الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الإرهاب الفكريّ : الجذور والثمار

مهدى بندق

2008 / 9 / 12
الارهاب, الحرب والسلام


يتأسس الإرهاب الفكري على نزعة أصولية قوامها التعامل مع الوجود من منطلق التمركز حول شخص أو حدث – واقعيّ أو مُتخيّـل- ُيتخذ معياراً للمعرفة، ودليلاً وحيداً للحقيقة. ومن ثم فلا مجال لاختبار صواب أو خطأ المعتقد ، وإنما المطلوب – حسب ُ - العملُ على تثبيته بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة أو التهديد بها ماديا ً أو التلويح بمخرجاتها معنويا ً . محاكم التفتيش في القرون الوسطي الأوربية نموذج للنوع الأول ، و"ماكارثية" القرن العشرين نموذجها الثاني ، أما النوع الثالث [ التهديد المعنوي ] فمشترك بين العقائد التي تنذر بعذاب ما بعد الموت ، لمن يفكر ، مجرد تفكير ، في الخروج على نصوصها حسبما يفسرها الكهنوت السائد .

وفي تاريخنا العربي الإسلامي مثال على الجمع بين تلك النماذج الثلاثة في وثيقة واحدة . . تلك هي الوثيقة التي أصدرها الخليفة ُ القائم العباسي ّ (1040 ميلادي = 433 هـ) بتقنينه ما أسماه أبوه الخليفة ُ القادر "العقيدة َ الصحيحة " في بنود محددة : تكفير كل من لا يُسلـّم بأن كلام الله قديم وأن أفعال الإنسان مُـقدرة ٌ سلفاً، وأن المؤمن ليس له أن يسأل عن أسباب الله ، حتى وإن عاقب المحسن َ ونـّعم المسيء [ أنظر شرح العقيدة للإمام السنوسي . ت 895 هـ ] َ ويقوم الاعتقاد " القادري ّ "أيضا ً على تكفير من يُقـَـِّدم الإمام عليّ بن أبي طالب على الشيخين، ، وإخراج الذي يتقوّل على عائشة من الملة، ونفي صفة المسلم عمن يجحد معاوية ، وأما تارك الصلاة فلا ُيصلى عليه ، و ُيحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون .
الاعتقاد القادري إذن حزمة ٌ مترابطة من الأفكار الدينية والسياسية غايتها توطيد دعائم السلطة ، والعصف بمعارضيها أيا كانت انتماءاتهم أو مشاربهم ، جنبا ً إلى جنب ترويع البسطاء ممن لا يعرفون الفروق بين الملل والنحل، ولا بين النصوص ومقاصدها ، فيسلمون أدمغتهم لفقهاء وشيوخ السلطان دون تحفظ .
وبهذا "الديكرتو" السلطويّ أمست الشيعة والمعتزلة والفلاسفة مارقين بنظر الدولة، يحق لها قتلهم وتعذيبهم ونفيهم ، وصار التهديد بتطبيق العقوبات على المراوحين بين الطاعة والعصيان مألوفا ً ، وأضحى واجباً أن تروّع شيوخ ُ السلطة العامة َ بتفاصيل ما ينتظرهم من عذاب جهنم إن راودهم الشك في هذا الاعتقاد القادريّ ، ذلك الذي سوف يثنى عليه فيما بعد كثر ٌ من الأئمة في مقدمتهم الحافظ الذهبي، وابن القيم الجوزي، وابن كثير، والسيوطي ، وابن الصلاح .
ولك أن تتصور كيف مضت حياة الناس العلمية والثقافية بالتوازي مع حياتهم السياسية والاقتصادية لمائتي عام ونيف في ظل هذا الحال إلى أن سقط ذلك الديكرتو الرهيب بسقوط الخلافة العباسية ذاتها عام 1258 ميلادي.
فهل انتهى بذلك عصر الإرهاب الفكري ؟ كلا ، وآية ذلك أن الأصولية ما لبثت حتى وجدت نصيرا ً لها في فكر الفقيه تقي الدين بن تيميه الدمشقي المتوفى عام 1328 ميلادي، وكان من أتباع الحنابلة المتأخرين، فشدد النكير على الشيعة وعلماء الكلام والمتصوفة، وعارض ما أسماه "البدع" في كل أمر من أمور الدين والدنيا، ودعا إلى الأخذ بمرجعية واحدة هي القرآن والسنة حسبُ.. دون التفات منه إلى المتغيرات الحياتية المطردة ، والتي تتطلب الاجتهاد للموائمة بين محددات النص المفترض فيه " الاطلاقية" ، وبين أنسقة العلم ومناهج العمل ، وجميعها إنسانية نسبية .
وقد ظل فكرُ ابن تيميه هذا قابعاً كامنا ً لدى المريدين والأتباع إلى أن قـُـيـّدَ له أن يجد جماعة ً سياسية ً تروج له، وسلطة ً تتبناه ، وقد وقع ذلك بالتحالف بين محمد بن عبد الوهاب من شيوخ نجد، وبين زعيم من وسط الجزيرة العربية: محمد بن سعود (ت 1845 ميلادي) فكان أن ظهر التيار الوهابي، وظل قائماً ، رغم انكسار شوكته العسكرية أمام الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي الكبير.
كان لابد أن يمر قرن ونصف قرن من الزمان، قبل أن يجد التيار الوهابي فرصته للثأر [ثقافيا ً] من المصريين. وقد وجدها في كارثة حزيران 1967 حيث ضربت مصرَ الأزماتُ السياسية ُ والاقتصادية ُ، ما اضطرها للاعتماد على معونات دول الخليج لإعادة بناء قواتها المسلحة، وما اضطر فقراء شعبها للزحف بحثاً عن العمل هناك- خاصة المملكة- تحت وطأة الحاجة الشديدة، فكان شرط قبولهم ثم بقائهم في أعمالهم أن يلتحفوا بثقافة الوهابيين البدوية المتزمتة، وأن يندمجوا معها إلى درجة التماهي. وحال عودة العائدين منهم إلى الوطن، لم يكن أمامهم من بديل للانسلاخ عن هذه الثقافة، لا سيما وأن الدولة المدنية في مصر كانت قد بدأت هي الأخرى في التآكل لحساب أصولية داخلية، أفسح لها نظام "السادات" المجال للظهور وللنمو ، بغرض تصفية الناصريين وضرب اليساريين. وهكذا انفتحت النوافذ أمام رياح العنف المادي والفكري كي ُتقتلع "السنبلة" المصرية ُ من تربتها الطيبة، ولـُتغرس بدلاً منها ثقافة ُ "البلطة" التي تبحث عن رأس تشجه.
لكن ثقافة أخرى كانت ، ولا تزال تعمل في مصر على تجاوز المحنة، ثقافة ً تؤمن بالإبداع، وتؤمن بأن مصر وإن قبعت في دهليز العالم العربي، إلا أنها مازالت تفتح قلبها وعقلها لثقافات العالم بأصولها وفروعها ، وعليه فلا مندوحة أمامها من الأخذ بأسباب التحديث: علوماً طبيعية وإنسانية، فلسفة ً وفنوناً وآداباً، فضلاً عن ضرورة سعيها للحاق بالموجة الثالثة – بتعبير ألفن توفللر- التي هي بناء الاقتصاد على معطيات المعرفة العلمية، وإدماج الإبداع الوطني في نسيج الثقافة العصرية، باعتباره رأس المال الرمزي للأمة ضمن المكوّن الاقتصادي للبلاد، بما يسمح له بإنتاج القيمة Value والقيمة المضافة Added Value.
بيد أن هذا الاتجاه الرامي لتحديث العقل المصري بمبادرات تستهدف التطبيق العملي لرؤية العصر، لم يكن مرضياً بالإطلاق للتيار الأصولي، بل على العكس كان حافزاً على أن يتوحش إزاء كل من يبدى رأياً في مسألة- أية مسألة - حتى ولو لم تكن ركناً من أركان الدين الخمسة، أو حتى محل إجماع [ الحجاب مثالا ً لا حصرا ً] وبالمناسبة فإن الإجماع لم يعد حجة في أصول الفقه منذ رفضه الإمام "الباقلاني" كمسلك ٍ للعلة(كتاب التمهيد)، وأيده في ذلك "الشوكاني" قائلاً: إن المخالفين في القياس هم بعض الأمة فلا تتم دعوى الإجماع بدونهم (كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول).
لكن ثقافة الإرهاب الفكري الأصولي الوهابي لا يعنيها من ذلك كله إلا تجريح الإنجازات علميةّ كانت أو فكرية أو أدبية ، بحسبانها بدعا ً مآلها النار! ولأن الإرهاب الفكري لا يملك الآليات " التقنية "القادرة علي مواجهة هذه الإنجازات على أرض الفكر، فإنه يلجأ إلى الالتفاف حولها، والاندفاع إلى تصفية رموزها ً جسدياً وسياسياً واجتماعيا ً: فرج فودة ، نجيب محفوظ ، نصر حامد أبو زيد، أحمد عبد المعطي حجازي ، حلمي سالم ...الخ بدعوى أنهم أبدوا آراء مخالفةً في قضايا أراد لها الإرهاب أن ترتدي مسوح الدين، بينما هي محض اجتماعية. والمثال على هذا أن من عارضوا مطلب تعميم الحجاب لم يتجاوزوا حقهم المشروع في إبداء تخوفهم من استقطاب الشعب إلى معسكرين [عن طريق تعميم زيٍّ شبه ِ رسمي للمسلمين دون الأقباط ] إدراكا ً منهم أنه لو ارتدى كل جانب زيا ً خاصا ً به ، لكان المصريون بذلك يدقون أول مسمار في نعش وحدتهم الوطنية ، وساعتها تكون جذور الإرهاب الفكري قد أعطت ثمارها المرة ، وحققت مراد القوى الشريرة الساعية لتقسيم البلاد .. وقى الله الكنانة شر المقادير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتدي ضربا على مسيرة مؤيدة لفلسطين في فلوريدا


.. كيف تحايل ترمب على قرار حظر النشر في قضية شراء الصمت ؟




.. حركة نزوح عكسية للغزيين من رفح.. 30 ألفا يغادرون يوميا منذ ا


.. جذب الناخبين -غير المهتمين-.. مهمة يسعى لها كل من ترمب وبايد




.. العملات المشفرة.. سلاح جديد لترمب لجذب الناخبين -غير المهتمي