الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطريق الطويل نحو الحداثة: تأملات في قضايا الديمقراطية والهوية

كامل شياع

2008 / 8 / 31
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


الفوضى الضاربة أطنابها في عراق اليوم تدفع أغلب المحللين والمراقبين إلى يأس مطبق. العراق برأيهم سائر لا محالة نحو أفق مسدود أو مقبل بالتأكيد على كارثة محدقة. وهناك معطيات وأدلة تدعم هذا الرأي، لكن الحصة الأكبر في صناعته تعود لوسائل الإعلام التي نجحت بجدارة، من خلال الصور والأخبار المثيرة، في تشكيل وعي يومي حاد وقاعدة أحكام جاهزة حول ما يحدث أو ما يمكن أن يحدث في بلد "الألف ليلة وليلة". فالدليل ظاهر وصارخ بأرقام قياسية لضحايا العنف الأهلي وإرهاب الجماعات المسلحة المحسوبة على "المقاومة" أو على الأحزاب والدولة. عدا هذا، فالعلائم البادية على السطح تخذل أيضاً كل من تخيّل نقلة سريعة وسلسة للعراق نحو شاطئ الأمان، وهي بما تقذفه يومياً من ألم وبشاعة تحمل في ثناياها ما يرضي تماماً رهانات قوى قومية وإسلامية ويسارية داخل العراق وخارجه..

مقابل ذلك، تظهر في محيط الفوضى الهائج وتيارات التخمينات القاتمة ملامح أولية لنظام سياسي جديد، كإقرار دستور دائم للبلاد وإنبثاق مجلس نواب منتخب وحكومة شرعية وتبلور كتل وقوى سياسية ذات مكونات واتجاهات ومواقف محددة إزاء المسألة الوطنية، طبيعة التمثيل السياسي، الحقوق القومية والثقافية، دور الدين في السياسة والحياة العامة، وجود القوات المتعددة الجنسيات وبرامج إعادة إعمار البلد.

تلك المؤشرات لا تدحض، بالطبع، حجج اليائسين من الوضع ولا ترجح كفة دعاة الأمل بالتغيير. لكنها، في جميع الأحوال، ضرورية لفهم ما يجري بطريقة أعمق وإحاطة بتفاصيل المشهد الراهن الذي صار يبدو أحياناً أقرب إلى مشهد إفتراضي رؤيته متاحة للجميع، رغم أن قلة قليلة يمكنها أن تشعر بوجوده أو تدرك سياقه الفعلي. نقول هذا، دون أن نتغافل عن الحيرة التي يثيرها السؤال عما سيفضي إليه الوضع المحتدم في بلدنا حين نحاول ربط الظواهر بأسبابها، والأدعاءات المعلنة لللاعبين على مسرح السياسة بنواياهم المضمرة.

هناك فعلاً طبقات من غموض كثيف نابع من حقائق صلبة ومعطيات عملية متحركة، غموض يصعب إختزاله في سيناريو كاريكاتيري قابل للتعديل بطريقة إختيارية كيفما نشاء ومتى ما نشاء. بوحي من هذا الغموض، نتساءل: هل إن استنفار الروح العصبية لدى الجماعات المكونة للمجتمع العراقي والإفراط في التمثيل السياسي يمثلان المادة اللازمة للفوضى "الخلاقة" التي ستتمخض عن ديمقراطية مصدّرة إلينا من الخارج؟ هل أن قبضة الإستبداد الحديدية أبان الحقبة الديكتاتورية التي إحتكر فيها الحزب الواحد تمثيل الإراة العامة للشعب، هي الثمن الضروري والوحيد لنظام "وطني" ضامن للوحدة والإستقرار؟ هل نجد بديل الدولة المركزية في نظام دويلات مشدودة بلحمة قومية أو طائفية أو عرقية، منعزلة عن بعضها ومتطلعة إلى حلفاء وأنصار وراء الحدود؟ هل تراجعت حقاً فرص قيام إجماع حر ضمن دولة تعددية إتحادية أمام الميول النازعة نحو دولة ما بعد وطنية، هي أقرب إلى سلطة جماعات منغلقة على بعضها إجتماعياُ وثقافياً وجغرافياً؟ خلاف ذلك، هل يسير العراق نحو نموذج ما لدولة مركزية ضعيفة تسمح بتعايش مجموعات قومية وثقافية وعرقية متمايزة عن بعضها بقدر معقول من التوازن، ولكن على حساب قيم المواطنة الشاملة والحقوق والحريات؟ هذا الإحتمال لقيام نظام ديمقراطي خال من المحتوى وارد تماماً حين نضع بعين الإعتبار مصالح القوى السياسية السائدة وخططها ومناوراتها، وهو بالطبع لا يمت بصلة للبديل المطلوب عن الحكم الديكتاتوري، ولا لما روّج له دعاة الحرب الأمريكية لتحويل العراق إلى مركز إشعاع للديمقراطية في المنطقة، اذ يبدو جلياً أن لا المكونات الإجتماعية والسياسية القائمة في العراق حالياً، ولا التجارب المشابهة في المنطقة وخارجها، تسمح بجعل تلك الفرضية البراقة قابلة للتحقق أو التصديق في المدى المنظور.

هذا المقال سيخوض في مجموعة من الأسئلة والقضايا المرتبطة بالديمقراطية والهوية الوطنية ضمن إطار فرص وآفاق التحديث السياسي المنشود في العراق.

قراءة أولية في لوحة أفكار

سنتوقف، في البداية، عند ثلاثة مفاهيم نجدها مفيدة لإلقاء الضوء على خلفية ودلالة بعض التيارات الفكرية والسياسية السائدة في عراق ما بعد الديكتاتورية. هذه المفاهيم مستلّة من قواميس التحليل النفسي عند فرويد، ونقد القيم الأخلاقية عند نيتشه، والفلسفة المثالية عند إفلاطون.

المعروف عن فرويد أنه إكتشف اللاوعي بوصفه منطقة مظلمة في النفس الإنسانية تتراكم فيها الرغبات الخفية والغرائز المقموعة، وتشكل خزيناً لا ينضب يتسرب بأشكال شتى إلى السلوك والكلام والخيال الإبداعي. هناك سمتان لللاوعي الذي هو موضوع التحليل النفسي يمكن أن يجدا تعبيرهما في الحياة العامة، هما التبعية للماضي، وخفوت الحس التاريخي. فماضي الفرد عند فرويد لا يتوقف عن إظهار نفسه في الحاضر بحيث يستحيل فهم هذا دون ذاك. ولأن اللاوعي فاعل دائماً فلا زمن له ولا حدود: إنه إتصال لا ينقطع ينازع مبدأ الواقع - الأنا، الوعي، العقل، النظام الإجتماعي- فيخترقه أحياناُ وينكسر أمامه أحياناً أخرى، دون أن يتلاشى في الحالتين. لننظر بعين فرويد المحوّرة، بهذه الدرجة أو تلك، إلى الخطابات السياسية السائدة في المشهد العراقي، لنرَ الإجترار الخيالي للماضي، الإحساس بالمظلومية حتى في لحظات القوة والمقدرة، التثبيت النفسي الجماعي والتماهي مع أحداث تختصر سياق الزمن ومعناه في يوم محدد وواقعة معلومة..

أما نيتشه فيفيدنا بنظرته النقدية إلى القيم الأخلاقية كقوة قادرة على محاصرة عالم الحياة بدافع الإستياء من الحياة ذاتها لا بدافع الإرتقاء بها. فيجري بإسمها التضييق على مسرات الجسد والروح، والتنكر لحق الفرد المستقل في عدم الإمتثال لأعراف الجماعة. لنسترجع هنا المحظورات والمكروهات المفروضة على المجال العام، وتزمّت المتطرفين الدينيين ودعواتهم الشبيهة بالجلد الأخلاقي. لنتملى مظاهر التقديس المفرط في الساحات والشوارع ودوائر الدولة، ثم لنتذكر قيمة نظرة نيتشه الذي توغل بها نحو تخوم عدمية خطيرة لا تترك خياراً لمجاراتها.

بعد الهبوط في مهاوي النفس ومتاهاتها، والإستخدام السييء للقيم نمضي إلى المعلم الأول إفلاطون، ليحلق بنا نحو الاعالي، إلى عالم الأفكار حيث الخير المطلق والعدالة النهائية. هناك، برأيه، ينبت جذر الوجود وليس في عالم المحسوسات والمرئيات الزائل والخادع، وهناك تتجسد الحقيقة النهائية التي تستلهم الدولة المثالية صورتها منها فتضمن الخلاص على الأرض، دولة المدينة الفاضلة التي دونها الفساد والشقاق والضلال.

لنتأمل من هذه الزاوية مقاصد من يعيد إختراع الدين كدولة تجسّد الخير المطلق، والتقاليد كحالة طبيعية ثابتة، ويبشر بدولة مثال سابق أو منقذ آت. ولنقس مقدار الإنزياح عن ضرورات الحياة المدنية، وفداحة نسيان عالم الوجود بعدم الإعتراف بالتنظيمات السياسية والمؤسسات المدنية كالدستور والبرلمان والإنتخابات.

الديمقراطية: مقدمات وأوهام

عراق اليوم يسبح في بحار طائفية هائجة. والعقبة الكبرى التي يواجها التحول نحو الديمقراطية فيه تتجسد في العواقب الإشكالية للتمثيل السياسي على أساس الهوية القومية أو الطائفية. ورغم إن التمثيل وفق هذه الصيغة ليس شاذاً ولا سيئاً بحد ذاته، إلا أنه من الناحية الفعلية يحمل في طياته ما يهدد كيان دولة كانت موحدة، ويقوض الأساس الوطني اللازم للتحول نحو الديمقراطية. وبيان ذلك، أن هذا التمثيل حين يتجلى كمحاصصة، معتمدة رسمياً ومنظمة وفق توازن "عادل" وتشمل تقريباً جميع المواقع الرئيسية في مؤسسات الدولة، يتعامل مع السلطة كملك إو إمتياز يكاد يكون حصرياً. وبإستناده على منظور لاهوتي للسياسة، أو على نزعة عصبية محافظة، لا ينسجم هذا التمثيل مع الجوهر التعدّدي والبعد الأفقي للسلطة في النظام الديمقراطي. ولأن تأجيج مشاعر الإنتماءات الفرعية يتعارض وقيام مشروع جديد يحرر عقول الناس وعلاقاتهم ببعضهم من الروح التسلطية، ثمة حاجة لتوجيه سهام النقد إلى المفهوم السائد للسلطة الواحدة بتبني المفهوم التعددي لها. وثمة حاجة لهدم حصون الطائفية والتعصب بطرح تصور مدني، إنسانوي للمجتمع، وجعل عناصر الخصوصية التي تدعي تلك الحصون حمايتها مكوناً حياً للجماعة وليس بضاعة فولكلورية أو صنماً تراثياً جامداً. حين يغدو الإنتماء والخصوصية الثقافية سجناً للوعي والشعور الفردي، فلا قيمة لها ولا رجاء منها. ثمة إيضاً حاجة لعدم المقايسة، أو على الأقل تشكيك مستمر بصحتها، بين العقل السياسي والعقل الديني، فالأول عام وعملي ومتجرّد، إلى حد ما، مجاله تنظيم المصلحة العامة، والثاني شخصي وروحي ومنفعل يختص بالتجربة الذاتية في الإعتقاد. ولا خشية من إقرار هذا التمايز لأنه يهيء مقدمات تركيب أو وحدة أكثر تعقيداً وغنى على مستوى المعنى والمضمون.

إن ولادة الديمقراطية في العراق عملية عسيرة من دون شك، وصيغتها الممكنة والحاصلة فعلياً لا علاقة لها بصيغتها المتخيلة. سنخطئ من الناحية العملية لو تصورنا أنه يمكننا أن نسكن دفعة واحدة في ظلالها الآمنة، وسنخطئ أيضاً إن تصورناها متلازمة مع الرفاه الإجتماعي (يكفي أن نذكر أمثلة صارخة في التفاوت الإجتماعي من جنوب أفريقيا، البرازيل، الأرجنتين)، وسنخطئ أخيراً لو نظرنا إليها كمخطط جاهز يمكن نصبه في تربتنا دون حرثها كما يحرث الفلاح الحقل.

ثمة ضروب من الأوهام والمغالطات أحاطت ولما تزل تحيط بفهم الديمقراطية في العراق، منها:

1-مغالطة التفكير الرغبوي التي تذهب إلى أنه ما دام بناء الديمقراطية يقتضي الإنتخابات الحرة، فإن المقترعين سيختارون بالضرورة الخروج من أطر هيمنة الفكرة الواحدة أو العقيدة الشاملة أو عدم الإنحياز إلى الولاءات الفرعية. وهذا خطأ لا يعادله إلا خطأ تصور المجتمع المدني على أنه حامل لوعي مدني ومساق به.

