الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إكليل الأشواك

أوري أفنيري

2004 / 2 / 8
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 احتفالان، وشتّان ما بينهما!

     أقيمت في قاعدة سلاح الجو مراسيم احتفالية بمناسبة إعادة جثث الجنود الثلاثة الذين قتلوا قبل ثلاث سنوات على الحدود اللبنانية. وقد كانت الجثث الثلاث بحوزة حزب الله ومعها رجل أعمال مشبوه في أمره، كان قد سافر إلى بيروت حيث احتجزته المنظمة هناك. بالمقابل أطلقت حكومة شارون سراح 429 سجينا فلسطينيا، لبنانيا وغيرهم، وأعادت 60 جثة لمقاتلين لبنانيين كانت محتجزة في إسرائيل.

    وصل الأسرى اللبنانيون الذين قامت إسرائيل بإطلاق سراحهم إلى بيروت في نفس موعد وصول جثث الجنود إلى إسرائيل. وقد أتاح التلفزيون مشاهدة الحدثين في نفس الوقت: كان بإمكان المشاهد حضور الاحتفالين في وقت واحد. فتبديل المحطات كان يتيح له التنقل بين اللد وبيروت بلحظة.

     لقد قالوا أن هذه الصفقة غير متوازنة، وهي بمثابة تشجيع لخطف إسرائيليين آخرين بهدف إطلاق سراح المزيد من الأسرى الفلسطينيين. وأن هذا التصرف سيرفع من شأن زعيم حزب الله حسن نصرالله إلى أعلى الحدود. وأن شارون قام بهذه الخطوة بهدف إغفال الرأي العام عن فضيحة الرشوة التي تورط فيها هو وابناه.

     كل هذا صحيح تقريبا، ولكنه لا يصيب الهدف الأساسي.

     لا يتعلق الأمر بثلاث جثث، بل هو نوع من الإحساس الوطني. الفرق الهائل بين الاحتفالين – في بيروت وفي اللد – يُظهر هذا الأمر جليا. فهو لا ينبع من الفرق بين الظروف فقط – إعادة الأسرى من هنا وإعادة الجثث من هناك.

     لقد عمت بيروت فرحة النصر. وقد حضرت الاحتفال كل القيادة اللبنانية وزعامة حزب الله، وهي حركة عرفها الأمريكيون على أنها منظمة إرهابية. على أنغام الأناشيد العسكرية التي عزفتها جوقة عسكرية قام الجميع باحتضان وتقبيل الأبطال العائدين إلى بيوتهم. وقامت محطة الجزيرة بنقل وقائع هذا الحدث ببث حي ومباشر إلى ملايين المشاهدين في مختلف أرجاء العالم العربي.

     أما الاحتفال الإسرائيلي فقد كان مختلفا تماما. حالة من الرثاء والدموع. الأسير الحي الذي عاد مع الجثث اختفى وكأنه لم يكن، ووضعت النعوش المغطاة بالعلم الوطني في الجزء الأمامي من القاعة وجلس زعماء الدولة أمامها بوجوه يغمرها الأسى، كما هو متوقع في هذه الحالات، يجلس من ورائهم رجال سياسة، ضباط وأبناء العائلات. رئيس الدولة، رئيس الحكومة، وزير الدفاع ورئيس الأركان أدلوا بخطاباتهم التي تشابهت فيما بينها إلى حد كبير، وكأن رجل واحد كتب الخطابات الأربعة. لقد تحدثوا عن الأخلاق اليهودية والنفس اليهودية وذكروا بأن "كل من ينقذ نفسا واحدة من إسرائيل وكأنه أنقذ العالم بأسره"، وكان القصد بذلك رجل الأعمال الذي عاد هو أيضا من الأسر (نفس من إسرائيل، وليست أي نفس). الجنود الذين قتلوا كانوا قد دافعوا عن حياتنا. عدو شرس يهدد حياتنا جميعا.

    في ذلك الصباح قتل عشرة أشخاص وجرح أكثر من خمسين شخصا في عملية انتحارية نفذت في قلب القدس، على بعد عشرات الأمتار من مقر رئيس الحكومة. وقد قام التلفزيون الإسرائيلي ببث هذه المشاهد طيلة اليوم، جنبا إلى جنب مع التقارير حول تبادل الأسرى. كل ذلك تحول إلى كتلة واحدة: الجثث في القدس والجثث العائدة إلى لبنان، صرخات الأسى التي أطلقها الجرحى ودموع العائلات أمام النعوش.

     غداة ذلك اليوم تصدر صحيفة "يديعوت أحرونوت"، عنوان بالبنط العريض "يوم الدموع"، أما في "معاريف" فقد كان العنوان، وبنفس البنط: "حزين وموجع".

     لقد كانت الرسالة مفهومة ضمنا: شعب إسرائيل يعاني ولكن شعب إسرائيل حي. يقتلوننا ولكننا نواصل الطريق. نحن شعب أخلاقي ولا مثيل لنا. نحن نفتدي أسرانا بأي ثمن (429 شخصا حيا مقابل ثلاث جثث ومجازف واحد). كلنا متعاضدون. هكذا يتصرف شعب ذاق الأسى، شعب من الضحايا.

     لقد ذكرتنا العملية الانتحارية في القدس بأن عدونا الشرس يريد إبادتنا، وهذا ما كان دائما. إنه يقتلنا لأننا يهود. (لقد أعلن الجيش بأنه ما من علاقة بين العملية الانتحارية وبين عملية الجيش في غزة قبل يوم من ذلك، والتي قتل فيها ثمانية فلسطينيين، ومن بينهم فتى يبلغ من العمر 11 سنة وثلاثة مواطنين). الفلسطينيون يقتلون اليهود ولا فرق بينهم وبين الصليبيين الذين ذبحوا اليهود في طريقهم إلى البلاد، محاكم التفتيش والتعذيب في إسبانيا، المجازر والكارثة. نحن ضحايا، هكذا كنا وهكذا سنكون.

    

     سيقول الساخرون بأنها "صفقة" دعائية تهدف إلى خدمة سياسة شارون. أي بما معناه: ليس الفلسطينيون هم الضحايا بل نحن. عندما نقتل الفلسطينيين، نبني الجدار داخل المناطق المحتلة، نهدم البيوت ونقتلع الأشجار، كل ذلك من أجل أمننا وسلامتنا لأن على شعب الضحايا أن يدافع عن نفسه أمام من يبتغي القضاء عليه.

     إنها حقا "صفقة" فمن خلف هذه الدعاية تختبئ حاجة نفسية حقيقية. شعائر الثكل، مراسيم الحزن والإحساس بأننا ضحية، التي تدور حياتنا حولها، مغموسة عميقا في نفسنا القومية. لقد عبرت عن ذلك بشكل جيد المراسيم التي أقيمت في المطار. لقد وحدت "الشعب في ِإسرائيل" وجمعته من جديد بركائز الوجود اليهودي.

     كان من شأن الصهيونية أن تضع حدا لكل هذا. لقد كان من شأنها أن تحولنا من شعب خامل إلى شعب نشط، من شعب يعاني ومسكين إلى شعب يتحول إلى سيد مصيره. لقد نجحنا في ذلك لأول وهلة، فأقمنا دولة قوية ولدينا قوة عسكرية هائلة، غير أن الواقع لم يبدل الإدراك، فهذا الإدراك ما زال يعبر عن شعب مسكين يعاني، ويهدد بأن يقوم القوزاقيون بالانقضاض علينا بأي لحظة.

     من المؤكد أن علماء النفس كانوا سوف يشرحوا ذلك كما يلي: لقد اعتاد اليهود على أن يكونوا ضحايا فهذا الواقع هو واقع معروف يتم نقله إلى الأجيال القادمة بأشكال مختلفة، ابتداء من الأعياد القومية وانتهاء بزيارة أوشفيتس.

     الواقع المعروف يمنح صاحبه إحساسا بمعرفة الواقع، فهو يعرف مكان وجوده ومن هو عدوه وكيف عليه الدفاع عن نفسه، ماذا عليه أن يتوقع. الانتقال من واقع معين إلى واقع آخر يزعزع هذه الثقة، فهو يمنح إحساسا بعدم الأمان وعدم الاستقرار، كما هو الحال لدى شخص أخطأ الطريق ووصل إلى بلاد لا يعرفها، دون خارطة ودون إشارات معروفة. هذا أمر مخيف.

     من يتحدث لدينا عن دولة "يهودية" وليس عن دولة إسرائيلية، لا سمح الله، يقصد ذلك تماما. جنرال يعرّف نفسه ابنا لأهل نجوا من الكارثة ولكنه يستمر في فرض نظام الاحتلال. في مراسيم إعادة جثث الجنود الذين سقطوا في عملية عسكرية، يتحدثون عن النفس اليهودية والكل يشعر بإحساس مريح من وجود الأخوة سوية توحدهم المعاناة والثكل، متصلين بالأجيال السابقة. 

     يمكن لبعض المستثنيين أن يدعوا بأننا قد تحولنا منذ زمن بعيد إلى شعب مُحتل، وأن كنية شعب الضحايا قد انتقلت منذ زمن بعيد إلى شعب جار. مثل هذا الادعاء يمس بروح الأمة، يثير الغضب. إنه يؤذي الإحساس بالمشاركة.

     هناك شعب ضحايا واحد فقط وهو نحن. إذا طالب أحد ما بإكليل الأشواك هذا لنفسه، علينا تحطيم جمجمته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة أمام وزارة الدفاع اليابانية رفضا لشراء طائرات مسيرة م


.. عادل شديد: مسألة رون أراد تثير حساسية مفرطة لدى المجتمع الإس




.. دول غربية تسمح لأوكرانيا باستخدام أسلحتها لضرب أهداف داخل رو


.. ما دلالات رفض نصف ضباط الجيش الإسرائيلي الاستمرار بالخدمة بع




.. أهالي جباليا يحاولون استصلاح ما يمكن من المباني ليسكنوها