الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نموذج للديمقراطيات الجديدة في العالم / بين تجربتي جنوب أفريقيا والعراق

محمد خضير سلطان

2008 / 8 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


يستند دستور جمهورية جنوب افريقيا (دستور العام 1996) الى فكرة اساسية في هدفيته العامة، وهذه الفكرة الاساسية تشكل الجوهر الاجتماعي للعقد الدستوري بين مجتمع جنوب افريقيا ومؤسساته السياسية، فكرة خالية من العقد والتركيب والتبجح اللفظي التاريخي والسياسي وهي كما جاء في ديباجة الدستور( نحن شعب جنوب افريقيا، نعترف بظلمات ماضينا) ولو كان شعب جنوب افريقيا لم يبدأ بهذه الجملة الاعترافية الصادقة وابدلها ببلاغة لغوية متبجحة ، ترسخ تاريخ وعراقة هذا الشعب المجيد( وهو حقا كذلك) لما كانت هناك ضرورة لكتابة مثل تلك الوثيقة وليس من الضروري بشيء ان يكتب ابناء هذا الشعب او ذاك دستورا ما دام موطنهم مهدا لفجر الانسانية وبدء الاسطورة.
ويدرك الجنوب افريقيين، ان العقد الاجتماعي سمة من سمات العصر الحديث، تستدعي معالجة القضايا المرحلية( خدمات، صحة، تسوية نزاعات، تعليم....الخ) مباشرة وليس هو استعادات لامجاد قديمة مكثفة في اسلوب ولغة النص الدستوري وربط لقطائع وفجوات من الماضي في سياق عام ابعد من التعامل الواقعي مع الوقائع والمجريات الحديثة، اية سمة العالم الحديث، ولن يغيب عن ذهن القارىء الكريم بان هذه السطور لاتخفي مقارنة ضمنية لدستور جنوب افريقيا1996 مع دستور العراق 2005،ولعل المقارنة الضمنية ممكنة ومستحيلة معا، ممكنة اذا اتفقنا على عدد من القواسم الانسانية والجغرافية والسياسية بين العراق وجنوب افريقيا ومستحيلة اذا ما قلنا ان الجزء الاخر من افريقيا القريب من المحيط الاطلسي، يختلف عن الجزء البعيد من آسيا، القريب من اوروبا في انعكاس التحولات الجارية في العالم على كل منهما، ولكن كل ما تؤكد عليه هذه السطور هو تجربة الديمقراطيات الجديدة في العالم ومنها العراق وجنوب افريقيا، والديمقراطيات الجديدة تعبير عن تجارب الشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار والمنعتقة منه بعد ان اقام الاستعمار ازدهاره الديمقراطي على بؤسها الطويل مثل الهند وماليزيا واندونيسيا وجنوب افريقيا والعراق، وهي تجارب يجب ان تشكل نمطا من الديمقراطية مختلفا في المحصلة التاريخية عن تجارب الديمقراطيات العريقة كجزء من المشهد الاستعماري لنهب الشعوب فلا تبرأ الديمقراطية في هذا السياق من الجرائم الاستعمارية في الشرق في الوقت الذي تنشىء اقتراعها الانساني لشعوبها ولولا بؤس الهندي الطويل ونهبه الاقتصادي لما ازدهرت المواطنية الانجليزية وكذلك البؤس الافريقي والشرق اوسطي، ان الديمقراطية في الديمقراطيات العريقة لاتناقش السياسة الخارجية
للدول المهيمنة بل قامت على
اساسها.
ديمقراطية رد الفعل
وفي اثر ذلك، انبثق النموذج الهندي الديمقراطي والافريقي وغيرهما ليشكل ظاهرة جديدة في الديمقراطية مختلفة في منطلقاتها عن التاريخية الديمقراطية اذا جاز التعبير، انها ديمقراطية رد الفعل الديمقراطي التاريخي وقد اعطت هذه الديمقراطية الجديدة صورا متذبذبة بين استنباتها وفقا للشروط التاريخية وبين تبلورها الحقيقي كسلوك سياسي مستقل، ومن هذا السلوك السياسي ما افصحت عنه تجربتا جنوب افريقيا والعراق، ولنأخذ كيف تم النظر الى قضايا كتابة الدستور في البلدين، فاذا كان الدستور في محتواه الاجتماعي المقرر في كل دساتير العالم ومنها مجتمعات الديمقراطية الجديدة، ان يتخذ طرائقه الفنية من خلال طرح ماهو آني وابداء الاستعداد لمعالجة المشاكل مستقبلا، اي ان الدستور لا يستدعي اولوية البعد الثقافي والتاريخي والتركيز على كونه وثيقة ثقافية، توضح جوهر الانسان امام ركام فقدان الخدمات وتفاقم النزاعات وانحسار الفهم للمواطنية ولا ينبني على فكرة ان هذا الشعب او هذه الامة قد امنت العودة الى ينابيعها الاولى منذ فجر التاريخ كما حدث في دستور العراق 2005، وهي اي الامة لم تبدأ عبر هذا العقد الاجتماعي وانما عادت الى استئناف عقدها التاريخي بواسطة وثيقة سياسية هي الدستور، وما هذا الدستور الجديد الا عقد ظاهر للعقد التاريخي الكامن منذ قرون وقد وجدت الامة الفرصة مواتية لوصل ما انقطع بهذا النص.
وهنا لايقف احد ضد ثقل النواة الثقافية في الدستور العراقي التي تؤكد الفلسفة السياسية والاعتقادية لدى الشعب العراقي ولكن يجب الوقفة التي تجعل الانسجام ممكنا بين ثقل النواة الثقافية الاعتقادية وبين الثقل النوعي للدستور بوصفه عقدا اجتماعيا وقانونيا لابداء خدمات مباشرة للشعب العراقي، تؤمن الحقوق والتعليم والصحة والامان والمساواة امام القانون في ظل فقدانها
التام.
السماوي والارضي في الدستور
ان الدستور العراقي، دخل معتركا صعبا في تنظيم العلاقة مع الثقل الثقافي الاعتقادي وبين طبيعة الدساتير كونها قوانين وضعية وليست سماوية( لوائح الانسان مع لوائح السماء)، ان (شعب العراق آلى على نفسه ان يقرر، وان يسن من منظومة القيم والمثل العليا لرسالات السماء ومن مستجدات علم وحضارة الانسان) كما جاء في ديباجة الدستور.
وهكذا فان الدستور العراقي وتبعا لفلسفته الاعتقادية، يستند الى منظومتين وليس منظومة واحدة وهما كما جاء في الاقتباس الانف،1ـ منظومة القيم والمثل العليا لرسالات السماء،2ـ مستجدات علم وحضارة الانسان، ومن الواضح ان الديباجة، اعطت الاولوية الى منظومة القيم السماوية ما يؤشر دلالة بان المنظومة الثانوية تدخل في دائرة المنظومة الاولوية، ومن هنا سوف يصطدم الدستور برفض الخبراء الدستوريين بشأن قطعية مدنية الدستور العراقي مثلما يصطدم الدستور على هذه الشاكلة بآراء مشككة لدى علماء الاديان في الضرورة الدينية الشرعية لوثيقة خارج اطار الفقه التشريعي الديني.
وتبعا لهذا التفاوت فان التوافقية بين المنظومتين لاتحقق استقرارا فكريا ويظل الدستور العراقي ضائعا بين منظومتين اذا انجز شيئا من الاولى، تشتت في الثانية والعكس صحيح ايضا.
في هذا السياق من المقارنة الضمنية بين دستورنا العراقي ودستور جمهورية جنوب افريقيا، لم يضع الدستور العراقي قضايا الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان الاساسية والمؤسسات الدستورية في الوضع المتأهب للتنفيذ والعمل بل ان كتابة الدستور لم تنته بعد بسبب بقاء المشاكل الخلافية على كتابته ولجنة مراجعة الدستور لم تبت في اية قضية خلافية ومن المفارقة ان الدستور العراقي، يعمل في جزء منه في العملية السياسية والنيابية والجزء الآخر، يعمل في العملية الدستورية التي لم تكتمل بعد في كتابة الدستور حتى ان الاستفتاء الشعبي لم يكتمل وينتظر ان تتم المراجعات الدستورية لعرضها ثانية على الشعب وتلك اتفاقات سياسية معلنة بين الحزب الاسلامي العراقي والقادة السياسيين، وبذلك فان السلطة التنفيذية الان تشتغل في ظل فجوات تشريعية وتستخدم حقها التنفيذي المشاع لعدم وجود تشريع للهيئات المستقلة ومناطق النزاع والاعلام ومنظمات المجتمع المدني وغيرها فيما اقام شعب جنوب افريقيا الفصل بين العمليتين الدستورية والسياسية، اي انه اجرى اصلاحات سياسية