2-مغالطة تفوّق روح المواطنة على الولاء للجماعات التقليدية، وهذه تعتبر الممارسة الإنتخابية وسيلة لتعزيز حسّ المواطنة التي وصفها أرسطو في كتاب "السياسة" بأنها لا تقتصر على الإقامة في المدينة والإستفادة من محاكمها لتسوية قضايا المواطن، بل تملي على المواطن مهمة حماية المجتمع المحكوم بدستور. إن روح المواطنة لا تسير، من حيث المبدأ، يداً بيد مع الولاء المسبق لطائفة أو جماعة أثنية أو ثقافية، بل قد تكون نقيضاً لهذا الولاء حين يكون مغلقاً وحصرياً. لكن الممارسة الإنتخابية في العراق أنتجت حتى الآن موائمة بين الولاء للجماعات الفرعية والخيارات الفردية الواعية للناخبين، فصار الأول حاضناً للثانية دون أن يترتب على ذلك مصادرة حق الفرد أو مسؤوليته. وهذه الحالة التي ليست فريدة من نوعها، تستحق التوقف عندها، سيّما وأن هناك، في أكثر النظم الديمقراطية عراقة، أحزاباً أو حركات تنادي باحتواء المواطنة ضمن حدود ثقافية أو أثنية عازلة.

4-مغالطة إسقاط سياق على آخر، حيث تؤخذ الديمقراطية كوصفة جاهزة قابلة للتصدير. لا يكفي مثلاً أن تتوفر حكومة منتخبة، ومجتمع مدني ناشط وشركات متعددة الجنسيات لقيام نظام ديمقراطي. وتجارب "الهندسة الإجتماعية" من هذا النوع لا تأتي إلا بنتائج عكسية على المجتمع وعلى المشاريع "الثورية" لدمقرطته. وليس سوى عقلية براغماتية سطحية، كالتي تتبناها الإدارة الأمريكية، بوسعها الاطمئنان إلى أن نشر الديمقراطية سيخدم غاية أبعد منها كمكافحة الإرهاب. والأرجح أن المعركتين ستنتهيان بالخسارة. ولو كانت الديمقراطية هي المرغوبة بذاتها لأقتضى الأمر تهيئة شروط تحققها، وهو لم يحصل كما ينبغي في الحالة التي نتكلم عنها.

إن التفكير في هذه المغالطات في سياق الحالة العراقية يقودنا إلى إستخلاص دروس عملية من قبيل أن حس المواطنة لا يقاس بالتجرّد من الإنحيازات الجمعية، بل بقدرته على تبني إختيارات مختلفة إستجابة لقضايا فعلية أو قناعات مستجدة؛ وأن الديمقراطية أبعد عن أن تكون مجرد وسيلة محايدة لتنظيم الصراع السياسي وعلاقة الدولة بالمجتمع، لأنها أساساً مبدأ للحياة الإجتماعية والسياسية. بالأحرى، إنها ثقافة تدعو لسيادة الشعب في تقرير شؤونه، وضمان سلطة القانون والتضامن الطوعي بين مواطنين أحرار. ولذلك فهي قرينة بالمجتمع الحديث الذي فسره ماركس بالرأسمالية، وفسره أوغست كونت بالصناعة، في حين فسره آليكسي دي توكفيل في الثقافة الديمقراطية القائمة على المساواة في الشروط الإجتماعية وتمتع جميع الأفراد بحق إشغال الوظائف والمهام وحمل الألقاب وجني الإمتيازات، أي أنها ثقافة تتقاطع مع قيم النبالة الأرستقراطية والمراتبية الدينية؛ وأخيراً، لأن الديمقراطية تقوم على الخيار الحر للمواطن والمساواة وتعدّد مصادر السلطة، وضمان حقوق الأقلية، فهي مشروع متحرّك. ويعني هذا، من حيث المبدأ، أن قيمتها تنبع من عملها، فهي تقوّض أسوار السلطة والتقاليد تارة، وتعيد تشكيلها أو ترد الأعتبار لها تارة أخرى. لكنها في الحالتين تنتج قيماً مضافة بهيئة قضايا ومشاكل وفرص جديدة لا تتيحها النظم الشمولية الميالة بطبيعتها إلى الجمود.

