الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة ..الصمت

نعمة ياسين عكظ

2008 / 9 / 27
الادب والفن



بين الحين والحين يعتدل بجلسته ويمسح نظارته الطبية وهو ينظر الى اللاشيء امامه . كأنه يتفحص لوحة فنية ليكتشف مدلولاتها أو ايحاءاتها ... كانت هي ترقبه طوال اكثر من ساعة , ولم ينبس احدهما ببنت شفة ... هي في سرها تريد ان تكسر جدار الصمت , لانها كبقية نساء الارض تريد الحديث عن اي شيء ... المهم ان هناك صوت يطرد من الغرفة التي تجمعهما هذا الصمت القاتل .... هو في الحقيقة يريد ان يتحدث ... ان يسأل ... أن يصرخ بأعلى صوته ... لكنه يريد ان يسمعه شخص ما ...شخص يهتم بما يقوله ... أحد يوجه اليه اسئلة كثيرة تعتصر قلبه ... احد معني بصورة مباشرة بهذا الحديث او تلك الاسئلة ... لم يكن سكوته استهانة بها وهي التي عاشرته طيلة الثلاثين سنة الماضية وعاشوا حياتهم بحلوها ومرها ... تخاصموا وتصالحوا .... تكلموا واجتروا الاحاديث التي كانت تعنيهم دون غيرهم ... السكن , الاطفال , العمل , المصروفات , الملابس , وكل مايدور من احاديث بين زوجين ... كانت هي تراجع في سرها ذكرياتها معه وكلامه الحلو ... فما باله منذ ايام يلتزم الصمت ؟ ... وحين تبادره بالحديث لا يتعدى جوابه كلمة او اثنين , ويلو بالصمت .
زملائه حيث كان المتميز بينهم بحلو الحديث وتنسيق الجمل واختيار الالفاظ ... كثيرا ما كان يكسر صمتهم بإثارة حوار ما حول موضوع معين يقحمهم فيه ويسمع ارائهم ونقاشاتهم ثم يدخلهم في التأويلات الفلسفية والاجتماعية ... زبين الفينة والاخرى لا يبخل عليهم بنكاته الظريفة وتعليقاته الساخرة ... هم كزوجته لاحظوا صمته وميله للانعزال ... وكم حاولوا ارجاعه الى سجيته الاولى دون جدوى ... مما جعل هذا الصمت مادة لتأويلاتهم وتحليلاتهم .... أحدهم اعتبرها خيبة امل , وأخر اصر على انه عمر الشيخوخة , وثالث اراد ان يثبت بالبراهين انه مرض نفسي نتيجة لصدمة ما ... وهناك من اعطاه الحق واعتبر صمته هو عين العقل .. فما فائدة الحديث اذا لم يكن هناك مستمع؟.... ما جدواه ان لم يترك بصمة لدى السامع؟ ... ما تأثيره بين الاصوات الصاخبة الهادرة الداعية الى كلام خرافات و اساطير وأوهام ؟... ما نفع ان تقول للص لا تسرق او لقاتل لا تقتل !؟ ...وغير ذلك من الاحتمالات والتأويلات التي حملها له اقرب اصدقائه ليحاول من خلالها اخراجه من هذا الصمت , وهو يعرف جيدا ان الصمت عنده هو الموت بعينه ... بعد ان غادره الضيف دون ان يحصل الا على بعض كلمات الترحيب والوداع المقتضبة جدا , دخلت زوجته لعلها تجد بعض التغيير بعد هذه الزيارة متذرعة بسؤاله عما اذا كان يريد المذياع لسماع الاخبار ؟ ... نظر اليها مليا وقال ما فائدة الكذب واخبار الحزن والقتل والكلام المعسول والوعود البراقة ...
أيام تمر على العائلة عصيبة وطويلة وقاسية خاصة على هذه المرأة المسكينة , حائرة ماذا تفعل حيال هذا الموقف وما هو السبيل للخروج من هذا الحدث الذي زلزل كيان الاسرة , وفرض مناخا مأساويا حزينا على البيت الذي كان يعج بالحركة ويصخب بالكلام والطرائف واللعب والجد ... الاولاد يحسبونه صديقهم وملاذهم الامن عندما تندلع ثورة الام عليهم ... يشرح لهم دروسهم يستفسر عن احوالهم في المدرسة ودرجاتهم الامتحانية يمازح الكبير ويقبل الصغير ... كل هذا اصبح ماضيا ... فمنذ ايام لم يعد لهم ذلك الاب الذي عرفوه وبالكاد يروه عندما يدخل أو يخرج من والى العمل ... وجوم وصمت وحزن عم كل ارجاء البيت وساكنيه ...
على غير عادته في أحد الايام ارتدى ملابسه وسرح شعره وعندما هم بالخروج من البيت بادررته زوجته : هل انت خارج؟ ... وبدون ان تنتظر الرد اردفت اليوم عطلة ! . أجابها بإيماءة بسيطة من رأسه .... تصارعت في رأسها فكرتان ... فرح ورغبة بانه بدأ يخف من هذا المرض فليخرج الى اصحابه واصدقائه لعل في ذلك مفتاح العلاج ... لكنها في نفس الوقت قلقة لا تريد منه ان يخرج لانها تعلم ان احدهم يلقي خطبة هذا اليوم ولعل الارهاب سيستغل هذا التجمع فهم يتصيدون مثل هذه المواقف وفي ذلك خطر على حياته ... واخيرا قبلت بالخيار الثاني متمنية وداعية ان لا يصيبه مكروه.
في الساحة العامة كانت حشزد من الناس مجتمعة تستمع لخطاب لمسؤول ما ... يوصيهم بالمبايعة والطاعة والتزام القوانين التي شرعها والصبر على الشدائد والثواب والعقاب ... تسائل مانفع مثل هذا الكلام بالنسبة لفقير مثلي ؟ ... هل يشبع من جوع او يغني من عوز ؟ ... وبسرعة قرر ان يضع صوته الذي كان يختزنه على ورقة وكتب عليها خمس كلمات واخترق الجموع زائحا هذا ودافعا ذاك وقبل ان يصل بخطوات ... ارتاب من حركته حراس المسؤول فكانت النتيجة رصاصة تخترق جبهته ليسقط صريعا بين الجموع... تقدم احدهم ليأخذ الورقة من يده قرأ فيها نحن الجياع ..نريد الخبز والحرية صاح صارخا نريد الخبز ... صاح اخر نريد الحرية تبعتهم مجموعة وهي ترفع جثمانه على الاكتاف مرددة نريد الخبز والحرية صاحت الجموع نريد الخبز والحرية ... نريد الخبز والحرية وهي تزحف صوب المسؤول ... طلقات نارية ... سيارات سريعة مبتعدة ... بعد لحظات سكتت البنادق وظل الصدى يردد الخبز والحرية ... الخبز والحرية ....
د. نعمة ياسين عكظ النجف









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي