الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الضمير التقاعدي الإسرائيلي

برهوم جرايسي

2008 / 9 / 22
القضية الفلسطينية


ابتدعت السياسة الإسرائيلية على مر عشرات السنين الكثير من المصطلحات الفاقدة لأي موضوعية ومنطقية، حتى كونت لنفسها قاموسا يهدف إلى قولبة سياستها، سعيا لإيجاد شرعية لها، بالاستناد إلى اختلال موازين القوى لصالحها في العالم.
ولكن السياسة الإسرائيلية ونهج ساستها، يدفعونك أحيانا لتدلي بدلوك في هذا المجال، ولتبحث عن مصطلحات تلائم ظواهر قد لا يكون مثيل لها في العالم، ففي هذا الأسبوع بزّ رئيس حكومة إسرائيل، إيهود أولمرت، في خطابين سياسيين، لو سلخناهما عن سياقهما، ولم نسندهما إلى ركائز الإجماع الصهيوني، الذي غذاه أولمرت من خلال نهجه في السنوات الأخيرة، لسعينا لدى الأوصياء على جائزة نوبل للسلام أن يسارعوا لمنحه جائزة فوق العادة، وفي هذه الأيام، قبل أن يخلي منصبه.
أولمرت وأمام جلسة حكومته الأسبوعية، كما في اليوم التالي، أمام اللجنة البرلمانية للشؤون الأمنية والخارجية، وعظ كثيرا بأهمية إسراع إسرائيل في إبرام اتفاق مع الفلسطينيين، لأنه بات على قناعة بأن "مبدأ أرض إسرائيل الكاملة" لم يعد بالإمكان تطبيقه، و"من يصر على ذلك فإنه يوقع نفسه في أوهام" كما قال.
واسترسل أولمرت يتحدث عن أهمية السلام، وعن ركائز الأمن الإسرائيلي: "فمتر هنا ومتر هناك لن يضمن أمن إسرائيل في وجه تهديدات الصواريخ"، والحل كما يراه أولمرت هو الإسراع لإبرام اتفاقيات سلام مع فلسطين وسورية ولبنان.
قال وتحدث وحكى دون أن يتلعثم أولمرت بكلمة واحدة، وقد يطلب طالبٌ، ويدعونا داعي إلى أن ننظر إلى نصف الكأس الملآن في خطاب أولمرت، وأن ننظر إلى التغير في توجهاته، وأن نفتك عن "تشاؤمنا ونظرتنا السوداوية"، ويا ليت المعادلة هي كتلك، ويا ليت جوهر الكلام كظاهره.
فأولمرت هو شخصية نادرة في الحلبة السياسية الإسرائيلية، إذ لم يرصد له أي صحفي أو وسيلة إعلام واحدة أية "زلة لسان" طوال سنوات عمله السياسي خاصة الأخيرة، وهي "الزلات" التي ورطت الكثير من ساسة إسرائيل، كما أن خطاباته محسوبة ومدروسة بتفاصيلها وفواصلها ونقاطها وجملها الاعتراضية، لهذا، فهم في إسرائيل، يفهمون ويدركون ما يقصد، وعدم صدور بيانات التنديد بكلامه، لم يكن من منطلق أن الرجل يمضي آخر أيامه في منصبه، بل لأن ما قاله، حتى في هذه الصياغة، لا يخرج عن ركائز الإجماع الصهيوني.
فعندما يتحدث أولمرت عن عدم إمكانية تطبيق مبدأ "أرض إسرائيل الكاملة" (فلسطين التاريخية)، فهذا ليس بجديد، فأولمرت قال في نفس الجلسة أنه يعتبر "كل متر غربي نهر الأردن هو أرض إسرائيل الكاملة"، إلا أنه في السنوات الأخيرة باتت جميع القوى السياسية الأساسية على قناعة بعدم إمكانية السيطرة على كامل أجزاء فلسطين التاريخية، والتعبير عن انهيار هذا المبدأ، من ناحيتهم، من الممكن أن يكون من خلال أي انسحاب من الضفة الغربية، مهما صغر حجمه.