هوية بإطار مفتوح

الصراع الجاري حالياً في العراق بين قوى دينية وطائفية وقومية، وبينها وبين الوجود الأمريكي هو، في جوهره، صراع على المسألة الوطنية. إنه صراع حول ماهية المجتمع السياسي الذي ينبغي إقامته، ومستقبل الدولة الوطنية، وعلاقة الأطراف بالمركز، ومفهوم السلطة والمواطنة، والحقوق والحريات، وتمايز المجالين العام والخاص. والموقف من المسألة الوطنية يتصل إتصالاً وثيقاً بتحديد الهوية الوطنية التي تتعدد حولها الإجابات وتتباين. فهناك من ينظر إليها من زاوية حضارية تمسكاً بالأصالة، ومن ينظر إليها من زاوية سياسية أو فكرية مجاراة للمعاصرة. والمعروف عن أمر هذا الإختلاف المتجسد في ثنائية الجماعة الراسخة الجذور، والمجتمع المتشكل في إطار دولة ـ ورثناها عن الإستعمار وسادتها أيديولوجيات حديثة عجزت عن أنجاز وظيفتها في التعبير عن الإرادة العامة ودمج المجتمع في إطار سياسي مستقر ـ أنه لم يحسم حتى الآن. فلا وجود التراث المادي والروحي، ولا وجود الأفكار السياسية الحديثة يعدّ سبباً كافياً لنشوء أمة ذات هوية محددة. ويبدو الآن جلياً أن فكر النهضة، الذي وصل العراق متأخراً، لم يصنع نهضة فعلية عندنا وعند سوانا من شعوب المنطقة لسبب قد يعزى إلى رؤيته المقتصرة على إصلاح أمور الدين دون سواها، وأن الأيديولوجيات السياسية من ليبرالية وإشتراكية وقومية ظلت تدور في حلقة أسبقية الدولة على الأمة أو بالعكس دون أن تتمكن في النهاية من وضع مرتكزات دولة حديثة راسخة ذات مشروع سياسي، تاريخي وحضاري.

هذا من الناحية التاريخية، أما من الناحية النظرية فإن سؤال الهوية ينحو عادة للإمساك بشيء ثابت فينا حين نكون، كما هو الحال غالباً، منغمرين في لجّ الإختلاط والتداخل مع الآخرين، أو لاستدراك وجودنا حين ننساه بين الموجودات الأخرى حولنا. لكن ما العبرة من فعل الإمساك بالهوية أو إستدراكها؟ لماذا نحتاج لأن نكون متماثلين مع إنفسنا في عالم متغير أبداً؟ هل ترادف الهوية المحافظة على صورتنا الأصلية، والإختلاف التفريط بها؟ ماذا يعني إختلافنا عن بعضنا؟ ولمن؟.

هناك رأي يقول إن الهوية معطى طبيعي يأتينا من الماضي ويشكّلنا، جماعات وأفراداً، بطريقة لا نقوى على تغييرها أو الإفلات منها بقوة الوعي أو اللاوعي. وهناك رأي آخر يعدّها تركيباً إصطناعياً لا يمكن أن يكون إلا مؤقتاً بحكم كونه نتاج شروط مادية ومعنوية متبدّلة. كيفما نظرنا إلى الأمر، من المؤكد أنه ليس هناك مستوى واحد للهوية تختزلها في موروث ثقافي أو ديني أو رابطة دم (القرابة) أو تضامن مذهبي أو ملّي. للهوية مستويات متعددة تتيح للمرء أن يتماهى حيناً مع إرث ديني أو حضاري، وحيناً آخر مع نظام للإجتماع السياسي أو مشروع تاريخي. والأرجح إن الهوية تتحقق من توليفة تضم تقاليد الماضي وشروط الحاضر وأفق المستقبل. هذا على مستوى حياة الجماعة، أما على مستوى التجربة الحيّة للأفراد فإنها تتشكل بدرجات متفاوتة من الوضوح والصلابة. وبيان ذلك أن صورتها الثابتة نسبياً عند الجماعة تتجلى عند الأفراد كطيف من العناصر المتمايزة تتناسب تدرجاته وحساسية كل فرد ونسيجه الروحي. ولعل هذا أجمل تجلٍ للهوية لأنه يرادف التنوع وحرية الإختيار والتجدد!.

