الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وما الوطنية: البشير وموغابي

مجدي الجزولي

2008 / 8 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


منذ عهد التحرير وافريقيا تختبر المعادلات السياسية لتمييز الدولة وبناءها، ما عرف في الأدب السياسي بمهمة (البناء الوطني)، مهمة تدهورت تحت وطأة الاستعمار الجديد مزدوجا وسلطات البرجوازيات الوكيلة إلى (تشييد الدولة) وليا على المواطنين والوطن، كما الأب القاهر ولي على أطفاله ودارهم. حل هذه العقدة في عهد التحرر كان تميمة الكومنترن جذب الديموقراطيين إلى مواقع الماركسية اللينينية، كونها النجاة الموعودة من ضرر الاستعمار ولازمة الانضمام إلى حرية المعسكر الاشتراكي.
سبق إلى التحذير من هذا التدهور الدرامي مفسر الثورات الافريقية فرانتز فانون، الذي جرح كتابه (المعذبون في الأرض، 1965) عميقا وجهرا في ضمير التحضر الأوروبي، بما في ذلك اليسار المتقدم، كما خرب على المحررين فرحتهم الأولى بالتشديد على سوءات البرجوازية الصغيرة ودورانها اللازم في فلك الاستعمار، حتى وهي ترفع العلم وتنشد ألحان الاستقلال. اليوم، وقد أعاد التاريخ دورة الامبريالية السابقة بامبراطورية العهد الجديد، حيث العالم كله، بما في ذلك شعوبه المضطهده وبروليتاريا الدول المتقدمة مواضيع للاستغلال من مركز كوني لا تحده الجغرافية، متدثر بعقائد التنمية الليبرالية، تعود بوصلة الفكر التحرري إلى رؤى فانون كما تعود إلى شبح (البيان الشيوعي) لصاحبيه ماركس وانجلز، لكن بشرط المنهج لا بعقيدة التكرار.
لعل حوادث السياسة الافريقية المعاصرة تقدم أمثلة ناضجة لمصائر التحرر عندما تطغى عليه سنن الدولة، وهي كما في عرف لينين آلة للقهر الطبقي وإن اصطبغت بألوان التعدد وتبهرجت بلباس الوطنية. في هذا الأتون تطلق بندقية الوطنية رصاصها للخلف وقد انقلبت شوكتها التحريرية إلى حربة قهرية في خاصر مواطنين عدموا من حرث الوطن (السياسي) كل اعتبار سوى قابلية القهر والاستغلال، بينما تتفكك عناصر التكوين الوطني المزعوم إلى أعراف وشقائق بين الإثنية والقبيلة والثقافة لا جامع لها إلا قهرها. فبين ثنائية التقاليد المحلية والحداثة المستوردة تختنق كل بادرة للثقافة (القومية) كما عرفها فانون: أفق تحرر من جهتين إذ يتجاوز ركود الرجعية المحلية وهياكل سلطاتها الأبوية كما يقفز فوق الحائط الاستعماري بهيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية. التدهور الذي قصد فانون هو تآخي هذين القطبين على الفساد: أعراف السيطرة التقليدية برموزها وثقلها القومي ونجاعة الاستعمار وسطوته الرأسمالية. أس دعوة فانون إذن السعي إلى إخراج حداثة (وطنية) تتفوق على جذورها المحلية وكذلك على صورتها التاريخية كما تمثلت في صيغة الامبريالية الأوروبية. هذه بدت لمناضل الجزائر الأممي من جزر المارتينيك ثورة تضرب مرة بانجاز الاستقلال وثانية بالانتصار على البرجوازية المحلية.
كتب فانون: "إن آخر معارك المستعمَرين ضد الاستعمار ستكون قتال المستعمَرين ضد بعضهم البعض"، وكأن نبي الثورات هذا رأي أشباح الحروب الأهلية تحلق فوق افريقيا منذها، وقد كان، بل أنكى من ذلك. لم تسلم من نذير فانون حتى جنوب افريقيا التي شهدت من أشكال الصراع ضد الاستعمار أنقاها. في يونيو الماضي انقلب المحررون على خمسة ملايين من المهاجرين الأفارقة بين ظهرانيهم، في تمثل للعنف الفاشي لا يشبه سوى (ليلة الكريستال) لمنظمها آدولف هتلر. أما روبرت موغابي فقد اشتط في قهر الوطن حتى عدم الحجة ليصرخ في وجه معارضيه: "اذهبوا إلى الجحيم"!
يكاد المرء يتعاطف مع موغابي، ليس كرئيس يريد الحكم الأبدي بآلة العنف، ولكن كممثل لجيل من النساء والرجال قدموا التضحيات الجسام لغاية التحرير، وانقلبت حوادث التاريخ ليصبحوا كاريكاتورات مشوهة للاستبداد. فقبل ما لا يزيد على خمسين عام كانت معظم افريقيا وآسيا خرائط تتزيى بشارة الامبراطورية البريطانية، لا حول لها ولا قوة. قاد روبرت غابرييل موغابي، المولود في 1924، معركة التحرير على رأس اتحاد زيمبابوي الوطني الافريقي (زانو) بعقيدة سياسية جمعت عناصر من شيوعية ماو ودعوى الافريقانية، في وحدة نضالية مع اتحاد زيمبابوي الشعبي الافريقي (زابو)، حليف المؤتمر الوطني الافريقي في جنوب افريقيا ومناصر الاتحاد السوفييتي.
في العام 1964 اعتقلت السلطات الاستعمارية موغابي وأودعته سجن ساليسبري عشرة أعوام، نال خلالها بكالوريوس في القانون من جامعة لندن وآخر في الإدارة من جامعة فورت هير بجنوب افريقيا عن طريق التعليم من بعد. خرج موغابي من السجن بطلا وأصبح رئيسا لحزبه بغالبية الأصوات لينشق بفصيل مقاتل عن رفيقه ندابانينغي سيثول ويؤسس جيشا للتحرير انطلق من المناطق الواقعة تحت سيطرة جبهة تحرير موزبيق في الجارة المستعمرة. في حلف مع (زابو) انتهى بحث موغابي عن الحرية بإعلان استقلال زيمبابوي في العام 1980، لكن أي حرية؟ موغابي كاد أن يعيد تجربته في مقاومة الاستعمار بالمقلوب ضد مواطنيه، فكل معارض عند موغابي ذيل للاستعمار ومتآمر والامبريالية عدو للوطن يستحق السحل والإبادة.
مرة أخرى يسعفنا فانون لكن بعلمه كطبيب نفسي مزدوج وفلسفة التحرير، حيث طور أثناء عمله في الجزائر وتونس مبادئ في السيكولوجيا المرضية للاستعمار. عند فانون، العنف الذي يتعرض له المستعمَر، جسديا ونفسيا وثقافيا، ينتهي به إلى تفكيك الشخصية وانعدام الذات. كتب في مؤلفه (نحو الثورة الافريقية، 1964): "إذا كان الطب النفسي هو الوسيلة العلمية لتوطين الإنسان في محيطه وإنقاذه من الغربة فإني أؤكد أن العربي (الجزائري) غريب دائم في وطنه يعيش منعدم الذات على الإطلاق.. إن الأحداث الجارية في الجزائر هي نتاج منطقي للمحاولة الاستعمارية إعدام ذهن شعب". الترياق المضاد لدى فانون هو العنف المضاد، أي الموجه ضد الاستعمار، كان ذلك بالنضال المسلح، أو بالقطيعة.
بذات اللا-تسامح واجه فانون الانقسامات العرقية والقبلية التي يعمل الاستعمار على اتقانها وتأبيدها مؤسسيا بالقانون والإدارة، وتصور أن تصبح الساحة الخائبة للشفاء من العنف الاستعماري، خاصة بانتقال السلطة من يد المستعمِر إلى وكلائه قادة البرجوازية الطفيلية أو كما وصفهم هذا الثوري: "رجال القش والباعة الجوالة للاستعمار". هؤلاء لا يغيرون شيئا في لعنة افريقيا، إذ ينأون عن الاستثمار في إنتاج حوجات الجماهير لصالح إنتاج المواد الخام غرض التصدير إلى الدول المتقدمة، وبذا يحافظون على علاقات الاستعمار الاقتصادية والسياسية لكن بكلفة أقل. كما يتشدقون آيديولوجيا بوصفات قومية ساذجة وصفها فانون بالوطنية الضيقة عديمة المحتوى الإنساني. أليس هذا بالضبط ضجيج موغابي الفج، وحديث القذافي الممجوج وسيل كلام المؤتمر الوطني؟ لنسأل، ماذا تبقى من وعد (الوطنية) في قرى دارفور المحروقة ومعسكرات نازحيها سوى ماعون فج فارغ بلفظ فانون، تصدع لتخرج منه الإثنية والقبيلة بديلا سياسيا عن الوطن والدولة، ولا غرو. لكن إن وجد المرء في سيرة موغابي لمحا لتعاطف مع الشوق القديم، ماذا في جعبة المؤتمر الوطني، الذي لا حرر ولا حدث نفسه بالتحرير. عند شيخ المناضلين الأفارقة نلسون مانديلا المستقبل انتفاضة الاشقياء الثانية، حيث قال عام 2000 في شأن موغابي: على الجماهير اسقاط القادة الذين يغتنون على حساب مواطنيهم؛ كأنه يعيد مقولة فانون في التحرير المزدوج من الاستعمار ومن البرجوازية الطفيلية، بل مقولة ماركس في ضربة الثورة الثانية، وقفزة لينين من فبراير إلى أكتوبر 1917. أو كما قالت زوجة فانون قبل انتحارها بقلب محطم وهي تنظر إلى رصاص الدولة الجزائرية يشق صدور الشباب المتظاهرين عام 1988: يا فرانتز، معذبو الأرض مرة أخرى!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو بين إرضاء حلفائه في الحكومة وقبول -صفقة الهدنة-؟| ال


.. فورين أفارز: لهذه الأسباب، على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار




.. حزب الله يرفض المبادرة الفرنسية و-فصل المسارات- بين غزة ولبن


.. السعودية.. المدينة المنورة تشهد أمطارا غير مسبوقة




.. وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة، مقاربة مشتركة حول غزة