الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعقيبا على -الاتجاه المعاكس-: المثقف الذي يقبل رشاوى الأنظمة أسوأ من الغواني!

باتر محمد علي وردم

2004 / 2 / 7
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


بالرغم من أهمية فضيحة كوبونات النفط التي وزعها نظام صدام على مريديه من المثقفين والإعلاميين كأحد أنواع الرشوة وشراء الذمم وقيام قناة الجزيرة بتخصيص برنامج الاتجاه المعاكس لمناقشتها فقد فشل مقدم البرنامج فيصل القاسم في انتقاء الأشخاص المناسبين للحوار في هذه المسألة فتحولت الحلقة الأخيرة إلى نوع من التهريج والصراخ الفارغ بدون اي مضمون. فالصحافي المصري سيد نصار ظهر أشبه بالمهرجين في حديثه وأثبت قدرا كبيرا من الجهل والضحالة بينما لم يكن الشاعر العراقي علي الشلاة موفقا في مناقشة مسألة الرشاوى وأصبح كل حديثه منصبا على الدفاع عن مجلس الحكم وتوجيه الاتهامات والابتعاد عن الموضوع الأساسي.
والبرنامج كان على كل حال شبيها بنمط الحوار الدائر حاليا في المجتمع الثقافي والإعلامي العربي حول هذه الفضيحة، والقدرة الهائلة للمرتشين من نظام صدام على اختراع مبررات وحجج لا تنتهي ومنها قانونية هذه المعاملات ضمن إطار الأمم المتحدة، ولكن الجميع يتناسى أن المسألة في الأساس هي مسألة أخلاقية أكثر من كونها سياسية وقانونية.
من الناحية القانونية يمكن النقاش طويلا حول مدى شرعية هذه العقود ما دامت غير سرية وضمن إطار برنامج الغذاء والدواء، وقد استخدم الكثير من الأشخاص الذين وردت اسماؤهم في القائمة هذه الحجة لتبرئة أنفسهم وأن العملية تمت ضمن سجلات ومراقبة الأمم المتحدة.
البعد السياسي موجود في المسألة ولكنه ليس جوهريا ايضا. ومن المثير للضحك في الواقع أن نقرأ، كما أفاد أحد المثقفين الأردنيين الذي ذكر إسمه في القائمة بأن نشر القائمة هو لانقاذ بوش وبلير من ورطة سياسية يعيشان بها وبالتالي تم اختيار هذه الأسماء نظرا لمواقفها القومية، ولكن لماذا هؤلاء فقط دونا عن عشرات الآلاف من "القوميين" الآخرين؟ وهل لم يجد بلير وبوش من ينقذهما من الورطة إلا انتقاء فلان وعلان من المثقفين العرب؟ هذا رد سخيف لا يقنع أحدا ويضر بصاحبه في نهاية الأمر.
المسألة ببساطة هي مسألة أخلاقية، وتتلخص بالخطأ الذي يرتكبه سياسيون ومثقفون يمثلون رموزا سياسية وثقافية بالدخول في عمليات تجارية مع نظام حكم، يدافعون سياسيا عن مواقفه الإجرامية وخاصة إضطهاده لشعبه وارتكاب جرائم ضد هذا الشعب. ان الشخص الذي يتطور ليصبح مثقفا وسياسيا ورمزا شعبيا في بعض الحالات ويؤثر بأقواله وكتاباته على آراء عشرات الآلاف من الناس يعلم تماما بأن هناك مسؤولية أخلاقية كبيرة على أكتافه، وعليه أن يكون مختلفا عن الآخرين ولا يمكن القبول بالدمج ما بين الثقافة والتجارة بالنسبة لرموز العمل السياسي والثقافي الشعبي لأن ذلك يعني خداع الناس واستخدام الرشاوى للترويج لأنظمة حكم قمعية.
وإذا كان من حق النظام العراقي السابق، كما يقول بعض القوميين أن يتعامل فقط مع اصدقائه ومؤيديه في الأمور التجارية، فهل هذا يعني أنه من حق اية وزارة أو مؤسسة عامة عربية أن تتعامل فقط مع "اصدقائها" في التعيينات والعطاءات والمكافآت المالية وغيرها، أليس هذا هو بالضبط جوهر الفساد الذي نرفضه جميعا؟  وما هو الفرق إذا بين صاحب شركة يحصل على عطاءات بسبب صداقته مع الوزير وسياسي يستفيد ماليا من علاقته مع نظام حاكم ورئيس دولة بل ما هو الفرق بين نظام صدام الذي يتعامل مع "اصدقائه" من القوميين وما بين الاحتلال الأميركي الذي يتعامل فقط مع الشركات الأميركية في عقود نهب موارد العراق تحت إسم "إعادة الإعمار"؟
لا نريد أيضا أن نتحدث كثيرا عن "أخلاقية" تأييد نظام دكتاتوري عذب شعبه وقتل وسجن مئات الآلاف من الأبرياء، فالمثقفين الذين يطالبون بالديمقراطية في الأردن والعالم العربي حاولوا إقناعنا بأن تأييدهم للنظام العراقي هو بسبب "المواقف القومية والوقوف ضد الإمبريالية الأميركية"، ولكن انكشاف العلاقات التجارية يدمر تماما مصداقية هذا الموقف ولا تنفع في ذلك التبريرات الإجرائية حول قانونية وشرعية هذه التعاملات!
البعض حاول استخدام حجة أن كشف هذه القائمة تم تحت الاحتلال الأميركي وأنها لخدمة هذا الاحتلال وعملائه، ولكن حتى لو قام كبير اللصوص بكمشف أوراق اللصوص الآخرين فهل هذا يعني تبرئة اللصوص من تهمة الارتزاق والرشوة السياسية والثقافية، بالطبع لا
البعض حاول فتح ملفات أخرى ومنها أن الفساد لا يقتصر على صدام وحاشيته بل على كل الأنظمة العربية وخاصة الخليجية. وهذا صحيح ولكنه ايضا لا يبرئ مرتزقة صدام من جريمتهم الأخلاقية. كما أن الأنظمة العربية الخليجية قد وفرت لمواطنيها على الأقل قدرا من الرفاهية والتنمية والتحديث ومن ثم بقي لديها فائض مالي وزعته على الصحافيين المرتزقة لتشتري صمتهم وتأييدهم، ولكن النظام العراقي السابق دمر حياة شعيه وقتل وروع وأقام المقابر الجماعية وترك شعبه في الجوع والمرض ووزع الثروات على المرتزقة الذين كانوا يحققون مكاسبهم الخاصة على حساب آلام الشعب العراقي، وهذه جريمة أخلاقية لا تغتفر.
البعض أيضا اعتبر أن توزيع الأموال على الصحافيين والمثقفين أفضل من إضاعتها على الغواني في أوروبا كما يفعل بعض العرب الأثرياء، ولكن هذا غير صحيح  ايضا لأن الغانية تقدم خدمات خاصة مقابل هذه الأموال ضمن "طبيعة عملها" ولكن المثقف المرتزق يبيع موقفه السياسي والثقافي بالمال ويؤجر قلمه لتأييد الجرائم وخداع الناس وايذائهم، فالغانية أكثر شرفا وأخلاقا من المثقف المرتزق لأنها لا تخدع الناس ولا تؤيد القمع والكذب.
نتمنى أن يكون هذا الموقف حالة دراسية هامة للرموز السياسية والثقافية الشعبية العربية في التمسك التام بالطهارة السياسية وعدم الموافقة على الدخول في اية تعاملات تجارية تشوه مصداقية العمل السياسي أو القبول برشاوى وأعطيات من الأنظمة العربية، وهي كما يجب أن نؤكد دائما مسألة إخلاقية لا سياسية ولا قانونية، لأن المصداقية الأخلاقية والسياسية هي الرأسمال الحقيقي لأي مثقف ومن يريد أن يكون مثقفا محترما فيجب ألا يقبل التعاملات التجارية وإلا عليه أن يتوقف عن تعاطي الثقافة والسياسة ويكتفي بكونه رجل أعمال أو صاحب مهنة تقتضي ملاحقة المصالح التجارية.  








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-