الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المخرجة الإيرانية رقية توكلي تنجز أفلاماً قصيرة مثل أشعار الهايكو اليابانية

صلاح سرميني

2008 / 8 / 30
الادب والفن



في المُستقبل القريب, سوف نسمعُ كثيراً عن (رقية توكلي), هي اليوم مخرجةٌ شابةٌ واعدة, تُنجز أفلاماً سينمائيةً قصيرةً, مثل أشعار الهايكو اليابانية, فيلمها الروائي القصير(ماء) قصيدةٌ بصريةٌٌ, بسيطة الشكل, إنسانية المضمون, كحال الأفلام الإيرانية, والتي يكون الطفل في معظمها الشخصية الرئيسية/البطل, مُجسداً فيها البراءة, العفوية, والأيام القادمة.
في (ماء), هو في مكانه تماماً, لا يعرف كيف يرفض, أو يقول لا, .. وربما يُوحي لمُجتمعٍ بكامله.
في حارته, يهبط درجات السلالم الحجرية الكثيرة, يملأ جرته من البئر, ويصعد بتثاقلٍ مُجهداً, امرأةٌ عجوزٌ تطلب منه الماء مستاءةً من ثلاثة أطفالٍ قبله رفضوا أن يعطوها الماء,..
هو طفلٌ مُسالمٌ غير قادرٍ على الرفض.
مرةً ثانية, يهبط درجات السلالم الحجرية الكثيرة, يملأ جرته من البئر, ويصعد بتثاقلٍ مُجهداً.
صبيان شقيّان يأخذا منه الجرّة, ويسكبا ما فيها على رأسيّهما, الصبيّ حزينٌ, يبكي.
هو طفلٌ مُسالمٌ غير قادرٍ على الرفض.
مرةً ثالثة, يهبط درجات السلالم الحجرية الكثيرة, يملأ جرته من البئر, ويصعد بتثاقلٍ مُجهداً .
رجلٌ مسنٌّ يطلب منه الماء ليتوضأ, ..
هو طفلٌ مُسالمٌ غير قادرٍ على الرفض.
سيزيف, في كلّ مرةٍ هناك عقبةٌ تجبره على الهبوط, والصعود .
لم يبقَ للصبيّ المُلتاع غير التردّد, ..
هل يهبط درجات السلالم الحجرية الكثيرة, يملأ جرته من البئر, ويصعد بتثاقلٍ مُجهداً, ويأتي شخصٌ رابعٌ, وخامسٌ, وسادسٌ,.... ليستحوذ على الماء ؟ أم يعود يائساً, مُستسلماً إلى بيته ؟
ولكنه يحسم الأمر أخيراً, ويكسر الجرة, ويمضي في حال سبيله.
يُجسد(ماء) فكرةً ذكيةً منفتحةً على مستوياتٍ متعددة للقراءة : إنسانية, اجتماعية, سياسية, وعائلية,..
فيلمٌ حزينٌ, قاتمٌ, وسوداويّ,..مخرجته(رقية توكلي) لا تحبّ الثرثرة, مع أنّها في الحياة غير ذلك تماما,ً ودودةٌ, لطيفةٌ, حنونةٌ, الضحكة لا تفارق وجهها الطفولي, تتعلق بمن حولها بسهولةٍ, وتصبح صديقةً مؤقتةً لهم,..
رُبما يختبئ في داخلها ذلك الصبيّ الذي يهبط, ويصعد بجرته, ويقدم الماء مُرغماً لمن يحتاجه, يطلبه, أو يأخذه عنوةً.
سينمائياً, بصرياً, تشكيلياً, تتخيّر(رقية) زوايا تصوير تُظهر الحارة في حالةٍ من السكون, تتوافق تماماً مع صمت الصبيّ, وآلامه الداخلية, وتتعمّد الاقتراب من شخصياتها في لقطاتٍ كبيرة, وتهتم كثيراً بعمق الصورة :
ـ يصعد الصبيّ السلالم الحجرية من العتمة إلى إضاءة النهار.
ـ وفي مرة ثانية, من إضاءة النهار, يهبط الصبي السلالم الحجرية, تغمره العتمة, ويملأ جرته.
كما توظف درامياً خلفية الصورة, ومقدمتها من خلال التلاعب بعدسة الكاميرا للتعويض عن قطعٍ مونتاجيّ, ولقطاتٍ إضافية :
ـ من الماء يندلق في فتحة الجرّة إلى الصبيّان الشقيان ينظران إلى الصبي, يتهامسان, وينويان فعلاً عابثاً.
ـ يصعد الصبيّ درجات السلالم الحجرية, يحمل جرته, ويمشي مُحاذياً جدار الحارة, وفي العمق نرى الصبيان ينتظرانه,..
وهنا, تتخيّر (رقية) مونتاجياً التخلي عن أيّ صراعٍ معهما, حيث تنتقل فوراً إلى لقطةٍ تالية, والصبي يبكي, ونفهم بأنّ الصبيّان آخذا جرته, بدون أيّ محاولة للدفاع عن جهده.
وفي لقطةٍ تالية, يستند على الحائط, وأحدهما يسكب ماء الجرة فوق رأس الآخر, ويضحكان برعونة.
صوتياً, تتعمّد(رقية) تضخيم المُؤثرات الصوتية الأكثر أهميةً في الفيلم : سقوط الجرّة في الماء.
ولكن, أكثرها حدةً, ووضوحاً : عندما يرمي الصبي الجرة, وتتناثر قطعها في أرضية الحارة. استعارةٌ رمزيةٌ بلاغية لما يعتملُ في صدره لرفضٍ لا يستطيع التعبير عنه لغةً, سلوكاً, وممارسةً, ولكنه, على أيّ حال, فعلٌ يُجسد شكلاً من أشكال المرارة, الغضب, والثورة الداخلية.
كما تتضخم مؤثرات خطواته عندما يركض, بطئ الحركة, ثقيلاً, يُحاذي الجدار دائماً, وفي اتجاه عمق الصورة, وكأنه يهرب من الكاميرا التي صورت عجزه عن الرفض.

حفلة

على عكس (ماء) بلونيّه الأبيض, والأسود, يأتي الفيلم الروائي القصير(حفلة) لنفس المخرجة ملونٌ تماماً, تضعنا لقطته الافتتاحية الأولى مباشرةً في عالمٍ مُلون,..
عربةٌ قديمةٌ تمتلئ بالحبال المُلونة, تتجمع فوقها, وتنتقل الكاميرا في حركة بانورامية لتستعرض مكاناً مليئاً بأصص الزرع الخضراء, والوردية, حتى تصل إلى صبيّ (نفس الطفل في فيلمها السابق ماء) يقعد بجانبها على حافةٍ حجرية, يرتدي بيجاما زرقاء, وفانيلا حمراء, وينظر أمامه, تتمهل الكاميرا عنده لبعض الثواني, قبل أن تنتقل مونتاجياً إلى حارةٍ شعبية, ويبدو بأنّ (رقية توكلي) واحدةٌ من سكانها, لأنها تصورها بشعريةٍ أخاذة, وهذه المرّة, مع شريط صوتٍ زاخر بمُؤثرات الحياة اليومية .
في بداية الفيلم, تتخيّر (رقية) إيقاعاً مونتاجياً مُكثفاً, حيث لا تقف في أيّ مكانٍ أكثر من لقطةٍ واحدة, وتدخل فوراً في موضوعها.
لقطةٌ كبيرةٌ ليد امرأة طاعنة في السنّ, تبحث في صندوق مليئ بأشياء ملونة, حصيلة ذكرياتها المُبهجة من حياتها المديدة, وعندما تصعد الكاميرا لتُرينا وجهها المُتعب بالتجاعيد, نجدها ترتدي فستاناً ملوناً, وتجلس على سجادةٍ مزدهرة بالألوان, وبجانبها أصيص زرع أخضر, لقد عثرت العجوز على ما تبحثُ عنه, خاتمٌ بفصٍّ من الأحجار الكريمة, تتأمله بصمت.
وفي الوقت الذي تُحضّر الجدة نفسها أمام المرآة, يستعيد الصبيّ بدلته من دكان المكوجي :
المكوجي : هل هناك عرسٌ ما ؟
الصبيّ : جدتي تريد أن تزور أمها...
هذه المرة, يتضح بأنّ (رقية) تمتلك إمكانياتٍ تقنية أكبر من فيلمها السابق (ماء), ولهذا, فهي تستخدم الحركات البانورامية إلى اليمين, واليسار, والشاقولية إلى الأعلى كي تطلّ على صحن الدار المليئة بالزرع, والأشجار الخضراء, وتعود مرةً أخرى من فوق الحائط, حيث عربة الصبي تنتظر الجدة أمام باب الدار.
الفعل الوحيد الذي تركز عليه (رقية) في فيلمها, تلك اللقطات المُتتالية للصبي, وهو ينقل جدته عبر الدروب الملتوية للحارة, يعبر واحداً منها تتوالى فيه إضاءةٌ طبيعيةٌ بفضل فتحات السقف, ويدفع العربة بصعوبةٍ, قبل أن يصل إلى المقبرة منهكاً.

يوقف الصبي العربة بجانب أحد القبور, لقطةٌ علويةٌ تظهر العربة المُستطيلة الشكل, وكأنها تشبه القبر المُحاذي لها.
ترتفع الكاميرا نحو الأعلى, الجدة ساكنةُ فوق العربة, والصبي يتساءل :
ـ حسناً يا جدتي العزيزة, انهضي, هيا, ما الخبر, ألم تقولي بأنك تريدين رؤية ابنتك ؟
ـ جدتي, جدتي.
ومع نهاية حركة الكاميرا نحو الأعلى, استعارةٌ بلاغيةٌ لموت الجدة, وصعود روحها نحو السماء, موسيقى آلة وترية خفيفة جداً تكاد تختلط, والمؤثرات العامة, تلك التي انطلقت عند خروج الجدة من دارها.
يميل رأس الجدة نحو صدرها.
يتغير صوت الصبي, نشعر بحشرجةٍ خفيفة, ربما يبكي, وقد فهم بأن جدته رحلت, كما أمه من قبل, طلبت منه المجيئ إلى المقبرة لتلقي نظرة وداع أخيرة على قبر ابنتها, وتموت بجانبها.
ـ جدتي, ولكن, كنت تريدين قراءة القرآن لأمي.
ترتفع الكاميرا, وتتحول الصورة إلى شاشةٍ بيضاء, رمزٌ أبديّ للموت, وتغمر الموسيقى عناوين الفيلم.
تُجسّد (رقية) الألم, والمرارة بشعريةٍ أخاذة, يمكن أن نتخيّل (حفلة) بالأبيض, والأسود, كحال سابقه (ماء), ولكن, ربما تعمّدت (رقيه) هذا التناقض الصارخ بين الألوان المُبهجة, واستعداد الجدّة للموت, وحزن الصبي الذي لم تتخيّر إظهار وجهه في تلك اللحظات المُؤلمة, كي لا تتحول تلك اللقطة إلى بكائيةٍ مفجعة, وتمرّ تلك اللحظات بهدوءٍ, وسكينة, ولا يطفح الحزن كثيراً, ويصبح الموت حدثاً مألوفاً لا يستحق البكاء.
أو (رُبما), كي ينتشي المتفرج, وكأنه يصغي إلى أنشودةٍ دينية مؤثرة, يتسمّر في مقعده, ويتمتمُ في سرّه : يا الله...

البطاقة التقنية, والفنية للفيلمين :
* ماء : 5 دقائق, و9 ثواني, أبيض وأسود, 2006
سيناريو, إخراج, وإنتاج : رقية توكلي.
تصوير, ومونتاج : رضا حماسي.
صوت : علي حماسي.
تمثيل : سجاد بيجي, بيبيجان داموك, أحمد نجفي.

* حفلة : 9 دقيقة, و50 ثانية, ألوان, 2007
سيناريو, إخراج, وإنتاج : رقية توكلي بالتعاون مع Yazd Art Uni
تصوير, ومونتاج : رضا حماسي.
صوت : سمسم حماسي.
موسيقى : أمير شاهرخيز.
تمثيل : سجاد بيجي, بيبيجان داموجي, أحمد خاج منصوري, فاطمة توكلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق