الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رحيل المصور حسن سليمان .. وقفة بين المرئي واللامرئي

يوسف ليمود

2008 / 9 / 3
الادب والفن


برحيل الفنان حسن سليمان فجر الجمعة ١٥ أغسطس-آب في سن الثمانين وصراع طويل مع المرض، فقد عالم الفن المصري والعربي رساما كبيرا وعلامة بارزة في سردية المنظر التصويري. مر طقس رحيله في هدوء دون صخب حسب وصيته بعدم إعلان خبر وفاته إلا بعد انتهاء طقوس الوداع. عن هذا قال صديق عمره الروائي بهاء طاهر إن يحيى حقى، الذي كان بمثابة أستاذ للراحل ومثلٍ يحتذى، كان قد أوصى بالوصية نفسها تفاديا للمظاهر التي يمتزج فيها الحقيقي بالمزيف، وإيمانا بأن المهم هو ما يتركه الفنان من عمل وليس نفسه كشخص. وبجانب كون حسن سليمان رساما قديرا، كان كاتبا كذلك وإن كانت منسوجته اللغوية لا تطال بحال قماشة رسمه الأصيلة التي صقلتها خبرة عقود من التأمل والبحث والمحاولات والإعادات والتكرارات للإمساك بالشكل من نخاعه الشوكي فلا تقبض فرشاته إلا على ظلال، تقوى حينا وتبهت أحيانا لتترك على السطح أثرا من روح عاشت في الظل بعد أن أعياها الإمساك بخامة العالم ومادته.
تخرج سليمان من الفنون الجميلة بالقاهرة عام ١٩٥١ وأكمل دراساته العليا في أكاديمية بريرا بميلانو ١٩٦٦ واشتغل مدرسا بمعهد السينما وكلية الفنون، كما شغل منصب أستاذ الدراسات العليا في جامعة بلاكسبورج بولاية فرجينيا. وفي مرسمه، تخرج عدد كبير من الفنانين المصريين المعروفين. وكان قد أشرف على إخراج وتحرير قسم الفنون في مجلة "المجلة" وقت رئاسة يحيى حقي تحريرها، وكذلك مجلة "الكاتب" حين كان الكاتب الراحل أحمد عباس صالح في رئاسة تحريرها. وله كتاب "حرية الفنان" الذي يشي عنوانه ببصيص نور عبر ظلال التأملات والخواطر التي انشغل بها الفنان سواء على قماشة الرسم أم على منسوجة الوجود بشكل عام.

الوقوف أمام أيٍ من لوحات حسن سليمان، سواء كانت طبيعة صامته أم منظرا أم موديلا جالسا، يعادل النظر في سديم يتداخل ضوؤه في ظلاله ويتفاعلان بين شد وجذب، فالشكل يصبح ظلا والظل يصير شكلا، وكلاهما، الشكل والظل، يستعيران من الرمادي لغة ألعابهما وتفاعلهما وصراعهما، في تضحية واضحة بمعظم ما يدغدغ البصر من موائد اللون وأعيادها ومشهياتها وتوابلها. سديم الرمادي هذا يقول الكثير عن الانشغال الملح، الوجودي أساسا، لذهنية حسن سليمان. هو محاولة اختراق المنطقة الهاربة الواقعة بين "المرئي واللامرئي" (سنراه منشغلا بعمل ميرلوبونتي الفلسفي الذي يحمل هذا الاسم). هذه المنطقة تحتم التكرار على المشتغل عليها، تؤكد على هذا أحاديثه التي لم يمل منها أبدا عن سيزان ورسمه المتكرر لجبل سان فيكتوار، وفان جوخ ورسوماته الثلاثين لحذائه التعيس، وموريس أوتريللو، السكران أبدا، ونسخاته المرسومة التي كررها كثيرا لكنيسة مونمارتر. منطقة تقول الكثير عن شاعرية صاحبها، توقه للنقاء، احتضانه البراءة، مناجاته الدائمة لعناصر وأشياء عالمه، في المرسم كما في فى مفردات الدماغ من معنى: المرأة افروديت، الوحدة الزمن، البحر اللانهائية.

طبيعته الصامته تستدعي للذهن مباشرة عمل المصور الإيطالي جيورجيو موراندي، رغم ذلك فالعالَمان والشخصان جد مختلفان. فإن تمركزت أواني وأشكال موراندي في مربع أو مستطيل شاحب داخل مربع أو مستطيل اللوحة، فإن أشكال حسن سليمان وأوانيه وزهوره يشتتها الضوء ويجمعها الظل. إن كان للأول رياضة مركزية، فرياضة الأخير أشبه بشبه منحرف يحاول خلق توازنه على إحدى زواياه. في سلسة من أنضج أعماله المتأخرة، يلمس حسن سليمان اللانهائي في فكرة البحر، يرسم البحر، فيذوب الشكل والظل ويبقى اهتزاز ما وغبش. هذا العدم الموجود (هل يجوز التعبير؟) تتفتت فيه كل المفردات التي شكلت حياة الفنان وشغلت سطوح أعماله من رأس إلى جسد لطائر إلى دورق إلى خزفية إلى مزهرية إلى وردة إلى درج إلى طاولة إلى شعاع وظل. في البحر تذوب التفاصيل، ولا يبقى من صورة البحر نفسه سوى عمل الفرشاة ولمساتها اللانهائية، وهذه بدورها لا يصل الى العين منها سوى ارتعاش خافت كعدمٍ بالكاد يكون.

تجلى حسن سليمان في خمسينات وستينات المنظر الفني في القاهرة كما يتجلى مصدر الضوء الجانبي الهادئ الواثق الذي يرمي بكتل ظلال ثقيلة الوزن على تضاريس مسطحاته الوهمية. أعماله في تلك المرحلة، قياسا على الواقع التشكيلي المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام، وقياسا كذلك على ذلك الوقت من تاريخنا، بشحنته الساذجة من الأمل والتحدي، تعتبر حفرا جماليا صادقا في خامته كفنان بقدر ماهي مرآة لموقفه الوجودي ونظرته للعالم كإنسان. نرى، مثلا، من تلك المرحلة، لوحته "النورج" التي تصور دوران ثورين مقيدين في مورج دريس حقل القمح: الرسم الرشيق، والتصميم الدائري المحكم الذي يكاد يستدعي إلى الذهن صورة أو اسطورة سيزيف محكوما عليه بالحجَر الشاق وعذاب اللاجدوى، وتدرجات اللون الأوحد الذي استحضر رائحة الظهيرة والحقل والخشب والعطش والفقر المترامي وراء أفق اللوحة ضاربا الفلاحين، أبناء الأرض، الممصوصة دماؤهم.
غير أن انحسار قناعة سليمان الفنية وانغلاقها على قيم تستمد جماليتها أساسا من البراعة التقنية الكلاسيكية، أوقعته فيما بعد ولسنوات طويلة في الظل الكثيف لأشكاله كما في اليأس من واقع لم يعد يتعرف عليه، يجتر الأشكال نفسها مرارا وتكرارا، تتلون، بقصدٍ أحيانا وبدون قصد أحيانا أخرى ،بمتغيرات السياسة الانفتاحية التي قلبت موازين ومعايير وقيم المجتمع المصري رؤسا على أعقاب، فيحيد حفرُه السابق ويميل نحو غنائية لا تليق باسمه واجترار لعناصر ومفردات كانت يوما شرقية وأصبحت اليوم استشراقية تزيينية دخيلة بافتعال على تصميمه اللطيف، مناجيا لغة السوق، فتميد أرض اللوحة وألوانها وعناصرها، وتنفر منها العين التي هامت بها سابقا. غير أن ما بذره على قماشته يوما، يعود، بعد رحلة التغرب والاغتراب الطويلة هذه، لينبت من جديد، فيحصد، هو، كفنان، في نهاياته، ما سبق أن غرس في البدايات. يحصد ماذا؟ أوهاما لا شك، لكنها أوهام محكمة الصنع والهندسة، ويكفي الوعي بكونها أوهاما.

في كل مرة أذهب إلى بيت صديقي الروائي جميل عطية ابراهيم في مدينة غربتنا السويسرية، ألمح تغييرا في مجموعته الفنية الموزعة على الحوائط، ما عدا تلك الرسمة الصغيرة، اسكتش الطبيعة الصامتة الممهور ببراعة يد خلقت للرسم، يحتل مكانه منذ سنين دون تغير. كم من حكاية استمعت إليها من صديقي الروائي عن تجواله مع حسن سليمان في شوارع القاهرة وأحيائها القديمة بمقاهيها، لدرجة أن شخصية الرسام في روايته "المسألة الهمجية" مستوحاة مباشرة من فناننا هذا الذي كان قد زهد في الشكل إلى الظل، وزهد أخيرا في الظل إلى الغياب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرسام الفرنسي موريس أوتريللو
محمد عبدالرحمن ( 2011 / 1 / 3 - 21:24 )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إنني من المعجبين بالرسام الفرنسي موريس اوتريللو وأمتلك لوحتين لهذا الرسام المبدع
أرجوا مراسلتي على البريد الالكتروني

تقبلوا تحياتي

اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا