الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجتمع الارتزاق الثقافي العربي !!

كريم عبد

2004 / 2 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


( مجتمع الارتزاق الثقافي العربي ) !!
إذا كان الصراع الثقافي قد تصدر المشهد دائماً، وعِبر جميع عصور التاريخ الإنساني وعند مختلف  الشعوب، فإن مفاهيم الحرية والديمقراطية والتقدم في الغرب،لم تتبلور بسهولة، بل قدمت أجيال من المفكرين والمبدعين والأكاديميين، مزيداً من التضحيات خلال مشاركتها شعوبـها في صراعها المرير مع عهود الإقطاع والاستغلال والتخلف في مختلف مراحلها، لكي تحوّل شعارات الديمقراطية وحق المشاركة السياسية إلى واقع فعلي، أي ثقافة سائدة رسمياً واجتماعياً كما هو عليه الواقع الآن. كان على تلك الأجيال أن تخسر الكثير من روادها الذي أودعوا السجون أو انتحروا أو جنوا أو عاشوا حياة الفقر والتشرد بسبب حسهم الإنساني النبيل بالعدالة. لكننا، عدا استثناءات قليلة،  لا نستطيع العثور على مقابل لهذه الظاهرة في الثقافة العربية المعاصرة !! ومثقفينا الذين قدموا تضحيات لا يمكن تناسيها، غالباً ما انتموا إلى أحزاب أو اتجاهات يسارية أو قومية أو إسلامية على خلفيات أيديولوجية أثبتت التجربة الواقعية عدم نجاحها وقلة جدواها. وبالمقابل كانت الأنظمة العربية  الراديكالية أو التقليدية قد انتبهت لهذه الأعداد من المتعلمين والمثقفين العاطلين عن العمل والمهمشين، وخاصة بعد ارتفاع أسعار البترول في السبعينات، فوجدت أن (استيعاب ) هذه الكوادر هو أمر ممكن.
المثقف العربي على اختلاف مستوياته، مفكراً أو فناناً أو أديباً أو إعلامياً، غالباً ما جاء من مستويات طبقية متواضعة، وهذا بذاته ليس مشيناً، بل المشين هو أن الجوع المعوي المزمن قد تحول عند البعض جوعاً دائماً وشراهة تطبع الشخصية بطابعها. هذا النمط من المثقفين، ولا نقول جميعهم، الذي تصدر الواجهة الإعلامية، سرعان ما تحول إلى ( مجتمع) لم يعد يهمه ما يقوله عنه الآخرون !! فالمنافسة داخل هذا المجتمع كانت وما تزال حامية الوطيس، لدرجة أن من يتحدث عن القيم الإنسانية أو الحق والباطل غالباً ما يواجه بتكشيرة يختلط فيها الاستغراب بالازدراء. لقد أبدو استعداداً دائماً لتحويل القرد إلى غزال والحاكم المجرم إلى بطل قومي !! وإذا كان هذا على خطورته ليس مهماً لأنه من الممكن كشفه وتجاوزه من قبل الجمهور، فإن المطلوب كان على الدوام الارتقاء بالعمل الإعلامي والفكري لدرجة يستطيع معها تعريض الجمهور العربي ككل إلى عملية غسيل دماغ جماعية تجعله يرى الأبيض أسود وبالعكس. وهذا ما تم تحقيقه فعلاً عبر عقود متتالية، وإلا كيف يمكن أن نفسر تلك المظاهرات والعواطف الجياشة التي حاطت بصدام حسين رغم كل ما ارتكبه من جرائم وانتهاكات مدوية لحقوق الإنسان داخل العراق وخارجه ؟! وهو الذي ضرب رقماً قياسياً بين جميع الحكام العرب في عدد الكتب والأفلام والروايات التي أُلفت عنه ومن أجل تبييض صفحته السوداء. إن ( مجتمع الارتزاق الثقافي العربي ) سرعان ما أنتج أنواعاً عديدة من الدباقة السلوكية، كان لا بد أن تتبلور لها مفاهيم وأعراف تسندها وتدل عليها، ليتم من خلالها توزيع الدراهم والدنانير والألقاب والأوسمة والجوائز !! وأصبح لازماً أن يكون في كل بلد عربي من يحمل لقب ( شاعر كبير ) أو ( كاتب نحرير ) أو ( ناقد عظيم ) ليتم استخدامهم وقت الحاجة من قبل هذا النظام أو ذاك، فهم قادرون على تغيير مواقفهم بنفس السهولة التي يغيرون فيها قمصانهم . 
وهكذا أصبحنا أمام ظواهر ثقافية غاية في الغرابة، حتى أصبحت الأنظمة العربية تستعمل المثقفين استعمالاً !! وإذا كان أحد الإعلاميين قد سأل طارق عزيز ذات مرة عن البذخ العراقي المفرط في الإنفاق على شؤون الثقافة والإعلام، أجابه طارق عزيز : أن كل ما ننفقه سنوياً لا يساوي ثمن دبابة واحدة !! فإن أحد المسؤولين العرب يعرّف المثقف في مجالسه الخاصة : ( المثقف كلب إذا أعطيته ينبح من أجلك وإذا لم تعطه ينبح عليك ).
هذا المستوى من الحضيض لم يكن بالإمكان أن تصل إليه الأمور لولا تهافت نسبة كبيرة من المثقفين أنفسهم. بل أن مهانات من هذا النوع لم  تعد تثير اهتمام أحد في ( مجتمع الارتزاق الثقافي ) هذا !! فالجميع مشغول بكيفية الحصول على الغنائم أو طريقة الوصول إلى مراكز الدفع في هذا البلد العربي أو ذاك، ومن هو الذي يدفع أكثر !!
 وحين نقول أن بعض الأنظمة العربية أصبحت تستعمل المثقف استعمالاً ، فلنأخذ أي ظاهرة ونقيس عليها، لنأخذ المهرجانات الأدبية على سبيل المثال : ولنتساءل على سبيل المثال : هل توجد علاقة جادة بين أعضاء القيادتين القطريتين والقوميتين وبين الثقافة الجادة، ناهيك عن الشعر بصفته الروحية والوجدانية، أو الشعر الحديث بأبعاده التجديدية والتجريبية ؟! الذين يحضرون تلك المهرجانات يعرفون الحقيقة تماماً، يعرفون بأنهم مادة للاستعمال المؤقت من قبل السلطة، والغريب أن ( شاعراً كبيراً ) طلب منه أحد سماسرة مهرجان ( المربد ) المشاركة. لم يرفض الطلب من الناحية المبدئية، بل رفض أن يشارك مع كل هذا العدد من الشعراء الصغار !! متسائلاً باستغراب أمام السمسار : هل توجد أمة على الأرض فيها ألف شاعر ؟!
 والذين يتكررون على المهرجانات في البلدان العربية، هم أنفسهم في الغالب. لماذا ؟! لأنهم أما من المشرفين على المهرجانات في بلدانهم وهذا يعني بأنهم يردون الجميل على من دعاهم، بدعوة مقابلة، أو أنهم مسئولو صفحات ثقافية ( أذكياء ) في هذه الجريدة أو تلك، يعرفون أصول اللعبة لتمجيد هذا الشاعر وحرق البخور لذاك، الأمر الذي يعني في وجهه الآخر إبعاد آخرين أو التغافل عنهم. بل أصبحت الكثير من الصحف والمجلات العربية تمتنع عن نشر نقد حقيقي قد يثير التساؤل حول مصداقية من يحملون ألقاباً على غرار ( الشاعر الكبير والكاتب النحرير ) !! ورواد المهرجانات هؤلاء الذين أصبح بعضهم يحدد علانيةً، سعر مشاركته ودرجة مقعد الطائرة التي تحمله !! وكل هذا يستجاب عادة، لأنهم يقدمون خدمات