الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرح الغياب .. قراءة في كزهر اللوز أو أبعد ل .. محمود درويش

محمد سمير عبد السلام

2008 / 8 / 24
الادب والفن


للغياب حياة خاصة في كتابات محمود درويش ، فهو منبع إبداعي للصور ، و الحكايات ، و الصوت الداخلي للذات ، إنه يبعث آثار الأنا ، و المكان ، و الوعي بالعالم في مشهد كوني متجدد لا نهاية له .
الغياب عند درويش مرح لا يهتم بالنهايات ؛ لأنه يناهضها ، فدائما ما يترك مساحة فارغة للنشوء المتجدد للصور المبدعة ، و كأنه يذكرنا بزيف فكرة النهاية الحاسمة ، و من ثم فإن صوت درويش سيظل ممتدا في مرح الغياب ، و علاماته النصية – التاريخية ، و أطيافه الفاعلة داخل القصيدة ، و خارجها ؛ تلك الأطياف التي تحمل أثر درويش ، و إدراكه المبدع لقوة الغياب ، و احتفالياته الموسيقية ، و التصويرية ، و الكونية المتنوعة ، و المتداخلة ، و المضادة للحدود .
إن المتكلم في ديوان محمود درويش " كزهر اللوز أو أبعد " يكتشف الطاقة الإبداعية الكامنة في مدلول الغياب ، و هي ثراؤه اللانهائي بالصور ، و التكوينات المختلطة المتحررة من القيود ، و الحدود ، و من ثم كان الغياب فضاء حرا للصور و الأماكن ، و الأخيلة ؛ فهي تمارس فيه تحققها الذاتي / الجمالي ، ثم نراه يمارس نوعا من الذوبان في هذا الوهج الذي تولد للتو عن الغياب ، و قد تحققت حياته الجديدة بما فيها من صخب ، و لذة ، و وهج .
في نص " أحب الخريف ، و ظل المعاني " يتجسد دال الخريف في منطقة غائمة ملتبسة ، يبدأ منها الإبداع في تشكيل عوالمه الفريدة انطلاقا من زوال الحدود ، و التصنيفات .
الخريف هنا مبدأ لإدراك العالم ، و الانحياز لحركيته الإنتاجية الخفية ؛ ففيه الكتابة ، و الحياة ، و الموت ، و إعادة تسمية الأشياء .
الخريف قوة النشوء الكامنة في الغياب ، و قد كشف درويش عن تداعياته ، و مساحاته الفارغة الثرية بالأخيلة .
يقول :
" أحب الخريف و ظل المعاني / و يعجبني في الخريف غموض خفيف شفيف المناديل / كالشعر غب ولادته إذ يزغلله / وهج الليل أو عتمة الضوء / يحبو و لا يجد الاسم للشيء " .
الخريف هنا رؤية للوجود ، توشك أن تبدأ في إعادة كتابته دون أسماء ، أو تكوينات حاسمة ، إنه لذة البدايات الأخرى في سياق الغياب ، و النهايات المتوهجة بحياة جديدة .
إن القصيدة تضع أسئلة الوجود ، و الحياة في الخريف الذي يتحدى النهايات في مدلوله الخاص ؛ و من ثم يكتسب الليل وهجا ، و الضوء عتمة و يظل الغياب معلقا لا يكتمل أبدا ؛ لأنه منتج لحياة خفية ملتبسة بالحضور .
و الموت مثل الخريف ، أو هو تأويل له ملتبس بفرح الحياة ، و ديناميكيتها السردية ، فالجانب السردي عند محمود درويش يؤكد فاعلية الغياب من جهة ، كما يعيد تمثيل الموت كحياة متجددة تقاوم مدلول المحو من جهة ثانية .
يقول :
" في مثل هذا الخريف تقاطع موكب عرس لنا مع إحدى الجارات / فاحتفل الحي بالميت ، و الميت بالحي " .
المكان يذوب في أطياف المشهد المجازية ، و الأسطورية ، فالبشر إيحاءات مجردة ينتجها الجانب الإبداعي في المكان ، و هكذا يقبض درويش على الإيحاءات المتجددة ، و على ما تخلفه من فراغ نرى فيه الحياة ، و الموت في حالتي صخب ، و فرح .
و قد تمتزج الذات اللاواعية التي نراها في كتابات فرويد ، و كارل يونج بالأسطورة ، و حلم اليقظة ، مما يعزز من فكرة الاتساع ، و الذوبان في قوة الغياب الكونية التي تشبه الخريف أيضا .
يقول :
" يعجبني أن أرى ملكا ينحني لاستعادة لؤلؤة التاج من سمك في البحيرة " .
هل هي استعادة للذات الأسطورية الكامنة في اللاوعي الجمعي ؟ أم أنه ذوبان في المادة الكونية ذات الإيحاءات الأنثوية المؤجلة ؟
الخريف انتظار للحياة .
هل كان درويش يقع في تلك الهدنة ؟ في انتظار حياة مرحة يولدها الغياب ؟
الخريف فراغ للأخيلة الصاخبة القادمة ، الحاملة لكل أطياف الحكايات ، و الأشعار ، و المعارك ، و الأساطير ، إنه انتظار للحياة يستشرفها وراء الغياب ، و القصيدة ، و الحياة نفسها .
الخريف عند درويش حياة ما بعد الحياة ، الصوت المؤجل للقصيدة ، و المعركة .
يقول عنه :
" يعجبني أنه هدنة بين جيشين ينتظران / المباراة ما بين شاعرتين تحبان فصل الخريف / و تختلفان على وجه الاستعارة / و يعجبني في الخريف التواطؤ بين الرؤى و العبارة " .
تتراوح الدوال بين التحقق ، و الانتظار ، و الانقسام ، و كأن ثمة ما هو قادم من عتمة الغياب ، و جمالياته التي لا يمكن القبض عليها رغم حضورها الاستعاري المتكرر في النص .
و يتوحد المتكلم بالطيف ليحقق حياة ما بعد الغياب في نص " مقهى ، و أنت مع الجريدة " ؛ فقد تحول إلى وعي مرح طليق خارج الحدود ، و القيود الجسدية الظاهرة ، و لكنه يملك جسدا قيد التشكل ، و النشوء المستمر الذي يشبه الحياة ، و يتحداها .. يشبه الحياة ، و يتجاوزها .. يشبه الحياة في ولادة جديدة خارج العالم بكل ما فيه من قوى ، و صراعات .. هل استشرف درويش هذه الحياة ؟ هل حققها الآن ؟
يقول :
" و من خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين / و لا ترى / إحدى صفات الغيب تلك ترى ، و لا ترى .. فاصنع بنفسك ما تشاء / اخلع قميصك أو حذاءك إن أردت / فأنت منسي و حر في خيالك / ليس لاسمك أو لوجهك ها هنا عمل ضروري / تكون كما تكون " .
لقد اندمج الصوت الشخصي ، بالصوت الكوني اللاشخصي ، فالوعي يعاين التحول ، و الكينونة الجديدة ، في ولاداتها الأخرى ، و سياقاتها المنتظرة خارج الحدود القديمة رغم أنها تحمل الصوت القديم نفسه ، و قد تخلى عن قيوده لأجل الحرية .
و تظل حالة السكون التي تشبه النرفانا مسيطرة على المتكلم ؛ فهي شرط الذوبان في شعر ما بعد الموت ، و ما بعد الحالة الإنسانية .
يقول :
" مقهى ، و أنت مع الجريدة جالس / في الركن منسيا / فلا أحد يهين مزاجك الصافي / و لا أحد يفكر باغتيالك / كم أنت منسي و حر في خيالك " .
هل هي لذة الوعي حين يلتحم بالمشهد في حالة غياب ؟ أم أنها قصيدة المشهد التي تحرفه في سياق حر يشبه براءة الامتلاك الأولى للعالم ؟
إن الفراغ عند محمود درويش فضاء لاختلاط الانفعالات ، و الصور ، بحالات التجسد المؤقتة التي تسمح لنفسها بالظهور ، و العودة في أشكال جديدة . يبدو هذا واضحا في نص " فراغ فسيح " .
يقول :
" أفق مهمل كالحكايا الكبيرة / أرض مجعدة الوجه / صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل زيتونة يابس / عرق في الحجارة / شمس عمودية / لا حياة و لا موت حول المكان " .
إنه يعلق المكان في تجسدات مؤقتة ، ليؤكد أن المكان يتجدد حين تعانق المادة أخيلة القصيدة ، هل هو المكان ؟ أم أنه قصيدة المكان التي هي مستقبل المكان ، و أصله الغائب ؟
تسير القصيدة في هذا الاتجاه الذي تجف فيه الحدود ، و المطلقات ، و الحكايات الكبيرة ، بينما يبرز الإبداع في المشهد كصورة رمادية تعلق المكان ، و تحدثه مرة أخرى في نصيته الأولى .
و يجرد درويش الأخيلة الأنثوية من أي حدود ، أو تعريفات ، في نص " الجميلات هن الجميلات " ؛ فهو يستعيد التناقضات الأنثوية الممزوجة بالوحشية ، و السكون في آن من اللاوعي .
المرأة في هذه القصيدة تزدوج بانطباعات المتكلم ، و أخيلته التي تجمع الصفات ، و الأطياف المتضادة . إنها تؤول أخيلة الأنوثة دون أن تحاول القبض عليها ، أو تحديدها .
إن الإجابات المجازية التي يقدمها النص عن الجميلات ، تمزجهن بإيحاءات ذاتية ، و كونية ، و أسطورية ، مثل تجدد الحياة في الربيع ، و الإلهام الإبداعي ، و اليأس المضيء ، و القوة التي تشبه الذكورة ، و الأغاني ، و المرح ثم القتل .
يقول :
" الجميلات هن الجميلات / نقش الكمنجات في الخاصرة / الجميلات هن الضعيفات / عرش طفيف بلا ذاكرة / الجميلات هن القويات / يأس يضيء و لا يحترق .. الجميلات هن الكبيرات / مانجو مقشر و نبيذ معتق / .. الجميلات كل الجميلات أنت / إذا ما اجتمعن ليخترن لي أنبل القاتلات " .
هل كانت المرأة معبرا للغياب عند درويش ؟
هل كانت مشبعة بسياق الأحلام ، و الإيحاءات التي بحث عنها وراء الذات ، و المكان ؟
لقد انفرطت دوال الأنوثة في القصيدة ، و تركت لنا هذا الفراغ المرح الصاخب الذي يؤكد حب محمود درويش للحياة الكامنة في الغياب .
محمد سمير عبد السلام – مصر









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع