الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطوات على طريق الأنسنة 1-2

نذير الماجد

2008 / 9 / 8
حقوق الانسان


كان يمكن اختيار "الأنسنة هي الحل" لكني ترددت كثيرا في اختيار عنوان رائج كديباجة وشعار فضفاض تحتفي به كل الاتجاهات والمذاهب والأطروحات الفكرية التي تجنح إلى أن تكون أيديولوجيات تقدم الحلول النهائية والمعلبة وتمارس تزييفا للواقع ومتاجرة بعذابات الإنسان الفرد والإنسان المجتمع.

"الإسلام هو الحل" أو "العلمانية هي الحل" كلها شعارات ويافطات أفرغها الاحتكاك بالواقع من كل مضمون يمكن أن يصمد أمام أبسط تشريح للخطاب، فلم تعد بذلك الإغراء والجاذبية بعد أن تواضع العقل البشري وأدرك حقيقة عدم وجود حلول نهائية تتخطى وتتجاهل رهانات الواقع وتاريخيته. لكن القاسم المشترك بين كل هذه الأيديولوجيات هو إدراكها بأن ثمة أزمة ما تحيط بالواقع، على إثرها حاولت تركيب وصفات هجينة تتراوح بين أجوبة تستنطق الماضي وتجافي الحاضر بكل مستجداته وتحدياته ( إحداثيات زمانية) وبين استعارة حلول معلبة وإقحامها في سياق مغاير ومختلف (إحداثيات مكانية).

يتفق الجميع إذن حول قضية بدهية تتمثل بوجود أزمة أو خلل أو تراجع أو مرض عضال، على إثرها تبلورت إصلاحات سلفية تخاطب الموتى وتعنى بقبورهم! وإصلاحات أخرى شكلية وسطحية لا تجرؤ على ملامسة ومقاربة الإشكالية في عمقها، لأن الكشف عن جذور الأزمة وتعريتها تعني مواجهة صريحة مع الذات بكل ما تستتبعه من ألم وقلق وجروح نرجسية. اركيولوجيا ثمة محاولات معرفية جادة اكتشفت أن فلسفة الإنسان ومفهوم الكائن البشري يمثلان أهم ملامح هذه الأزمة فطفقت تصدح بالتبشير لشعارات لا تقل جاهزية عن مثيلاتها الأيديولوجية كشعار الإنسان أولا وحقوق الإنسان وغيرها من أيقونات مرهفة كلها تأتي في سياق "الأنسنة هي الحل".

الدكتور المصري حازم خيري كان قد دعا إلى تنشئة تيار أنسني عربي يمنح الإنسان قيمة مركزية في النظام القيمي والأخلاقي في المجتمعات العربية لإشاعة الأنسنة وفكرة حقوق الإنسان على أوسع نطاق، يقول: "إن بناء الذات الأنسنية لا يعني سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود" ثم يضع عدة خصائص للأنسنية: معيار التقويم هو الإنسان، الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة، تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها، القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه، وأخيرا تأكيد النزعة الحسية الجمالية.

ثم يحاول أن يميز بين الكائن البشري في صيرورته لتمثل الأنسنة وبين الذات الأنسنية، فيقول مستدركا: "يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا". وفي اعتقاده أن هذا هو الحل لمواجهة الأزمة التي شخصها في عنوانين أساسيين: هدر العقل العربي، والاغتراب الثقافي للذات العربية.

إن الأنسنة المقصودة هنا هي بكل بساطة علمنة مفهوم الإنسان "أو الكائن البشري"، أي ذلك الجهد المعرفي الذي بذل لتحقيق نقلة "ثورية" للكائن البشري من حيز لاهوتي ضيق (طائفي غالبا) إلى الأفق الرحب للأنسنة التي يمكن أن تعمم على نطاق كوني عابر للثقافات والأديان!.

لكن هذه القطيعة الأبستمولوجية لا يمكن أن تتحقق أوتوماتيكيا، بل لابد أن تسبقها خطوات لا تقل عنها "ثورية" وجرأة، فحتى تتم هذه النقلة لابد من إحداث تبيئة ثقافية تستدعي جملة إصلاحات جوهرية فكرية لتهيئة الأرضية الملائمة لتقبل هذا الطارئ الثقافي الجديد ألا وهو الأنسنة، ضمن مسار فكري طويل ومعقد ومحفوف بالإشكاليات والتضحيات، وبإطلالة سريعة على هذا المسار الطويل نجد أن البداية كانت مع لحظة لوثر والإصلاح الديني الذي ألغى احتكار التفسير الديني لرجال الدين وأزال القداسة عن الفكر الديني بصفته نتاج بشري "نسبي".

هذه الخطوة المفصلية التي حدثت في القرن السادس عشر مهدت السبيل لمغامرات فلسفية وفكرية ضخمة وجريئة تناولت العقل اللاهوتي بالنقد والتشريح لتكشف عن تاريخية المقولات المنتجة ضمن إطار هذا العقل، ثم جاء فلاسفة التنوير مع فولتير وكانط للتنظير والتأسيس لمفاهيم ومقولات فكرية كانت بمثابة هرطقات "أو بدع ضالة مضلة" عند رجال الدين، مثل التسامح عند فولتير، والعقلانية عند كانط، ومفاهيم أخرى مثل حرية الضمير والمعتقد وحق الاختلاف..

وهكذا كان كل شيء معدا تماما لاستقبال فكرة الأنسنة وحقوق الإنسان التي أعلنت في فرنسا بعدما استنزفها صراع طائفي طويل دام لعقود بين الأغلبية الكاثوليكية والأقلية البروتستانتية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد منح اليونسكو جائزة حرية الصحافة إلى الصحفيين الفلسطينيين


.. الأمم المتحدة التوغل في رفح سيعرض حياة الآلاف للخطر




.. السلطات التونسية تنقل المهاجرين إلى خارج العاصمة.. وأزمة متو


.. ضجة في المغرب بعد اختطاف وتعذيب 150 مغربيا في تايلاند | #منص




.. آثار تعذيب الاحتلال على جسد أسير محرر في غزة