مباشرة أو غير مباشرة لأنظمة معينة، ليس أقلها أنهم لا يمكن أن يشاركوا في إدانة أي نظام عربي مهما كانت جرائمه، إذا كانت مصالحهم ترتبط به، أو أنهم إذا اضطروا يكتفون بإدانة عامة لا تمس نظاماً محدداً. وبعضهم يؤلف كتباً أما عن الزعيم نفسه أو عن شيخ الطائفة التي ينتمي إليها الزعيم حتى لو كانت تلك الطائفة تكفر الطائفة التي  ينتمي إليها المؤلف أو عائلته وتبيح دمائهم. وإذا كان المدعو ( مفكراً كبيراً ) فهو لا يتوانى عن القول ( أنا مع الوحدة العربية حتى لو تمت بالأحذية وسحق الرؤوس ) كي يبرر احتلال بلد عربي لبد عربي آخر !! وإذا كانت درجة الحماس القومي عالية فلا يتوانى بعضهم بتقديم نوع من المديح يستنكف منه أسوأ أنواع شعراء المديح في الماضي العربي المفعم بالسلاطين والممدوحين. فقد كان ذات مرة أحد هؤلاء ( الشعراء الكبار ) في أحد مهرجانات بغداد الصدامية، وحين قابل وزير الإعلام قال له : ( أنت يا سيدي وزير شعراء ولست وزير إعلام ) وهو يعرف تماماً أن ذلك الوزير، وهو لطيف نصيف جاسم، لا يقل أمية عن عزة الدوري في كونه لا يُجيد ربط جملة بجملة أخرى !!
المشكلة الحقيقية أن ( مجتمع الارتزاق الثقافي العربي ) هذا، احتل المشهد الثقافي بكامله، وأصبحت عاداته الثقافية السيئة ودباقاته السلوكية تطبع معظم الوسط الثقافي بطابعها، وصرت تجدهم أينما اتجهت، في المهرجانات والفضائيات والحمامات والبلاجات والجرائد والدوريات، وإذا حدث أن سأل مواطن عادي أحدهم : إذا كان لدينا كل هذا العدد من الأدباء الكبار والمفكرين الجهابذة، فلماذا بقينا أمة متخلفة ومهزومة ؟! فإن الجواب يكون حاضراً عادة : السبب هو مؤامرات الإمبريالية والصهيونية. نعم. وإذا ما عجبك روح بلط البحر !!
أن رسوخ ( مجتمع الارتزاق الثقافي ) وتحوله إلى بزنز غير قليل العائدات، هو في الحقيقة ما يفسر اندفاع الإعلام العربي والكثير من الكتاب العرب يساريين وإسلاميين وقوميين، في دفاعهم المشين عن عصابات القتل والإرهاب في العراق. ولم تعد تهمهم دماء باعة السجائر والعمال والأطفال التي تسيل على شوارع بغداد وغيرها من مدن العراق. فضمير المثقف عندما يسقط مقابل ثمن معين غالباً ما تترافق الصفقة مع تبريرات تتعلق بالإمبريالية والصهيونية !! وكل هذا يتم على حساب حقوق الشعوب وتحريف الأسباب الحقيقية للأزمات !! لذلك فإن هذه الظاهرة تضع الحديث عن تطور المنطقة ومشاريع التحضر والديمقراطية، بل والثقافة العربية نفسها أمام سؤال كبير ؟!   








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تطبيق يتيح خدمة -أبناء بديلون- لكبار السن الوحيدين ! | كليك


.. تزايد الحديث عن النووي الإيراني بعد التصعيد الإسرائيلي-الإير




.. منظمة -فاو-: الحرب تهدد الموسم الزراعي في السودان و توسع رقع


.. أ ف ب: حماس ستسلم الإثنين في القاهرة ردها على مقترح الهدنة ا




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يلاحقون ضيوف حفل عشاء مراسلي البيت ا