الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما لايتسع الوطن للقواعد والناس معاً

صائب خليل

2008 / 9 / 9
السياسة والعلاقات الدولية


أن تنافس القواعد العسكرية (الأمريكية) الشعوب على سيادتها في البلدان التي تتواجد فيها، هو أمر مألوف ومكرر. وقد تكون نتيجة ذلك التنافس صراعاً سياسياً وربما عسكرياً دموياً بين الأثنين ينتهي غالباً بانتصار القواعد واحتفاظها بسيادة البلد الذي غرست جذورها فيه، ولا يقتصر هذا السيناريو على دول العالم الثالث مثل "دول الموز" كما يسمونها، وإنما حتى على دول غربية ذات نظام ديمقراطي راسخ مثلما حدث في أستراليا(1). لكننا سننظر هنا في قصة غير مألوفة من قصص صراع الشعوب مع القواعد العسكرية الأمريكية، حين لم تكتف تلك القواعد باستلاب السيادة في البلاد, وإنما أرادت البلاد كلها، بالمعنى الحرفي للكلمة، لذا كان على سكانها أن يغادروا و يتركوا البلاد لهم!

يكتب جون بلكار: "هناك حالات تكشف فيها مأساة ما، أو جريمة ما، كيف يعمل النظام من خلف وجهه الديمقراطي، وتساعدنا على معرفة كم من العالم يدار من قبل الأقوياء وكم تكذب الحكومات. ولفهم كارثة العراق، وكل "العراقات" الأخرى التي مرت في التأريخ الإمبريالي المميز بالدموع والدماء، لا يحتاج المرء أن ينظر إلى أبعد من دييغو غارسيا".

وهي بالفعل جريمة كبرى، ولا نحتاج إلى أن نذهب أيضاً أبعد من نصوص محكمة العدل الدولية لنقرأ في المادة 7 أن "الإبعاد والنقل القسري للشعب بواسطة الطرد أو أية اعمال قسرية" يعتبر جريمة بحق الإنسانية.

ولتجاوز هذه المشكلة كان على "جزيرة دييغو غارسيا" أن تكون "غير المأهولة بالسكان" فكانت كذلك رغم كل سكانها الذين مازالوا على قيد الحياة!
"لايوجد شيء في ملفاتنا عن سكان أو عملية ترحيل"، كما ينص تقرير لوزارة الدفاع البريطانية في السبعينات من القرن الماضي. أما في الملفات السرية التي كشفت فيما بعد فيقول تقرير آخريعود الى النصف الثاني من الستينات: "هناك شعب فعلاً..لكن لأسباب عملية اقترح سياسة "الإهمال الصامت" في هذا الأمر...لننس الموضوع حتى تثيره الأمم المتحدة". وفي الأمم المتحدة دافع ممثل بريطانيا عن كذبة أن الجزر كانت غير مسكونة عندما احتلها البريطانيون.
أما لمن تهمه الحقيقة فقد كان عدد سكان دييغو غارسيا 2000 نسمة او يزيد، شعب لطيف يعيش بهناء في قراه، ولديه مدرسة ومستشفى وكنيسة وسجن وخط سكة حديد ومراسي سفن وحقول.
إنها قصة تذكر بلا شك بفلسطين التي قالوا عنها يوماً أيضاً بأنها "لم تكن مأهولة بالسكان".

اكتشفت جزيرة دييغو غارسيا من قبل البرتغاليين في القرن السادس عشر, وكانت تابعة لموريشيوس حتى عام 1966 حين استلمها البريطانيين كجزء من جزر الأرخبيل. وفي عام 1970 أجر البريطانيين الجزيرة الى الأمريكان بعد طلب هؤلاء من البريطانيين تسليمهم اياها.

لكن "القدر" كان يخبئ لتلك "الجنة" كما كان سكانها يسمونها، الكثير من المفاجآت. ففي عام 1961 قررت الولايات المتحدة أن تحصل عليها كقاعدة لقواتها، وبالفعل يسكن الجزيرة الآن 2000 من العسكريين الأمريكان وقد بنيت عليها مرافق معيشتهم وتسليتهم، ولها مراس لثلاثين سفينة حربية ومنطقة لخزن النفايات النووية، ومركز تجسس على الأقمار الصناعية.

في الستينات، وبعد تصميم الأمريكان على الحصول على الجزيرة لقواعدهم، اتفقوا سراً مع حكومة هارولد ولسون العمالية في بريطانيا على "تنظيف" الجزيرة و "كنسها" من سكانها، الذين كانوا يعتبرون مواطنين بريطانيين حسب قوانين المستعمرات(!!)، و "التنظيف" و "الكنس" ليست من عندي فهي كلمات استعملت في الوثائق الأمريكية التي تم الكشف عنها.
لإتمام الصفقة بدأ البريطانيون بإجلاء السكان الأصليين للجزيرة والمسمون "الشاكوس"، منذ عام 1967 أي بعد عام واحد من استلامهم ا لجزيرة، واستمر الأمريكان بتلك العملية بعد التسليم وحتى عام 1973. يعيش السكان الأصليين للجزيرة حالياً في حالة يرثى لها في موريشيوس وسيشيل حيث تفصلهم البحار الشاسعة عن بلادهم، بينما خصصت الجزيرة لقاعدة عسكرية ضخمة بنتها شركة هاليبرتون التي يمتلك ديك شيني حصة ونفوذا فيها. ومن جزيرة دييغو غارسيا هذه انطلقت الطائرات الأمريكية لقصف العراق.
كغيرها من المشاريع سيئة الصيت، كانت عملية التهجير بحاجة ألى سلسلة من الأكاذيب وإعادة تسمية الأشياء والحقائق ليمكن تمريرها من خلال القوانين والدساتير بأقل إحراج ممكن. لذلك ابتدع مكتب الخارجية البريطاني تسمية " عمال متنقلين" وأطلقها على سكان الجزيرة، رغم أن اجداد هؤلاء ولأجيال عديدة، يرقدون في مقابر الجزيرة.
.
في آب 1966 كتب السير باول غور بوث، مساعد وزير الخارجية البريطاني: "يجب ان نكون قساة في هذا فعلاً. أن هدف هذا هو أن نحصل على هذه الصخور التي ستبقى لنا. لن يبق "سكان أصليين" سوى طيور النورس"! وكتب آخر تحت عنوان "إدامة الوهم" مصنفاً سكان الجزيرة بأنهم "شعب طائف"، وكتب آخر غير راض عن مهمته: "يتوجب علينا بالغش بدرجة أو بأخرى أن نؤكد أن هذا الشعب ينتمي إلى منطقة أخرى"، لكن القواعد كانت قد قررت، وعلى الآخرين أن ينفذوا القرار!

في البدء اتبعت أساليب الحيلة والتخويف للبدء بالتخلص من السكان، فمنع الذين اضطروا منهم الى السفر الى موريشيوس للعلاج مثلاً من العودة الى الجزيرة، تماماً كما فعل ويفعل الإسرائيليون مع الفلسطينيين. ثم اصدر حاكم "سيشيل"، (وهي جزيرة اخرى من جزر الأرخبيل، وتعتبر دييغو غارسيا تابعة لها)، السير بروس كريتباج, والذي أعطيت له مهمة "تنظيف" الجزيرة من سكانها، أصدر امراً بقتل جميع الكلاب المدجنة في الجزيرة. وتم بالفعل قتل الكلاب بواسطة خنقها بعوادم السيارات التابعة للجيش الأمريكي. "عندما كانت كلابهم تؤخذ منهم بالقوة لتقتل أمامهم، كان الأطفال يصرخون ويبكون" كما قالت احدى ساكنات الجزيرة السابقات أمام عدسة فلم وثائقي.

وحين بدأت عملية الإجلاء الإجباري لم يفكر احد حتى بتعويض السكان عن أرضهم ومنازلهم وممتلكاتهم، بل منعوا من أن يأخذوا منها اكثر من حقيبة واحدة الى السفينة، حيث سيحشرون في غرف الأمتعة بينما كانت خيول شركة "كوبرا" تنقل في الأماكن الأفضل من السفينة. وحين وصلوا إلى سيشيل سيقوا إلى احد السجون تمهيداً لنقلهم الى موريشيوس، حيث تم لفضهم على أرصفة الموانئ! بقي الكثير من هؤلاء يباتون في تلك الأرصفة معتقدين أن هناك سفينة قادمة ستقلهم في طريق العودة الى بلادهم، لكنها لم تأت أبداً. هذا الشعب الذي وجد نفسه فجأة بهذه الحال عانى من صدمة نفسية شديدة فانتشرت الأمراض النفسية والإنتحار والإدمان والدعارة والأمراض القلبية بشكل حاد.
لكن لم كل هذه الضجة من أجل 2000 شخص؟ في مقابلة مع شليسنجر الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في حينها، قال الرجل حين واجهه البعض بالحقائق: "انه أمر تافه إذا قورن بما فعلته بريطانيا في الحرب العالمية الثانية مثل الهجوم على درسدن"!

بعد اكثر من عشرة سنوات على الجريمة، وإثر المطالبات المتزايدة من قبل ناشطي "الشاكوس"، قررت الحكومة البريطانية تعويضهم ب 3 الاف باون لكل منهم، لم تكن كافية لسداد ديونهم التي اضطروا اليها لسداد تكاليف العيش. لكن هذا ليس كل ما في الأمر، فقد حرصت بريطانيا على أن يوقع كل مستلم للمبلغ تنازلاً عن حقه في العودة إلى أرضه، وكانت الوثائق مكتوبة بالإنكليزية التي لايفهمها السكان، الذين لم يفيقوا على ما كان يدبّر لهم إلا بعد فوات الأوان.
وفي عام 2000 حكمت المحكمة العليا البريطانية لصالحهم واعتبرت تهجيرهم غير قانوني، لكن "الإتفاقية مع واشنطن" كانت اهم من قرار المحكمة العليا بالنسبة لحكومة بلير، ولم تكن سوى صفقة تم تمريرها بين الحكومتين بعيداً عن البرلمان البريطاني والكونغرس الأمريكي، كما حاولوا ومازالوا يحاولون من أجل قواعدهم الجديدة في العراق بالضبط. كانت هناك مشكلة صغيرة، وهي كيف يطلبون من الكونغرس الموافقة على تكاليف عملية التهجير البالغة 14 مليون دولار؟ وكان الحل سهلاً كالعادة: قالوا لهم إنها مخصصة لتجهيز بعض صواريخ البحرية الأمريكية برؤوس نووية!

القرارات القضائية والبرلمانية ليست سوى عقبات يتوجب الإلتفاف حولها بالنسبة لأصحاب القواعد العسكرية وجماعتهم في الطرف الثاني. ولمواجهة قرار المحكمة البريطانية العليا تم اختراع الحيلة التالية: قامت "لجنة" بدراسة "جدوى" لم تجر أي حوار مع أي من السكان المعنيين، لكنها استنتجت أنه من المستحيل اقتصادياً على السكان العيش في الجزر، وأن تلك الجزر في حالة "غرق" مستمر بسبب التغير المناخي، بينما كان الأمريكان يبنون المزيد من المنشآت ويصفون الحياة على الجزر بأنها اجمل من أن تصدّق!

قال التقرير أن الجزر تعاني من الجفاف، بالرغم من أن جزيرة دييغو غارسيا تصنف كواحدة من أكثر المناطق في العالم غزارة في الأمطار، حيث تصل فيها إلى اربعة أمتار في العام الواحد. وقالت الحكومة أن ابقاء السكان على قيد الحياة يتطلب مساعدتهم مادياً، وأن هذه تكلف مبالغاً باهظة يجب دفعها من حساب دافع الضرائب البريطاني. وحين سأل عضو برلماني، وزير الخارجية بيل راميل عن المبلغ اللازم حسب تقدير اللجنة نفسها أجاب: خمسة ملايين باون في العام! ويعلق احد الناشطين قائلاً، حتى بافتراض صحة هذا التقدير فأن السفارات البريطانية الفخمة في موريشيوس وغيرها ربما تكلف دافع الضرائب البريطاني اكثر من هذا المبلغ!

وفي محاولة اخيرة للقضاء على الحكم الذي صدر لصالحهم عام 2000 تم استعمال احدى صلاحيات الملكة المندثرة والتي تستبقى على ما يبدو لمثل هذه الحالات (أنظر المقالة عن صراع الحكومة الأسترالية المنتخبة التي كانت على خلاف مع القواعد الأمريكية في بلادها، حيث تمت إزالة تلك الحكومة بواسطة فرمان ملكي بريطاني! )
وقعت ملكة بريطانيا في هذا الفرمان قراراً اصدره الـ (Ordering Council) بحرمان عودة "الشاكوس" إلى موطنهم وإلى الأبد، وقد حرصوا على إعلانه في يوم الإنتخابات البريطانية، في 10 حزيران 2004، لكي يضيع وسط اهتمام الناس باتجاه آخر. وهكذا خسر شعب جزيرة دييغو غارسيا بلاده لصالح القواعد العسكرية الأمريكية، ربما إلى الأبد!

قد تكون قصة صراع شعب "الشاكوس" مع القواعد العسكرية الأمريكية متطرفة في مأساويتها، لأن القواعد تكتفي عادة بفرض إرادتها على سيادة البلاد والتآمر على النظام السياسي بمختلف الطرق لضمان حكومة مناسبة لها، لاتمانع من تمديد عقودها وتتساهل في تطبيقها، لكن قصة دييغو غارسيا ترينا إلى أي مدى يمكن أن تذهب القوى الكبرى لتحقيق طموحاتها إن وجدت الفرصة لذلك، وكيف أنه يمكن في النهاية التلاعب ليس على نصوص العقد فقط وإنما حتى على القانون الدولي وحقوق الإنسان وعدم التورع في ارتكاب جرائم بحق الإنسانية دون خشية نيل جزاء، فحيث لايقوى القانون على فرض إرادته، لايكون لنصوصه أي معنى.

لم يعد لدى مواطنوا دييغو غارسيا "السابقون" سوى ترديد أغنية حزينة، عند نصب اقاموه عند سواحل البلاد الغريبة:

"عندما كنت في دييغو...كنت كالطائر الجميل في السماء..
ومنذ أن جئت إلى موريشيوس،
أصبحت حياتي بلا معنى...
ساعدني يا صديقي..
ساعدني لكي أغني...
لأرسل صوتي إلى العالم..."

(1) لنتعلم الحكمة من الذين وقعوا معاهدات قبلنا
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=142547

http://www.informationclearinghouse.info/article17466.htm

http://video.google.nl/videosearch?q=stealing+a+nation&hl=nl&sitesearch=#

http://www.informationclearinghouse.info/video1027.htm

http://en.wikipedia.org/wiki/Diego_Garcia








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الجامعات الأميركية.. عدوى التظاهرات تنتقل إلى باريس |#غر


.. لبنان وإسرائيل.. ورقة فرنسية للتهدئة |#غرفة_الأخبار




.. الجامعات التركية تنضم ا?لى الحراك الطلابي العالمي تضامنا مع


.. إسرائيل تستهدف منزلا سكنيا بمخيم البريج وسط قطاع غزة




.. غزة.. ماذا بعد؟ | جماعة أنصار الله تعلن أنها ستستهدف كل السف