قلت إن فكرة الهوية تستدعي إلى الذهن مباشرة مبدأ الثبات لأنها تلك النقطة التي نؤوب إليها في آخر المطاف ككائنات فاعلة ذات أدوار متعددة في مجالات الحياة ومسالكها. والثبات هنا، في حقيقته، نقطة متخيلة ذات جاذبية عالية للفكر والوجدان، نقطة ترادف اللاوعي الإجتماعي الذي نواصل من خلاله الإنتساب إلى جماعة موحدة ومنسجمة مع نفسها. الثبات، في بعده الإجتماعي، عماده العصبية، أي لحمة الجماعة المتماسكة، وسطوة الولاء والتضامن وأسبقية الغير على الأنا. والهوية الثابتة تُوقف مصير الفرد لخدمة الجماعة، وتُملي موقفاً غيرياً أو نكران الذات في سبيل هدف أسمى يُسجَّل في رصيد الجماعة مهما صغرت أو كبرت.

غير أنه يمكن النظر إلى الهوية كنقيض للثبات، أي تشخيص أطوارها وحالاتها المتغيرة عبر نقلات التاريخ وتحولاته وصراعاته. الهوية هنا ليست تكراراً لمعطى سابق حتى لو بدت أنها إستعادة حرفية له. وبيان ذلك أنه ليس هناك حامل خالص وشفّاف لذلك المعطى، وأن سياق الفعل المستعيد أو المكرِّر للهوية لا يظل هو هو لأنه مشروط بمكان وزمان محددين. فالسياق مختلف ومغاير لنفسه في كل مرة نأتيه فيها. الهوية، في هذه الحالة، إمكانية مفتوحة تستوعب ولا تقصي، تجذب ولا تطرد. لذلك تصح مقارنتها بتصور متداول للديمقراطية والمواطنة يركز على العنصر الجاذب فيهما على حساب العنصر الطارد. وكما أن الديمقراطية والمواطنة تستوعب الآخر ولا تقصيه فتكون قابلة للإتساع دائماً، كذلك هي الهوية. فهي، وفق هذا التصور، حصيلة شبكة علاقات فعلية، وأفق يفضي إلى ما هو غير متحقق بعد. إنها إقامة في العالم تنبذ كل ما هو حصري ومقيِّد، وغاية لا تبلغ ذاتها، ومشروع متجدد يعيد فهم الماضي ويتجاوزه مرة تلو الأخرى. هكذا هي الهوية: بداية دائمة وجدل لا ينقطع. وهكذا ينبغي لها أن تتجسد في العراق اليوم كي تطلق صراع الواحد والكثرة، وتعيد تشكيلنا ككائنات سياسية وكذوات ثقافية.

طريق الحداثة الطويل

لعلّ الدرس الأساسي الذي يمكن إستخلاصه من العقبات التي تواجه الديمقراطية وتشظي الهوية الوطنية، هو أن الطريق نحو الحداثة، التي نفهمها كفرصة تاريخية متجدّدة ذات إحتمالات مرنة، غير معبد ولا خال من الإلتواء والمسارات الفرعية. والذي حصل في بلدنا عقب إسقاط الديكتاتورية في 2003، وأسقط في أيدي الكثيرين من دعاة المشروع الحداثي، كان أشبه بحال من أراد أن يغيّر عملة بأخرى فحصل على عملة ثالثة لم يقصد الحصول عليها. كم يسيراً التخيّل بأن إزاحة الديكتاتورية ستفضي إلى نقيضها المباشر الذي هو الديمقراطية؟. في واقع الأمر، ظهرت عندنا ملامح نظام ليس فيه ديكتاتور لكنه مؤسس على القوة والعنف وتهديد الحريات، نظام عبّر عن إرادة الأغلبية المصنفة ولاءاتها على الهوية، والمنجذبة لخطاب شعبوي يغزو به المجتمع الدولة، ويخلق الفوضى دون أن يؤمن الإستقرار..

وهذا يدعو للتأمل، فالعملة الثالثة التي أشرت إليها آنفاً تعكس ما للموروث الثقافي من تأثير في تشكيل الرؤى والخطابات السياسية المعاصرة. لقد صار الثقافي مورداً للسياسي لدى نظم وحركات في أغلب بلدان منطقتنا. ولئن فصّلت سابقاً هوية هذه البلدان إلى شقين واحد موروث شبه ميت، والآخر وافد وفاعل وظفته لصالحها الأيديولوجيات السياسية العلمانية، فقد عادت الأمور للإندماج لتصبح الهوية الثقافية مشروعاً سياسياً عند الحركات الإسلامية التي نشطت في العقود الأخيرة.

يمكن النظر إلى التمسك بالهويات الدينية والطائفية والإثنية على مستويين: سياسي ونظري. يعكس أولهما عجز الفكر الديني والطائفي عن تصور الإجتماع السياسي كإجتماع مدني أو جمهوري يستند على المواطنة والمساواة. لذلك نراه يستعين بمنطق مجرَّب ومضمون لحيازة السلطة يقوم على التفرقة والتمثيل الحصري لجماعة دينية أو مذهبية أو عرقية لكسب شرعية سياسية تدّعي نقض حالة ظلم سابق أو خلق توازن جديد للسلطة. ولئن سلمنا بأن المطالبة بالتمثيل العادل مسألة سياسية وليست مسألة دينية أو طائفية، وأن سياسة الحقوق لا يمكنها أن تطمئن الجماعة دون أن تطمئن الأفراد، فإن من الضروري فهم الأسباب الإجتماعية والثقافية والنفسية الكامنة وراء هذا المنطق. إن الواقع، في حالة كهذه، ينطق بصوت أعلى من صوت الأفكار والتصورات الجاهزة! وهذا ما يؤكد ملاحظة ماركس الثاقبة بأن الناس لا يصنعون التاريخ على هواهم، بل عبر شروط موضوعية قائمة... فالوجود الذي يسبق الوعي هو ما يحدّد نوع الأسئلة المطروحة على الناس والطريقة الممكنة للإجابة عليها..

أما البعد النظري، فله دلالة عامة تشمل العالم المعاصر بأسره، ويرجع إلى تشكيك متداول بالمفاهيم الأساسية للحداثة كالتحرر الإنساني الشامل، والتقدم التاريخي ذي الاتجاه الواحد والعقلانية العلمية. فالقراءة النقدية لظاهرة الحداثة وعلاقة الغرب مع بقية العالم ركزت على ما أفرزتاه من عواقب سلبية وخيمة على البشرية ككوارث الحربين العالمتين، وأضرار العقلانية الأداتية المتشبثة بالوسائل على حساب قيم الحياة الأساسية، وآثار التجربة الإستعمارية المريرة. نتيجة لذلك، وللتطورات العاصفة التي يمر بها العالم، أنفسح المجال لمراجعة مسلمات العقلانية الأوربية المتمركزة على ذاتها، والأخذ بالتفكير النسبي بصدد المسارات المتنوعة للتطور التاريخي. وأدى ذلك، بالطبع، إلى إيلاء قدر كبير من المرونة واللاقطعية في فهم صلاحية مفاهيم النظرة الحداثية، ورد الأعتبار لمنظومات الأفكار والقيم الخاصة بالمجتمعات التقليدية أو ما قبل الحداثية، ونبذ المصادرة والتعميمات التي تعتمد المقايسة الظاهرية بين المجتمعات والمعتقدات، وأخذ تأثير السياق الملموس والممكنات والوسائط المتاحة بنظر الإعتبار. ما يهمنا من ذلك هو التأكيد على الحاجة إلى النظر إلى الغايات المجردة من زاوية تاريخية وجدلية، لأنها غالباً ما تتحقق بأشكال متباينة، ولا تقتضي وجود حامل تاريخي واحد لها طالما أنها ثمرة صراع قوى متعددة.

والفكرة الأخيرة تمضي، إلى حد ما، بإتجاه ما لاحظه يورغن هابرماس في بداية كتابه " الخطاب الفلسفي للحداثة" من إمكانية نشوء حداثة محافظة، في الغرب كما في الشرق، تفصل التحديث المادي عن فكرة الحداثة ذاتها. وعدم التساوق هذا يتيح استخدام منجزاتها - من تكنولوجيا ووسائل ونظم عمل- دون تبني نظرتها إلى العالم. وإمكانية كهذه تعكس درجة التعقيد الذي يكتنف الحداثة التي إعتبرها هابرماس مشروعاً غير مكتمل يقبل الإرتداد والحلول الوسطية، دون أن يكف عن إعادة النظر في مسلماته عن التاريخ والطبيعة والمعرفة.

هنا ينبغي أن نتوقف لنختتم هذا المقال. فالقول بأن فكرة الحداثة أصبحت رخوة بحدود نراها أو نتخيلها، يعني تجاوز التفكير الأصولي بها الذي يراها قائمة على جوهر ثابت وأساس عميق، وبالتالي صالحة بالدرجة نفسها لجميع المجتمعات والأمم. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الديمقراطية التي هي أحدى تجليات المجتمع الحديث، على إنها مجرد مجموعة آليات لتنظيم الصراع السياسي تأخذ شكل المجتمع الذي تطبق فيه. وهذا الموقف يجد تبريره في عالمنا الراهن حيث الوسائل والتوليفات الهجينة غدت غاية ما بعدها غاية. وبما أنه من غير الممكن حسم النقاش النظري حول ما إذا كانت الديمقراطية وسيلة أو غاية، وحول شمولية مبادئها أو نسبيتها، نعتقد أن من الأجدى عملياً إفتراض وجود بعد قيمي للديمقراطية حتى يكون لها تأثير مغيّر في المجتمع. هذا البعد القيمي الذي يتيح الفصل والتمايز بين الدولة والمجتمع، بين مكونات السلطة، بين الحياة الخاصة والعامة، وبين الدين والسياسة، سيحفز حركية المجتمع ويدفعه نحو الرقي والتقدم. ولئن أظهر الوضع عندنا اليوم، خرافة تصدير الديمقراطية وبؤس العملية الإنتخابية حين تمهد الطريق لهيمنة جماعة على أخرى، فإن ذلك ليس مبرراً للبحث عن حلول شكلية قصيرة المدى تنتهي بالفشل عادة. في الحقيقة، إن الإقرار بالبعد الشامل لمبادئ الديمقراطية، سيسهل من الناحية العملية، توطينها أو تأصيلها في مجتمعنا..

كذلك فالقول بأن العودة إلى رحم الهويات الثقافية والأثنية هي سمة العصر، يتضمن بجانب الإعتراف المبدئي والمطلوب بحق التنوع والتعددية، صعوبات فعلية في رسم حدود الإعتراف سياسياً، وقد يقلّص من فسحة التسامح في البلدان المتطورة ذات النظم الليبرالية. أما في البلدان الحديثة النشأة والمتنوعة المكونات فإنه يجلب انقسامات داخلية ويفتح حقول نزاعات يصعب السيطرة عليها، وقد تنهار بفعلها دول وتحل محلها أخرى. هذا ما حصل في يوغوسلافيا في بداية التسعينات، وما قد يحصل اليوم في العراق، مع فارق مهم هو أن جميع الأطراف المساهمة في الحالة الأخيرة مرشحة، على الأرجح، للخسارة.

ليس هناك في العراق بديل أفضل من الشراكة لإعادة بناء الدولة الوطنية المتعددة ثقافياً وأثنياً، وليس هناك بديل عن تقييد التسييس المنفلت للهويات الفرعية. فالهوية الوطنية، والحالة هذه، تستلزم تعزيز عملية الدولنة، أي تمكين الدولة من إحتواء مجتمع متعدد الهويات والأعراق، وتحديث الولاءات التقليدية الثقافية والأثنية. وهذا يعني إرساءها على ثقافة سياسية مدنية مصدرها الإنسان كوجود وقيمة، وحقوق الجماعات المختلفة، ثقافة تعاقد وتعايش تتسع للتنوع والخصوصيات المحلية. أما اللجوء إلى الطريق المعاكس، عبر الإعتقاد بأصل نقي وذاكرة متجذرة في الماضي، فيتقاطع مع تلك الثقافة السياسية المقصودة أو لا يصب مباشرة فيها، وقد يشوّه الهوية الخاصة ذاتها لأنها في جميع الأحوال صورة متخيلة عن الذات، قبل أن تكون حقيقة فعلية. إذا كان تشكل ثقافة سياسية كهذه في عراق اليوم أمراً غير مؤكد، فإنها تظل، مع ذلك، رهاناً حقيقياً للمستقبل.


الثقافة الجديدة 320 لعام 2007










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السفينة -بيليم- حاملة الشعلة الأولمبية تقترب من شواطئ مرسيلي


.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية ردا على احتمال إرسال -جنود م




.. السيارات الكهربائية : حرب تجارية بين الصين و أوروبا.. لكن هل


.. ماذا رشح عن اجتماع رئيسة المفوضية الأوروبية مع الرئيسين الصي




.. جاءه الرد سريعًا.. شاهد رجلا يصوب مسدسه تجاه قس داخل كنيسة و