الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أغنية - الكليب - وحقوق الإنسان

ناجح شاهين

2004 / 2 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


ليس أشق على النفس من تذكر مأساة الإنسان في هذا الزمان المليء بكل المشهيات المغرية التي توحي بأننا وصلنا برج السعادة التامة، أو أننا قاب قوسين أو أدنى من مدينة أفلاطون. لكن هيهات، فليس أضيع من الإنسانية على مآدب هذا العصر العولمي.
ربما أن علينا أن نستعيد أرسطو: الإنسان حيوان متعقل. وبالعودة إلى تقاليد أرسطو، فإن ذلك ربما يعني على وجه الدقة قدرة الإنسان على التفكير التجريدي المتماسك والمتجاوز بالضرورة لمستوى الحس المباشر. ربما أن الحسية المباشرة هي مستوى ما قبل الإنسانية بكثير. أحياناً يمكن لنا أن نتخيل أن الشمبانزي نفسه يعلو مستوى الحس الحيواني الأولي. مثلاً عندما يغازل فإنه يتقدم بشيء من الموز " لحبيبته " فإن أخذته وأكلته فهو عنوان الحب والرضا والقبول ,وإلا فإنه يتركها . إن درجة من العقل واحترام قرار " الآخر " وحريته هي محتوى سلوك الشمبانزي إذا شئنا استعارة لغة البشر أبناء جنسنا المساكين.
ماذا يحدث إذا سلبنا الكائن الإنساني القدرة على التفكير الحر، والاختيار المبني على العقل لا الغريزة؟ الإجابة طبعاً ودون مواربة هي: الإنسان ينتفي فعلاً، وإن بقي هناك كائن منتصب القامة وقادر على الكلام. فالكلام العاقل هو المعيار وليس أي كلام. يجب أن نسجل مرة بعد مرة أن البشرية تظهر فقط عندما تتراجع الأسطورة عن التحكم بالموقف لمصلحة الاختيار العقلاني. وحيثما توجه الغرائز المسيرة لا يوجد إنسان، مهما بدا أن التفاصيل مثيرة وجميلة. لنتذكر مثلاً أن النحل يمتاز بالنظافة والنظام الشديدين، لكنه لا يستطيع إلا ذلك. أما الإنسان فإنه قادر على أن يكون نظيفاً أو لا يكون. إن بإمكاني أن أترك فنجان القهوة يجف ويصبح تنظيفه مما علق به من بقايا البن عملية شاقة، لكن بإمكاني تنظيفه أولا، أما النحل فلا يستطيع إلا أن يبعد عود الثقاب الملقى داخل الخلية فوراً ودون أدنى تأخير لأنه ببساطة عبد للغريزة، أما نحن فلسنا كذلك.
لكن إذا أخذنا هذه المقاييس شروطاً لبزوغ الإنسانية الحقة فهل نستطيع الزعم بأن عصرنا هو خير العصور؟ الحق أن حرية الإنسان الداخلية اليوم هي  في أسوأ أوضاعها. وبغض النظر عن مزاعم الليبرالية واللبرالية الجديدة بحريات الرأسمالية وطبعتها المعولمة، فإنها في الواقع حرية دستورية شكلية لا علاقة لها باستعباد الإنسان من قبل قوانين السوق ووسائل الإعلام الجمعي التي تسلب قدرته الأهم على أن يكون ما هو: كائناً مفكراً وعاقلاً. وانطلاقاً من ذلك، يصعب القول أن البشر اليوم أحرار أكثر مما كانوا أيام الإغريق أو أيام الحضارة العربية الكلاسيكية.
حضرني هذا كله وأنا أستمع للمبدعة ماجدة الرومي وهي تبكي تقريباً جمهوراً غير قادر على الاستماع إلى الأغنية. وقد لاحظت ماجدة بكل اقتدار ودقة أن الأغنية التي تبث على مدار الساعة عبر سيل الفضائيات الذي لا ينقطع هي في الواقع أغنية تشاهد ولا تسمع. إذ أنها تخلو من الكلمات ومن الموسيقى ومن الصوت، ولكنها تمتلئ بالغنج والنساء المثيرات جنسياً والشبان الوسيمين. في الأغنية كل شيء ما عدا الأغنية؛ فيها كل مظاهر الاستهلاك العولمي: ملابس وسيارات ومطاعم ورقص وعطور ومكياج ومأكولات. دعوات لا تنتهي للاستهلاك بكافة أشكاله. وغني عن البيان أن الأغنية الراهنة تتمتع بإيقاع غربي أو بلدي بسيط ويتلاءم مع الرقص ومع الإثارة، وهذا هو كل ما هنالك. لكن ذلك ليس من فن الأغنية في شيء. وأود أن أؤكد أنه عملاً بقواعد السوق يمكن لنا أن نقول " إن الجمهور عايز كده ". لكن تدمير ذوق الناس مع التذرع بأن هذه رغبته هي أمر غير جائز فيما نزعم. ونظن ذلك اعتداء على واحد من أهم حقوق الإنسان، وذلك حقه في أن يكون إنساناً، إذ بعد سحب سمة العقل من الإنسان واللعب على غرائزه، ماذا بقي من فائدة في الكلام على الحريات بما فيها حرية الاختيار عبر مؤثرات السوق ومغرياتها الهائلة؟
وإذا جاز لأحد أن يقول أن الكبار هم أحرار في مواجهة آليات السوق الضخمة، فإن الصغار بالطبع لا يمكن أن يكونوا أحراراً في ذلك. وإنني حقاً أود أن أتساءل: كم فرصة الطفل والمراهق وحتى الشاب والكبير على الاستماع لفيروز عبر الفضائيات؟ وما هي فرصتهم في الاستماع لماجدة الرومي التي تهتف للخير اللي كان. ولكن هل يمتلك العربي المعاصر طفلاً أو راشداً أي خيار لاكتشاف وجود مارسيل خليفة أو ظاهرة الشيخ إمام. وهل هناك من طريقة للاصطدام برقصة سالومي أو بحيرة البجع أو ضربات القدر ؟ الإجابة طبعاً لا تحتاج إلى أي إضاءة. ونحن ندرك كم هو هامش الحريات الليبرالية ضيق عند التساؤل عن الفن الجاد الملتزم أو حتى الفن الغربي الراقي الذي لا تحظره الرقابة من حيث المبدأ لكنه محظور في الممارسة الفعلية.
إن من حق الإنسان وهذا بعض ما يخبرنا به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن يتلقى تعليماً وتربية تسهم في نموه من كافة النواحي وتطور قدراته العقلية وقدرته على تذوق الحياة والجمال والأخلاق .الخ وإن من الواجب حماية الأطفال مما يفسد احتمالات نموهم السوي كائنات إنسانية عاقلة وخيرة ومبدعة وذواقة. لكن علينا أن ندين دون هوادة انطلاقاً من هذه المبادئ ذلك السيل المجنون من الفضائيات ووسائط الإعلام الجمعي التي تقوم بكل ما يجب لتحويل الإنسان " روبوت " شهواني مسيراً وعبداً لشهواته وغير قادر مطلقاً على مواجهة جاذبية المعروض في السوق مهما كان نوع السلعة أو اسمها أو مستواها. إنه تدمير منظم لإنسانية البشر من أجل مصلحة الاستهلاك. وهكذا يتضح لنا ربما مثلما كان قد اتضح لرجال مثل ماركس منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً أن الرأسمال يصنم الاستهلاك مضحياً بالإنسان في مصلحة تحقيق الربح. وواضح أن ذلك لا يحدث بالعرض، وإنما هو مرافق ضروري إذا جاز القول للرأسمالية: فالربح هو سيد الموقف، ولذلك فإن كل القيم يمكن التضحية بها على ذلك المذبح وحتى لو كان ذلك إنسانية البشر ذاتها حيث يتحولون إلى أدوات طيعة لا نواة لها ولا قدرة على  التفكير والاختيار. إن مواجهة ذلك تتطلب على رأي الجملية ماجدة الرومي اصطفافاً واسعاً لكل القادرين على مواصلة الحلم الإنساني والهتاف باسم الإنسان وحقوقه في زمن الماكينة العولمية الصماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل مؤلمة! | نادين الراسي


.. قصف عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت • فرانس 24 / FRANCE 24




.. نحو عشرة ملايين تونسي مدعوون للتصويت في انتخابات رئاسية تبدو


.. تساؤلات عن مصير قاآني.. هل قتل قائد فيلق القدس التابع للحرس




.. بتقنية -تايم لابس-.. توثيق لضربات إسرائيلية عنيفة على بيروت