الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطوات على طريق الأنسنة 2-2

نذير الماجد

2008 / 9 / 9
حقوق الانسان


الأنسنة في الوسط الإسلامي:

كل الأديان بما فيها الإسلام كانت بمعنى ما فلسفات مغلقة ذات مرجعية أسطورية أو ميتافيزيقية حاولت أن تقدم رؤى كونية أو أجوبة على تساؤلات أزلية أثقلت كاهل الإنسان وأرقته منذ فجر التاريخ، وبتتبع مسار هذه الأديان والرؤى المستمدة من مرجعياتها الفكرية يمكننا اكتشاف بذور أولية للأنسنة صالحة للتأسيس عليها شريطة اقتلاعها من سياقها المتعالي وموضعتها في سياق تاريخي "نسبي".

لن نعدم هذه البذور إذا ما بحثنا عنها في كل الأديان، والإسلام أيضا حاول أن يعزز نظرة أكثر أنسنة للإنسان ولكن ضمن منظور العقلانية الرائجة في القرن السابع الميلادي وهي العقلانية ذات الطابع الوحياني أي أنها تمنح الكائن البشري قيمة متصلة ومشروطة بالعلاقة مع الله أو الغيب. لكن نيتشة كان يقول: لقد مات الله!، وهذا توصيف مجازي يعني به حدوث تلك القطيعة التي دشنت الحداثة القائمة على الانحياز الكامل لهذا الكائن البشري بما يملكه من امتياز فريد جدا هو العقل. وباعتبار أن الفلسفة دين مفتوح تصبح الحداثة دين جديد يتمحور حول الإنسان نفسه والثقة بجهوده الحثيثة في مزاولة فعل التفكير الإبداعي وقدرته على حكم نفسه بنفسه، وبالتالي فالحداثة ليست سوى أنسنة لكل الحياة.

ولكن ما الذي يعوق الأنسنة والحداثة عن التمدد في وسط إسلامي؟ قبل محاولة الإجابة يجب التأكيد على عدم إمكانية تعميم فكر أنسني قبل تفكيك البنى التيولوجية والفقهية التي ساهمت لقرون في بلورة فلسفة خاصة لكائن بشري مشروط بالإيمان بمفهومه التيولوجي والفقهي الخاص، وتكمن أهمية هذه المقاربة الجريئة في أنها تؤدي إلى إثبات شيء واحد فقط هو تاريخية الفكر والمقولات الدينية حتى يتسنى للأنسنة أن تشيع كقيم بديلة، ولكن بعد تهيئة الأرضية الملائمة لاستنباتها.

إذ كيف يمكن إشاعة هذه القيم في وسط ديني يساوي بين القذارات والنجاسات وبين غير المسلم أو غير الكتابي فتكون النتيجة أن هذا الإنسان نجس العين ليس لشيء سوى لأنه يعتقد بشيء مغاير. والمفارقة أن هذا الحكم له قوة القانون على الأتباع فكيف يمكن إدماج الأنسنة في بيئة كهذه؟! هذه القيم التي تشكل انتماء كونيا يتجاوز الانتماءات ذات المرجعية القروسطية، هل يمكن أن تشيع في مناخ مشبع طائفيا؟ بل كيف يمكن حلحلة الطائفية بكل عقدها المتراكمة عبر التاريخ قبل مواجهة القراءة الأرثوذكسية للدين، كيف يمكن ذلك وكل قراءة من هذا الطراز تدعي لنفسها النجاة والحقيقة وما سواها في جهنم وبئس المصير؟!

لطالما تحدث في هذا المجال المفكر الجزائري الأصل محمد أركون حول الفكرة المركزية لإمكانية إحراز الحقانية "التوصل للحقيقة" ودورها في بناء تشكلات تيولوجية وأنظمة سياسية استبعادية "أو اقصائية" وعلاقة كل ذلك بمفهوم التعايش والتسامح الذين لا يمكن تحقيقهما إلا بعد إحداث قطيعة أبستمولوجية مع المفهوم المطلق للحقيقة المعمول به حتى الآن في الوسط الإسلامي، وهما المفهومان المركزيان الذين بدونهما لا تقوم للأنسنة قائمة.

الإنسان بين السماء والأرض:

هاهنا تتجلى الخطوة الأولى في طريق الأنسنة وهي مزاولة النقد التاريخي للفكر الإسلامي بمستوياته أو طبقاته الثلاث: الاسلام الشعبي، والإسلام الفقهي والتيولوجي وصولا للحظة التأسيسية، وهي عبارة عن رجوع للنص عبر اختراق الطبقات الناجمة عن الاحتكاكات البشرية بالمعطى الوحياني على امتداد التاريخ، وهنا يقترح أركون منهجا يتجاوز الاستشراق الذي توقف عند المنهجية الفللوجية والتاريخانية الوضعية «دراسة عمودية» للبدء بمرحلة تطبيق المنهجية التاريخية البنيوية «دراسة أفقية» ليصل للحظة الفلسفية ومزاولة النقد الأبستمولوجي للتراث الديني للكشف - أقول ذلك مؤكدا- عن تاريخية هذا التراث واستحالة تأبيده.

ثانيا: النقد التراثي سيمهد تلقائيا لتدين مختلف يستوعب كل تجربة دينية أخرى عبر هدم الفواصل والجدران العازلة بين المتدينين على اختلاف أديانهم، وهذه بالضبط مهمة علم الكلام الجديد أي ترسيخ المشترك بين الأديان وإهمال كل ما من شانه إثارة النزاع والنعرات والغرائز الطائفية.

ثالثا: في خطوة سيسيولوجية تلقائية ستحل فكرة التقدم محل فكرة الخلاص التي تمثل الدعامة لكل وعي طائفي أو عرقي- ثقافي. وهنا تبرز إشكاليات التنمية بتحدياتها الاقتصادية والسياسية والمعرفية والصحية من أجل بناء أوسع قاعدة سيسيولوجية للأنسنة.

رابعا: تجاوز الروابط البينية التي تشكل شبكة العلاقات الاجتماعية المستمدة من عصور يسميها الفيلسوف الأمريكي ول ديورانت "بعصور الإيمان" فالإيمان أهم هذه الروابط، ولا يمكن لأي شخص بشري أن يضمن أقل قدر متوخى من الأنسنة إلا بعد أن يحقق تلك الشروط الإيمانية "المأذونة"، فكل التعاليم والوصايا الدينية التي تخص العلاقات الاجتماعية مستمدة من شرط الإيمان، نجد مثلا: "إنما المؤمنون أخوة"، "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص"، "المؤمن كيس فطن"..الخ. كل هذه التعاليم تنمذج الشخص البشري وكل العلاقات الكائنة في إطار الجماعة الإيمانية، أي أن الشخصية النموذجية يجب أن تكون شخصية إيمانية وهذا ما لا يتوافق كليا مع قيم الأنسنة التي تجعل النمذجة موضوعية لا ذاتية داخلية أو نفسانية لأن الإيمان كما هو واضح قضية نفسانية "ذاتية" في الأساس.

يبقى شيء مهم لا يمكن تجاهله هو أهمية مزاولة التثقيف على أوسع نطاق من أجل إشاعة قيم الأنسنة في الوسط الاجتماعي لأن هنالك عدة صعوبات عملية تواجه فكر الأنسنة، ذلك أنه يتطلب مسبقات معرفية مغيبة عن شرائح واسعة في المجتمعات العربية والإسلامية، وهي لهذا السبب بالذات قد احتضنت التيارات الأصولية المبشرة بثقافة شفهية شعبوية على تضاد كلي مع الفكر الحداثي والأنسني. إذ كلما شاعت الأصولية والفكر المتطرف في وسط ما كلما خفت نجم الانسنة، لهذا لا نستغرب أن يغدو هذا الوسط الاجتماعي بيئة مفرخة لكائنات بشرية مستوحشة لا تتورع عن قتل الآلاف من العزل والآمنين لسبب أنهم كفار، ولتحقيق أمنية "سامية جدا في نظرهم" هي الظفر بحورية جميلة أو قصر مشيد في الآخرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السلطات التونسية تنقل المهاجرين إلى خارج العاصمة.. وأزمة متو


.. ضجة في المغرب بعد اختطاف وتعذيب 150 مغربيا في تايلاند | #منص




.. آثار تعذيب الاحتلال على جسد أسير محرر في غزة


.. تراجع الاحتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية.. واعتقال أكثر




.. كم بلغ عدد الموقوفين في شبكة الإتجار بالبشر وهل من امتداداتٍ