كما أن أولمرت حين يتحدث عن انسحاب بنسبة 100% من مساحة الضفة الغربية فإن هذه المساحة لا تشمل أكثر من 110 كيلومترات مربعة هي مساحة مدينة القدس المحتلة ومنطقة نفوذها في عمق الضفة الغربية شمالا وشرقا وجنوبا، بموجب خارطة التوسع الإحتلالية.
كذلك فإن أولمرت كرر، في نفس خطابه، موقفه الرافض لحق عودة اللاجئين، قبل أن ينطق "بجوهرته الجديدة"، حين أبدى استعداده "متنازلا" للإعراب عن أسفه للمأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني، فكل الحكاية عبارة أسف، ليتمم "الواجب الأخلاقي"، قبل أن يعلو المنصة ليتسلم "قلادة نوبل".
ورغم ذلك فإن أولمرت قال كلاما معسولا ما كان سيقوله لو كان سيبقى في منصبه، ولهذا فإن أولمرت ككثيرين من سابقيه في سدة الحكم في إسرائيل، نشأ لديه ما يمكن تسميته، "الضمير التقاعدي"، ومثل هذه الظاهرة رأيناها عند كثيرين من الإسرائيليين لدى مغادرتهم مناصبهم، إن كانت سياسية رفيعة، أو على رأس الأجهزة الأمنية والإستخباراتية.
فأمثال هؤلاء يبدأون فجأة في الحديث بلهجة غير تلك التي كانوا ينطقون بها لدى توليهم مناصبهم، فمثلا حدث أن ثلاثة رؤساء لجهاز الاستخبارات العامة، "الشاباك" في سنوات التسعين، يعقوب بيري وكارمي غيلون وعامي أيالون، انتقلوا فور خروجهم إلى التقاعد إلى معسكر اليسار وحتى معسكر السلام في إسرائيل، وكل واحد منهم كان قد اتخذ خلال توليه منصبه قرارات لارتكاب أبشع الجرائم، وخاصة الاغتيالات والتعذيب.
ومثلهم جنرالات في جيش الاحتلال الإسرائيلي، مثل عمرام متسناع الذي كان لفترة قائد جيش الاحتلال في منطقة المركز، بمعنى أنه مسؤول عن غالبية مناطق الضفة الغربية المحتلة، والقائمة تطول، وعلى مستويات مختلفة.
فهؤلاء ليس لهم وزن في الشارع الإسرائيلي، وحتى الآن لا نجد "فريدريك دي كليرك" إسرائيلي (آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا)، يقود نظام الحكم في إسرائيل إلى استراتيجية سلمية حقيقية في جوهرها، ولا يتعامل مع العملية السياسية كمجرد مناورة للمماطلة إلى حين تمرير كافة المشاريع الاستيطانية ذات البعد الاستراتيجي، وهي التي ساهم بشكل أساسي في وضعها في منطقة القدس المحتلة، أولمرت ذاته، وهو يطبقها الآن على أرض الواقع.
دي كليرك الإسرائيلي، بحاجة إلى تغيير عقلية المؤسسة العسكرية، والأيديولوجيات التي تبني نفسها عليها، وهو بحاجة إلى انقلاب في الرأي العام والأجواء الإسرائيلية، التي قتلت رئيس حكومة، يتسحاق رابين، رغم انه حين وقع ضحية اغتيال كان ما يزال بعيدا جدا عن دي كليرك، إذا صح أخذه نموذجا.
ومرّة أخرى، هذا ليس من باب الرؤية السوداوية المطبقة للأمور والتيئيس من أي أفق سياسي، بل من أجل عدم السقوط في الأوهام، وقراءة الواقع بحقيقته، فالأفق السياسي موجود وبالإمكان تحقيقه لولا اختلال موازين القوى العالمية الذي يعمل لصالح إسرائيل ويرفض الضغط عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