الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهوية الوطنية بين التهميش السياسي والتأصيل الثقافي

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2008 / 9 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


أفرزت حالة الاحتلال الانكلو أمريكي للعراق صورة منفلتة الاطر لحالة الهوية الوطنية العراقية . وقد كانت حالة النكوص العشوائي الى الهويات الفرعية (دينية ، عرقية ، مذهبية ، مناطقية) شاهدا واضح المعالم على حالة غياب التأصيل المفهومي والثقافي في الوعي الجمعي لمفهوم الانتماء والهوية الوطنيين . ورغم عظم أثر العامل التأريخي في حالة التغييب او عدم التأصيل هذه ، الا ان العبء الاكبر تتحمله – عمليا – النخب السياسية والثقافية العراقية ، وخاصة في مرحلة ما بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 . فهذه النخب الكولونيالية ونتاج ثقافتها – عمليا وفكريا – لم توجه عنايتها الا الى ما يخدم مصالحها السياسية وتوجهها القيادي في مراكز الدولة ، ووفق الوضع الظرفي لتلك المصالح .
ورغم ان النخبتين لم ترث اسسا مرجعية او تقاليد وقيم ثقافية وطنية ، بعد انهيار الدولة العثمانية – لقيام فلسفة العثمانين الاستعمارية على مفهوم التجزئة الوطنية وتذويب الثقافات الوطنية في الثقافة الطورانية – الا انها لم تسع الى تأسيس المفهوم التأصيلي للوعي الوطني الذي يؤسس (لثقافة) الهوية الوطنية ، ولو من باب رد الفعل الذي خلفه النهج التجزيئي للثقافة السياسية الطورانية ، وما تبعه من تكريس له من قبل الاستعمار البريطاني الذي تبعه . وهذا ما انسحب اثره الى مرحلة المد القومي الذي جعل الهوية القومية بديلا عن الهوية الوطنية عند القوميين ، والهوية الاسلامية عند الاسلاميين والهوية الاممية عند الماركسيين ، وهي الاتجاهات الفكرية التي توزعت عليها النخب السياسية والثقافية على حد سواء الى مرحلة ما بعد انقلاب 14 تموز / يوليو عام 1958 .

غياب المشروع الثقافي العراقي :

رغم ان انقلاب تموز / 1958 يمثل حالة نكوص في الثقافة السياسية العراقية لعودته بالعراق الى نظام الحكم الكولونيالي (حكم العسكر) المباشر ، الا ان المسؤولية الاكبر تقع على كاهل النخب الثقافية لانها لم تعمل على تأسيس المشروع الثقافي العراقي المستقل والمتماسك ، بنيويا ومفهوميا ، ولم ترسخ قيما مفهومية ومعرفية للثقافة الوطنية ، كبديل للثقافة الاجتماعية القبلية والعشائرية التي كانت سائدة كنتاج للمرحلة الاقطاعية التي يزيد عمرها الزمني على خمسة قرون . لقد توزعت الاسس الثقافية للنخب على الطروحات والايديولوجيات الاوربية بقوالبها الغربية ، دون هضم معرفي او استيعاب مفهومي يؤسس للمشروع المستقل المتماسك بنويويا والمتناغم مع الاطر المعرفية لقوالب الثقافة الاجتماعية ومدى استيعابها او تقبلها لمشروع التحديث الذي كانت تقترحه تلك الانساق الناضجة ضمن اسسها الحضارية ، باعتبارها نتاج تطوري لمفاعيل تلك الحضارات وتطورها الزمني . وهذا ما اوضحته حالة النكوص التي رافقت (الطروحات السياسية ) التي روج لها مشروع الاحتلال الامريكي تحت مسمى الحرية السياسية والديمقراطية وتداول السلطة السلمي ، والذي قادته الاحزاب السياسية التي رافق تشكيلها عملية الغزو للعراق ، ليروج كل حزب لمشروعه وفق ما يناسب اهدافه من الهويات الفرعية التي تضمن له الوصول الى المراكز القيادية في الدولة باسهل الطرق . وهنا ظهر الفراغ الثقافي في اوضح صوره بقبول الشارع لتلك الطروحات وانسياقه خلفها (بكل سذاجة) لقلة او انعدام حصانته الثقافية ، سياسيا ، والمعرفية ايضا ، والتي لم تؤهله لفهم ان المشروع انما يستهدفه في الصميم لانه يستهدفه في وحدته وهويته الوطنية ، فجاء مشروع الحرية الذي نادى به الاحتلال بصيغة ديمقراطية الاقنان الذي يكرس لشكل الاقطاع الجديد ، بجلباب السياسة بدل جلباب الاقتصاد (الملكيات الزراعية) . وسرعان ما تفتت الهوية الوطنية الى مجموعة من الولاءات الفرعية والفئوية ، بقيادة احزاب ،لا تملك من رصيد يزيد على الدعم المالي والاعلامي الذي وفرته ادارة الاحتلال لزعاماتها الموالية لنهجه التقسيمي الذي يضمن لها التربع على مقاعد السلطة .
فأين المشروع الثقافي العراقي اذن ، ومن يتحمل مسؤولية ترديه ونكوصه ،بكل هذه البساطة ، التي اعادت المجتمع الى عهد الاقطاع العشائري والطائفي الذي يقوده اصحاب البدلات واربطة العنق المستوردة والعمائم المنسوجة من الحرير ، بدل اصحاب الكوفية وعقال القصب ؟
ولنكون منصفين ، علينا الا ننكر حالة التنوع العرقي والديني والثقافي التي يعيشها العراق في تكوينه الاجتماعي ؛ ذلك التنوع الذي فرض ويفرض ظلاله على الهوية الوطنية الجامعة لوحدته كشعب – داخل اطاره الجغرافي والتاريخي او وحدة كيانه السياسي (الدولة) . ورغم ان هذا التنوع يفرض على الاقليات العرقية والدينية نوعا من الانكفاء على هذه الهويات كنوع من الحماية للخصوصية (الثقافية) امام هيمنة (الثقافة الوطنية) التي مثلتها الدولة ، بتسييدها لخصوصية هوية المجموع العام ، بصفته القومية والدينية ، على حساب الهوية الوطنية الجامعة على اساس الروح الوطنية وبخصائص مفهومية غير تمييزية تصهر الجميع ضمن بوتقتها التي تزيل أي امتياز او فارق لمكون على حساب باقي المكونات ، وبشكل يبدد هواجس التهديد للخصصوصيات الثقافية للاقليات العرقية والدينية .
وكل هذا يأتي كنتيجة لغياب المشروع الثقافي المؤسس لسيادة الوطنية كهوية جامعة لعموم ابناء الوطن كافراد اومكونات تتنوع بخصوصيات عرقية او دينية او اثنية .

سؤال الهوية : من انا ، من نحن ؟

يتمحور هذا السؤال او ينطلق من الذات في اطارها التأريخي : (عندما يتوقف الشعر يبدأ التاريخ او فعله ) ، ومن هنا تبدأ لحظة لملمة صورة الذات (الهوية) من مرآة العملية الاجتماعية ببعدها الاجتماعي اولا ، و التأريخي – السياسي ثانيا ،
كمحرض مرجعي على عملية التهميش او تغييب الهوية ، سواء لانعدام الوعي المعرفي بقيمتها او لاهداف سياسية صرف . ولكن ، وفي النهاية يلتقي العاملان في مصب عملية الاحساس بالانتماء والتفاعل معه على اساس من الوعي القيمي وشعور الاعتزاز الفعلي بقيمة الهوية والانتماء لها ، خارج مفاعيل العملية التاريخية وفروضها القهرية (بمعناها السياسي طبعا) .
وفي ظل غياب ثقافة الهوية الوطنية – تحت قهر الظروف السياسية – في حياة المواطن العراقي ، ظل سؤال الهوية يلح ، عبر عقود القهر السياسي : من انا ؟ كرد على عملية القهر والتمييز الطبقي ضد المواطن من قبل رجل السياسة والمتحكمين بمفاعيل وصياغة مفاصل العملية الحياتية وسيرورتها ، دون ان يكون شريكا في ذلك او ياخذ رايه فيه . من انا ومن نحن امام الفئة التي تستأثر بكل شيء وتتركنا لمواجهة مصيرنا ، كفئة دخيلة ، بل ومطالبة بتأدية كل اعباء الخدمة
التي توفر لتلك الفئة الصغيرة سبل الرفاه وبحبوحة العيش الرغيد والتسلط على رقاب المواطنين ؟
وبالمقابل ، هل تحملت نخبة المثقفين مسؤولياتها الاخلاقية والتاريخية تجاه كل هذا بالتأسيس لمشروع اعادة بناء الوعي الجمعي وفق متطلبات تلك الافرازات الاخطبوطية ؟ واين تمظهرت مفاصل ذلك التأسيس عبر مراحله التطورية ؟
الحقيقة هي ان ثمة تضافر غير معلن بين النخبة السياسية والثقافية على حصر الوعي بالهوية الوطنية بالشكل الشعاري والمرحلي (التكتيكي) الذي تفرضه طبيعة المرحلة وظرفها السياسي وبما يخدم المصالح السياسية لمن يتربع على سدة الحكم ، لا من اجل ترسيخها كوعي ثابت وحق وانتماء تترتب عليه حقوق صيانة وجود كيان الانسان وحقوقه الانسانية والمدنية .
من انا ومن نحن في دائرة الانتماء الوطني ؟ وما الذي تشكله الهوية من معاني الانتماء (التجريدي) ، خارج دائرة الحاجات والمصالح الذاتية ؟ وهل بالضرورة ان يرتبط شعور الانتماء الى الهوية الوطنية بدائرة الحاجات الاساسية التي تصون انسانية الانسان وكرامته ؟ والسؤال الاهم : ما الذي يتبقى من شعور الانتماء عندما تتحول الهوية الوطنية الى مجرد وسيلة اضطهاد بيد المؤسسة السياسية – العسكرية ، كما حدث في العراق في عهده الجمهوري ، وخاصة في فترة الجمهورية الرابعة التي تربع على سدتها البعثيون بقيادة طاغية العصر صدام ، وفترة الجمهورية الخامسة ، التي نعيشها الان ، والتي يقودها أذناب الاحتلال وادواته من احزاب الاسلام السياسي ؟ واخيرا : من المسؤول عن الاجابة على فاتورة هذه الاسئلة امام المواطن ، الذي تحولت هويته الى عبء يثقل كاهله وهم يطارده ؟ فبسببها يقتل ويشرد ويتحول الى لاجيء غير مرغوب فيه !
الجواب البديهي هو : النخب السياسية هي المسؤول الاول عن الاجابة طبعا ، باعتبارها المسؤول الاول عن كفر المواطن بهويته .. ولكن وقبلها ، أليست النخب الثقافية هي المسؤول (المرجعي) لانها لم تتحمل مسؤولياتها تجاه المجتمع ، بسبب عدم تأصيلها لوعي الهوية والانتماء الوطنيين وفق اسس مرجعية ، انسانية اولا ،وحضارية ثانيا ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأميركيون العرب -غاضبون من بايدن ولا يطيقون ترامب- | الأخبا


.. اسرائيل تغتال مجدداً قيادياً في حزب الله، والحزب يتوعد | الأ




.. روسيا ترفع رؤوسها النووية والناتو يرفع المليارات.. | #ملف_ال


.. تباين مواقف الأطراف المعنية بمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة




.. القصف التركي شمالي العراق يعطل انتعاش السياحة الداخلية الموس