الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلف الباب الأسود - قصة قصيرة

مستخدم العقل

2008 / 9 / 3
الادب والفن


مع انصراف آخر التلاميذ من فناء المدرسة كانت شمس الشتاء الواهية قد بدأت تميل للمغيب وبدأ محمد الشيخ – العامل الوحيد بالمدرسة - عمله اليومي في تنظيف الفناء. للدقة فإن ما كان يفعله لم يكن تنظيفا حقيقيا فكل ما كان يفعله هو أن يمسك بجوال ممزق مهتريء ليحاول أن يجمع فيه القاذورات التي خلفها التلاميذ من ورائهم، فكانت القاذورات التي تتساقط من الجوال تكاد تزيد عمّا يقوم بوضعه فيه. بعد دقائق بدأ ظهره يؤلمه كعادته في الأيام الأخيرة فأخذ يستند إلى جدران الفناء المتآكلة في محاولة منه لأن يريح ظهره المريض. شيئا فشيئا بدأ يقترب من الباب الأسود الكبير الواقع في نهاية الفناء. كان هذا الباب – بغموضه ورهبته - مثاراً لخيال جميع تلاميذ المدرسة منذ قديم الزمان، فهو باب ذو قدسية خاصة يختلف تماما عن الباب الخشبي الصغير الذي اعتادوا أن يخرجوا منه في نهاية كل يوم ليعودوا من خلاله من جديد في بداية اليوم التالي. أما هذا الباب فهو مغلق دائما ولا يتم فتحه إلا باحتفال خاص لكل تلميذ على حدة ليمرّ منه مرة واحدة إلى الخارج حين يتمّ دراسته بالمدرسة فلا يراه أحد بعد ذلك أبدا. إن إتمام الدراسة في هذه المدرسة له معنى يختلف عنه في أية مدرسة أخرى، فالبعض يتمّ دراسته بنجاح بينما البعض الآخر يتمّها بأن يستنفد مرات رسوبه، وفي كل الأحوال فلابد لأي تلميذ من أن يأتي عليه يوم ليخرج من هذا الباب الأسود فلا أحد يبقى للأبد في تلك المدرسة ذات الفناء العفن الرائحة والجدران المتآكلة.

مع مرور الوقت بدأ هذا الباب الأسود يتحول إلى أسطورة بين التلاميذ نظرا لما يثيره فيهم من الرهبة والخوف من المجهول القابع وراءه. وقد انتبهت إدارة المدرسة منذ أمد بعيد إلى تلك الرهبة التي يمثّلها هذا الباب للتلاميذ فقامت بإشاعة المزيد والمزيد من الأساطير لترهيب التلاميذ من مخالفة الإدارة وترغيبهم للخضوع لقوانينها ولوائحها. وقد زادت الأمور تعقيدا حين قام أحد مديري المدرسة منذ أمد بعيد بكتابة مجموعة من اللوائح على لوحة خشبية ولكيّ يضمن خضوع التلاميذ التام لتلك اللوائح فقد وعد التلميذ الذي يطيعه بأنه سوف يجد خلف الباب الأسود صندوقا مليئا بحلوى الربسوس يستطيع أن يغرف منها ما يشاء، بينما التلميذ المتمرد فلن يجد خلف الباب الأسود سوى المعلم حسونة – فتوة المنطقة في ذلك الزمن البعيد - ليلقنّه (درسا) لن ينساه. في ذلك الزمن البعيد كان الجميع يعشق حلوى الربسوس وكان الجميع أيضا يخشى (دروس) المعلم حسونة فتوة المنطقة، لذلك فقد تسابق التلاميذ في إظهار ولائهم لمدير المدرسة والطاعة التامة للوائحه. بمرور الوقت أصبحت حلوى الربسوس ودروس المعلم حسونة هي الشغل الشاغل للتلاميذ فبدأوا يتفننون في ابتكار طرق جديدة لإظهار مدى ولائهم للمدير ولوائحه، وبرغم اختفاء المدير القديم وظهور مدراء جدد فإن أحدا منهم لم يحاول أن يغيّر شيئا من اللوائح المكتوبة على اللوحة الخشبية التي أصبحت الآن كالحة متهالكة. برغم اختفاء حلوى الربسوس من الأسواق وظهور أنواع أخرى من الحلوى، وبرغم اختفاء المعلم حسونة من المنطقة منذ أمد بعيد، إلا أن التلاميذ لم يكفوا عن التسابق في إظهار خضوعهم التام للّوائح التي أصبحت بمرور الوقت ذات قدسية أشبه بقدسية الظلام بالنسبة للطفل الصغير. لقد أصبح هذا التسابق للخضوع هو الشغل الشاغل للتلاميذ فبدأوا تدريجيا يفقدون اهتماماتهم بالأنشطة العلمية والرياضية والاجتماعية وغيرها من الأنشطة، فلاشيء يهم أمام حلاوة مذاق حلوى الربسوس ومرارة مذاق دروس المعلم حسونة ... لم يهتم التلاميذ كثيراً بحقيقة أن مدرستهم قد أصبحت الأخيرة في جميع الأنشطة العلمية والثقافية والفنية والرياضية وغير ذلك من الأنشطة ... فحلوى الربسوس كانت أهم لديهم من كل تلك الأنشطة.

أخذ محمد الشيخ ينظر برهبة الى الباب الأسود، لقد أفنى حياته كلها في إظهار خضوعه لتعليمات اللوحة الخشبية على أمل الفوز بحلوى الربسوس والآن بعد أن داهمته الأمراض فهو يحلم بأن يتذوق بعضا من تلك الحلوى قبل أن يفقد قدرته نهائيا على التذوق. أخذ ينظر للباب الأسود برهبة وانبهار، ماذا إذا حاول أن يختلس النظر من ورائه. لطالما حاول أن يتخيل شكل حلوى الربسوس التي لم يرها في حياته من قبل، فماذا إذا حاول التسلل من خلال الباب لكي يتذوق بعضا منها. إن المدرسة خاوية تماما ولا أحد يستطيع أن يراه وهو يتسلل من الباب. هو لايعتبر ذلك سرقة فهو يثق من أنه سينال تلك الحلوى يوما ما ولكنه فقط يريد أن يتذوق بعضا منها قبل أن يفوت الأوان. شعر بالرغبة العارمة تنمو في صدره ولكنه لم يستطع أن يطلق لها العنان، فماذا لو وجد المعلم حسونة في انتظاره ليعاقبه على تسلله من الباب دون إذن. هو يعرف يقينا أن المعلم حسونة قد اختفى منذ أمد بعيد ولكنه لم يستطع من أن يتخلص من مثل تلك الأفكار. شيئا فشيئا لم يستطع مقاومة الرغبة، الرغبة في التذوق والرغبة في المعرفة، مدّ يدا مرتجفة ليدفع الباب الأسود بخفة فوجده يستجيب بسهولة تامة. تقدم خطوة إلى ما خلف الباب لكي يستطيع أن يرى ما يقبع وراءه، ما إن فعل ذلك حتى انغلق الباب تلقائيا. انتابه الذعر فحاول فتح الباب ثانية ولكنه لم يستطع، فيبدو أنه ينفتح من ناحية واحدة فقط. حاول أن يدق عليه ولكنه تذكّر أن أحدا لن يسمعه. حينئذ التفت خلفه ليبحث عن سلة حلوى الربسوس التي كانت سببا لما هو فيه فكانت المفاجأة. فليس أمامه شيء سوى التراب والظلام. لم يجد أي حلوى، بل لم يجد أي شيء يدل على وجود المعلم حسونة في مثل ذلك المكان من قبل. لاشيء سوى التراب. أخذ يجرى هنا وهناك بحثا عن أي شيء فلم يجد شيئا سوى التراب. حينئذ انهار على الأرض بعد أن اكتشف الخدعة. أخذ يبكي ويبكي بينما جسده يغوص في التراب ولكنه لم يأبه لذلك لأنه عرف أنه ما من أمل في العودة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07