدأ يزداد عدد السيارات الآتية لزيارة الدير الكبير في صيدنايا(في مطلع الثلاثينات من هذا القرن)، وصار من الضروري بناء جدار استنادي عند المنعطف الحاد بالقرب من مغارة الأصنام (المحفورة داخل الصخر والواقعة تحت الدير تماماً من الناحية الشرقية)، لدعم وحمل الطريق التي ستسير عليها السيارات القادمة إلى ساحة الدير التي أخذ يزداد عددها يوما بعد يوم. ولقد جرى أكثر من محاولة لبناء هذا الجدار الاستنادي ولكن سرعان ما كان يتشقق ويصبح آيلاً للانهيار، إلى أن جاء أبو يوسف، وبعد أن نظر ملياً في الموقع تعهد ببنائه. وبتجربته وحساباته الخاصة، بدأ يرتفع الجدار الشاهق حتى اكتمل تماماً. ولا تزال السيارات بكافة أنواعها تسير على الطريق المستندة إلى هذا الجدار منذ حوالي سبعين عاماً، وهو لا يزال حتى الآن متيناً ومتماسكاً ومثلما يقول المثل، عين الله عليه". ثم قال أبوخالد في نهاية حديثه عن هذا المعماري: في الحقيقة يا نقولا، ربما كان في صيدنايا بناؤون أشطرمن عبداله مرزوق من الناحية الجمالية، مثل البنائين المشهورين زكي لطفي ونقولا (زهر) سعادة وكايد عازر، لكن إذا أردنا أن ننصفه فجارنا وابن عمنا أبو يوسف هو أقرب إلى المهندس المدني من المهندس المعماري".
لم تمض فترة قصيرة على بناء الجدار القاطع للمربع الوسطاني، حتى بدأ والديَّ بهدم الموقد الموجود في الزاوية الشمالية الشرقية من الغرفة وإعادة بنائه في الزاوية الجنوبية الغربية، وذلك حتى لا يكون مقابل الباب تماماً، ولزيادة تدفئة الغرفة وتحسين مظهرها. ونقلت الخزانة من الزاوية الشمالية الغربية إلى المكان القديم للموقد مقابل الباب. ويغطي الموقد (الوجاق) الواسع الذي ينتهي برف نصف دائري وبعد الرف تبدأ المدخنة تضيق بالتدريج حتى تصل إلى السقف وتخرج منه. وعلى رف الموقد نصف الدائري وفي وسطه بالضبط كان يوضع مصباح الكاز الذي ينير الغرفة، وكانت تمسح والدتي زجاجته كل صباح من الشحار الأسود. وعملية مسح زجاجة المصباح في صيدنايا كانت تعتبر من الدلالات الرئيسية على نظافة ست المنزل وبناتها ورونقهن وحسن ترتيبهن، وبطبيعة الحال كانت هذه الناحية تشكل علامة سلباً أو إيجاباً في رصيد سمعة الفتيات المرشحات للزواج.
أما المربع التحتاني فكانت تسكن فيه جدتي مريم وعمتي تقلا وكان يوجد فيه (النول اليدوي) الذي كان ينسج عليه جدي أسعد ومن ثم والدي الذي ورث منه هذه المهنة الجميلة التي لا أنساها أبداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو تعزيزات أمنية مكثفة في كاليدونيا الجديدة • MCD


.. المغرب: حملة -تزوجني بدون مهر-.. ما حقيقتها؟ • فرانس 24 / FR




.. كأس أمم أوروبا 2024: ديشان يعلن تشكيلة المنتخب الفرنسي.. ما


.. هل تكسر واشنطن هيمنة الصين بالطاقة النظيفة؟




.. سكان قطاع غزة يعانون انعدام الخيام والمواد الغذائية بعد نزوح