واسعة في معالجة فوارق وظلمات الماضي كما يسمونها من خلال المصالحة والتسامح ونبذ القيم العنصرية وتحطيم محطات العزل الرهيبة للفقراء التي اقامها حكم الاقلية البيضاء، الاقلية البالغة في بداية التسعينيات اربعة ملايين ومستحكمة بنحو 29 مليوناً، ومن ثم بداية تشكيل لجان كتابة الدستور في 1994 والانتهاء منه في 1996 وفقا للقانون الروماني ـ الهولندي والعرف الانجليزي، ومن الضروري الاشارة هنا الى ان المشكلة ليس في الوقائع السياسية المؤدية الى عقد الدستور النهائي فتسلسل الوقائع العراقية تبعا لمقررات انتقالية اممية، ادت الى الوصول الى العقد الدستوري الجامع والحاكم الا ان العملية الدستورية لم تنته بالرغم من انقضاء الفترة الانتقالية، ونفهم من ذلك بان دولة جنوب افريقيا تبعا لمجرياتها الانتقالية، توصلت الى ان يكون الدستور هو قانونها الاعلى والاسمى واستوت عليه فيما نحن لم نجر التسوية اللازمة لتحقيق القدر الصحيح بالرغم من تطاول الزمن وهدره امام بطء الخدمات وتململ التشريع.
المجتمعان الراهن والتاريخي في العراق
من الواضح ان دستورنا العراقي الجديد لم يغفل القشرة السميكة الصلبة لارث الماضي الاستبدادي من خلال الصفة الانتقالية في مبادئه العامة، ونقصد بالقشرة السميكة هي الارضية المجتمعية الراهنة التي لاتستطيع المبادىء الدستورية تجاوزها لأنها المادة الخام لتطبيق المبادىء ولكن الدستور في مفاصله لم يمنحها الا سياقا عابرا فقد ركز على فكرة ادبية وشعورية للانسان العراقي مفادها بان هذا الانسان هو رائد الحضارة وصانع الابجدية والزراعة ومهبط الرسالات، وتلك الفكرة صحيحة جدا، ولكن ماذا تنفع الريادة في صنع الابجدية وتدجين الزراعة الوحشية الى انسانية امام قطيعة الانسان الحديث لكل ما يمت بصلة الى انسانيته وعوامل تراكم الاستبداد والجهل والاوبئة في الحاضر اكبر من نوافذ الماضي، لذا كان حريا بالدستور العراقي ان يعترف بظلمات الماضي الحديث مثل جمهورية جنوب افريقيا ويعطيها الاولوية في الاحكام الانتقالية ومن ثم تسطع اشراقات الماضي البعيد المغربة حتما وراء السطور او حينما يكون الدستور على محك الفعل والتجربة، وعليه فان النص الدستوري في مثل ظروفنا لابد ان يعالج المشاكل المباشرة والانية في ازاحة اثقال الماضي الاستبدادي ومن ثم الانتقال الى الثبات المبدئي، اي من توضيح الصورة الوطنية في ابراز طاقة الانسان السياسية واعادة الثقة الية الى توضيح الصورة التاريخية لمكوناته الاولى. والواقع ان دستورنا، يعطي التصور والتقييم البدائي للانسان العراقي قبل ان ينفض عنه اعباء واوصاب الظلم الكبير الذي لحقه.
من اللغة الى الواقع
وعلى هذه الشاكلة فان الخلل اللغوي سوف ينتقل الى الواقع العملي انطلاقا من المقولة الفلسفية الشائعة في اللغة، ان الصورة التي لم تتضح في اللغة لا تتضح في الفكر واذا لم تكن كذلك فان مآلها عدم الوضوح في التطبيق الفعلي لمواد الدستور والحياة النيابية واشكال النظم الانتخابية وغيرها، وهذا ما حصل حقا في الشأن التطبيقي لمقررات الدستور العراقي، لماذا، لأن المبادىء الانتقالية لم تشكل اولوية امام القشرة المجتمعية السميكة، ولنفترض انها شكلت اولوية على نحو معين، فالسؤال، كيف تتم معالجة المشكلات اذا لم يبتكر مشرعو الدستور صيغة للصورة الوطنية، اي ابتكار النظرة الوطنية الجديدة كاطار لمعالجة جميع القضايا الموروثة، النظرة التي تحكم عمل جميع الاطراف السياسية العراقية ويلتزم بها الجميع عند التصدي الى قضية معينة فضلا عن استحكامها القانوني، نقول ان النظرة الوطنية الشاملة الحاكمة التي تؤطر جميع الاطراف هي في طور التكوين الآن ولم يستطع الدستور استجلائها في جوهره الثقافي وبذلك ان اية فرصة ستكون مستبعدة حتما لحل اية مشكلة ما دامت الاطراف السياسية لم تجمع على نظرة
وطنية شاملة مؤطرة، وللمزيد من التوضيح فان استمرار الاطراف السياسية بحمل نفس الثقافة التفاوضية لا يؤكد سوى فرض الغلبة واحراز نتائج السلم بدلا من القتال بالرغم من المتغيرات الكبرى، على سبيل المثال في قضية كركوك يتحدث الباحث ايدن آقصو في كتابه عن كركوك( السطوح المتصدعة) بان اتفاق آذار وقانون الحكم الذاتي العام 1974 الناجم عن المفاوضات بين ملا مصطفى البارزاني وصدام حسين قد طرح قضية كركوك في سياق الاتفاق بين الكرد والسلطة السياسية وكانت السلطة السياسية آنذاك تدعو الطرف الكردي الى الرجوع الى احصاء 1957 سبيلا الى حل القضية والتوصل الى نتيجة مرضية بين ضم كركوك الى منطقة الحكم الذاتي المتفاوض عليها او فصلها وجاء الرد الكردي برفض الرجوع الى احصاء 57 ولم تحرز المفاوضات اية نتيجة ممكنة لأن الاطراف استخدمت الحوار السلمي كوسيلة بديلة للقتال، اي ان الحوار السلمي هو مجرد هدنة قتالية، تقوم على احراز الغلبة فاذا لم تنفع فسوف يعود الاطراف الى القتال، وهذا ماحصل بالفعل.
ومنذ ذلك الوقت وحتى التغيير السياسي في العراق العام 2003 وقيام النظام الاتحادي الفيدرالي فما زالت الاطراف السياسية تطالب على وفق الصيغة وتتلقى الرفض ولن يصل احد الى حل ممكن، ومن الضروري استعادة وقائع جلسة 22 تموز 2008 البرلمانية حول قانون انتخاب مجالس المحافظات فمن غير المعقول ان تكون المطالب العربية في العام 1974 من القرن الماضي وفي ظل الاستبداد نفسها في العام 2008 وفي ظل النظام الديمقراطي ومن غير المعقول ايضا ان يستمر الرفض الكردي وما كان ذلك ليحدث لولا ان النظرة السياسية الى النزاع هي نفسها فلم نشهد تطورا لهذه النظرة وتلك هي المشكلة في المشكلة الكركوكلية وغيرها.
وعلى سبيل المثال لتطور النظرة الى النزاعات فقد طرح اليهود فكرة الضحية على ماركس كونه يهوديا الا انه آثر البعدين الانساني والتاريخي للمسألة اليهودية وفسر الوجود الانساني الضحية لليهودي كونه جزءا من انتاج الظلم التاريخي وحله لايشمل الانسان اليهودي حسب وانما البشرية كلها، وبالطبع فان هذا الحل لا يرضي بعض الاطراف اليهودية الا انه شكل احد التصورات العلمية لاحدى قضايا العالم. وفي جنوب افريقيا، توصلت الاطراف السياسية الى حل المنازعات من خلال تغيير النظرة الى النزاع اولا وهو ما حدده الدستور في معالجة فوارق الماضي القريب واقامة مجتمع مبني على العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان الاساسية كما جاء في ديباجة الدستور، ان الجنوب افريقيين ابدوا نظرة وطنية شاملة، تقوم على اسقاط ثقافة وتأسيس ثقافة جديدة ولم يحصل ذلك على المستويات الشعارية والتعبوية وانما بواسطة نظم اشاعة الديمقراطية واستخدام الجامعات على نطاق واسع عبر مراكز الابحاث وتعزيز منظمات المجتمع المدني.
ولم يحصل ذلك ايضا دون صياغة صورة وطنية مبتكرة لهذا الوطن تضمنها الدستور








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات دولية لحماس لإطلاق سراح الرهائن والحركة تشترط وقف الحر


.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.




.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب


.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب




.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات