الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصدع

ايناس البدران

2008 / 9 / 14
الادب والفن



مع كل صدع هناك دوما فسحة يتسلل منها النور .
حين ناداه صوتها المعافى مؤنسا خواء غرفته كان في خضم البحث عن اسم لذلك الشيء الذي استوطنه كوباء ، اسم يعبر عن حالة الانزواء في ابعد نقطة للنفس ، وعقد طويل الامد مع الحزن امام عبثية الحلم بعودة الزمن – الذي اجله لما بعد الغيب – الى الوراء ، وكيف يفسر تحول وجهه الذي كان يوما وسيما وشابا الى هيئة ليمونة ذابلة تعلوها عدستان سميكتان تضخمان كل ما حوله بشكل مهول ضاعف من احساسه بالضآلة . سار بخطوات بطيئة مرتديا منامته الصيف - شتوية ذاتها ، فقد خلف العجلة وراءه بعد ان استحال الى صار مقصوم الظهر لمركب مغروز بوحل الواقع .
نظر الى المائدة النظيفة بأصنافها المتواضعة المكررة التي تتفنن زوجته في تقديمها كل يوم مثلها مثل كومبارس يؤدي دوره الصغير بذات الحماس دون ان يخبو لديه الأمل باعتلاء عرش البطولة يوما ، قالت في شبه اعتذار :
- غدا سأصنع لك طبق الدجاج الذي تحب
وافقها بهزات مقتضبة من رأسه وهو ينظر بشهية مصدودة الى الأطباق البلاستيكية ، وراح يقلب بأوراق الذاكرة بحثا عن اسم ذلك الفيلسوف الذي ابى اكل الدجاج حين وصف له شفاء لعلته ووجد نفسه يردد ذات الكلمات :
- استضعفوك فأكلوك
نظرت اليه باسمة وهي تخاطبه بحنو :
- اصبحت قليل الكلام
مازال صوتها يمده ببعض القوة . تابعها بعينيه وهي تذرع المطبخ جيئة وذهابا ، تجلب اطباقا تغرف طعاما ، ترتب الخضرة المبلولة في المشبك البلاستيكي .. هو ايضا كان يعمل بنشاط وهمة قبل ان يكتشف انه افرط في ثقته بالاخرين . كان ذلك حين كشف العجز الخطير في ميزانيته ، بعدها صار يجد راحته في الصمت والانزواء حتى وان كان في صحبة الاخرين . ايقن ان الوحدة حالة انسانية لايملؤها اي من البشر وان التعود عليها يعني الاكتفاء والاستغناء عن مشاعر الاخرين المتحولة الزائلة . اما هي فقد ترك لها الدفة توجهها حيث تشاء ، والمدهش انها عبرت بسفينتهم كل المتاهات والالتواءات الزلقة متجاوزة حافات الأوحال والمياه الآسنة في وقت كان فيه يعاني من الذهول والعجز التام .
ذات يوم نصحه صديقه الوحيد باللجوء على طبيب نفسي الذي اشار عليه بدوره بمساعدة نفسه ! ووصف له حبوبا صار يتناولها عشوائيا حتى كادت تودي به الى مهاوي الادمان ..هكذا اكتفى بالتظاهر بأن كل شيء على ما يرام وبالتمثيل .. ابرع اختراع انفرد به بنو البشر عن سواهم من الكائنات ، وبه انبهروا حتى صاروا يشيدون له صالات العرض الباذخة والمسارح المنيفة ، وينظرون لمن برعوا به كنجوم السماء !
مدت يدها لتضع امامه قطعة خبز ساخنة ، وبصوت ذكره بقشطة الصباح حدثته قائلة :
- انتهيت من خبزه قبل قليل ، تذوقه قبل ان يبرد .
داعب انفه شذى عطر صابون هف من ثوبها ذي الورود الزهرية ، كم يحب اثوابها الفضفاضة البسيطة ، انها تحمله الى عالم طفولي مفعم بعشب الربيع وازاهيره القزحية . سألها وهو يدس لقمة خبز في فمه المتيبس :
- اين ندى ؟
اجابته وهي تبعد بأناملها البيضاء خصلة شعر تدلت على جبهتها :
- ندى خرجت مع بنات خالتها وستقضي فترة ما بعد الظهر كلها معهن .
تنهد .. كم يؤلمه انه سيترك ابنته الوحيدة البريئة حد ما يسمونه بالتخلف وحدها في هذا العالم المليء بالذئاب ، عالم الغابة حيث الناس منقسمون الى ذئاب وحملان ، و الذي كثيرا ما ترتدي فيه الذئاب ثياب الحملان وتتحدث بلغتها ليسهل عليها التهامها الواحد تلو الاخر ، ولكن ليس قبل ان ترتدي قفازاتها الحريرية اخفاء للبصمات ، ومع استحالة الامنية الا انه ود في سره لو يفصل الحملان عن الذئاب كل في عالم مستقل .
انتهيا مما اسمياه وجبة طعام ، بدأت زوجته بجمع الاطباق وهي تتحرك بأرتباك لايتناسب وهيئة جسمها الممتليء ولا مع طبيعتها الهادئة .. قال دون ان يرفع رأسه عن المنضدة :
- ما بك ؟
لاشيء
هو بأصرار :
- بل تخفين شيئا .
امسكت يده واقتادته الى غرفة الضيوف الصغيرة ، الغرفة التي اصبحت منسية متروكة مذ حصل ما حصل ، حين لم تعد سمعته فوق مستوى الشبهات ، وصارت النظرات المصوبة اليه معاول هدم كسرت داخله كل ما هو قابل للكسر وما اكثره .. اشارت المرأة بسبابتها الى صدع امتد على طول الجدار بتفرعات ثعبانية سوداء كأنه مبعوث سوء طالع من قوة غاشمة جاءت للأمعان بأيذائه .. امسك برأسه بعد ان لفه دوار مفاجيء وردد بصوت مفجوع :
البيت .. بيتنا ، كيف حصل هذا ؟!
تهاوى على اقرب اريكة محاولا التقاط انفاسه وتذكر ، يوم عاد الى عمله بعد انقطاع وقبل ثبوت اي من الاتهامات الموكلة اليه .. كان الكل ينظر صوبه كأنه لايراه ، او لايريد ان يراه .. ود يومها لو قال للذين استغلوا ثقته انهم بعملهم ذاك لم يقضوا على مستقبله الوظيفي حسب ، وانما اختلسوا حاضره ومستقبله وكل ما كان مصدر فخر له ولأسرته الصغيرة ، وكاد ان يتفوه بعبارات بلهاء مثل :
- يؤسفني انكم .. او اقسم انني ..
الا انه لحسن الحظ ازدرد لسانه في اللحظة الاخيرة ، اذ لم يعد بمقدوره احتمال اي تعليق يحمل في طياته معاني تلميح او تشف او تعاطف لزج تمثيلي من اي منهم .
وقد راهن على براءته حتى لحظة النطق بالحكم كمقامرة في مضمار .. فيما الكل ينظر بدم بارد بأنتظار كبوته .. ولأول مرة يشعر بالندم لانه وافق اخيه على بيع البيت الكبير . ليستقل كل ببيته بعيدا عن الاخر ، لكنه لم يبتاعه الا بعد ان اكد له من باعه اياه مكانته وصموده .. آه البيت ملاذهم الاخير .. وطنهم داخل الوطن .. العيش الكريم الذي كان يذخره لوحيدته .
قالت زوجته محاولة تهوين الامر وهي تربت على كتفه :
- بأمكاننا بيع الســيارة الخردة المتروكه للصدأ في المرآب والاستدانة .. ورأب الصدع .
كان عقله يشتعل كالأتون ، هل يذهب الى من باعه البيت ويصرخ في وجهه معاتبا مهددا ؟ ولكن ما جدوى مجهود كهذا مع رجل ماكر قدم له كل الضمانات مشفوعة بأغلظ الأيمان ، والقانون لايحمي المغفلين ، فهل يضمه الى قائمة من اختلسوه ؟
سار محني الظهر بخطوات بطيئة بأتجاه غرفته ، مارا في طريقه بالمطبخ فوقعت عيناه على المائدة ، لم يكن قد بقي عليها سوى بقايا لبقايا طعام ، وكان جل تفكيره منصبا في الصدع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي