الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيون

عدنان الدراجي

2008 / 9 / 27
الادب والفن


نلت السبق وحزت أول استثناء خرقت به تقليدا مقدسا يحرم السفر, كنت مزهوا وفخورا إلا أني اعترف في قرارة نفسي أن هذا الاستثناء قد لا يتكرر إلا بعد زمن طويل أو تحل بنا نازلة مهولة أشد من كارثة الجفاف التي أجبرت كبراء البلدة على إيفادي إلى بلد المياه العذبة, أقبلت الجموع زرافات لتوديعي إذ لم يتخلف أحد عن الاشتراك في الطقس الفريد.
حضرت بعد اختيارهم لي عدة اجتماعات لمجلس البلدة أفهمت خلالها كيف أسافر وماذا افعل ومع من سأتصل وقد كرر أهل الاختصاص على مسامعي توصياتهم حتى حفظتها عن ظهر قلب.
كانت لحظة الوداع مرعبة إذ بدأت المراسيم بشهقات النساء الناحبات المولولات ثم ارتجت الأرجاء بأهازيج حماسية وزعيق حاد أطاح بسكون الليل, استنزف العناق والمصافحة قواي ولما أسافر بعد, وأخيرا انطلقت لا ألوي على شيء فأمامي مراحل كثيرة يجب أن اطويها في توقيت محدد.
استقبلني فجر بلد المياه بنسائم منعشة, تسكعت قليلا ثم دلفت إلى فندق تفوح منه الروائح الزكية, أغرتني وفرة المياه إلى أطالة مكوثي في الحمام إذ غمرت بدني بالماء مطلقا العنان لآمالي تسرح حيث تشاء حتى سمعت طرقات على باب غرفتي وقبل ارتداء ملابسي تنشقت أبخرة معطرة لطعام شهي.
منحت نفسي عدة ساعات من الراحة لاسترجاع قواي قبل لقاء ممثل السلطة, كان الرجل مضيافا لطيفا وقد أبدى استعداده التام لتقديم ما يلزمني من خدمات إلا انه أثار تعجبي بإشاراته المتكررة التي أراد بها لفت انتباه الجُلوس إليَّ ساهيا عن ملاحظتي لما يفعل, استغرق ترتيب لقائي مع إدارة المياه بعض الوقت.
كانت الطرافة والغرابة تحيطني منذ دخولي لهذه البلدة, فما هممت بعبور شارع حتى يصرخ احدهم بوجهي طالبا الإمساك بيدي ليقودني إلى ضفة الشارع الأخرى, إن أحاديثهم الزاعقة لا تخلوا مطلقا من مفردات مثل شاهدت و رأيت ونظرت, قد ثبت لي أنهم يعانون ضعفا شديدا في حاستي الشم والتذوق إضافة إلى الصمم الجزئي.
حدث في احد أيام مباحثاتي مع إدارة المياه أن سمعت احدهم يهمس بصوت عال إلى زميله ويحدثه عني قائلا لولا تشوه وجه زائرنا المسكين لكان جديرا بهذه المهمة المعقدة, ثم أدار رأسه باتجاهي وتساءل ترى هل ولد أعمى أم ذهبت عيناه من جراء حادث ما؟ أجابه زميله أن الرجل ليس أعمى تماما فهو يرى بعض الشيء, ألا تلاحظ تصرفاته الواثقة؟ ثم ختما همسهما الزاعق بشكر الله والثناء عليه على نعمة الصحة وتمام الخلقة, تكرر الأمر في الفندق والشارع وفي بنايات الإدارات المختلفة التي زرتها خلال مباحثاتي, لكن لن أنسى ما حييت همسات شرطي الأمن الذي وصفني بالمسخ.
أوقعوني في حيرة مدمرة, ترى ما الذي جعلهم يتوهمون أن في وجهي تشوها ما, أيعقل أن يغفل عنه الحاسدون من أبناء بلدتي؟؟ مستحيل فهؤلاء بحثوا بجهدهم عن إي شائبة ليعيقوا تكليفي بهذه السفارة دون جدوى, جعلوني أشك بوسامتي وقدرة حواسي الفائقة إلا أن ثقتي بنفسي سرعان ما عادت حين تذكرت هيام الفتيات بوسامتي وقدرتي على الإبصار ببصيرة يحسدني عليها الجميع.
يا لصفاقة الناس هنا أيصفونني بالمسخ وأنا أكثر الرجال وسامة في بلدتي, آه كم سئمت عشقهم للعيون المترهلة, ليت لي عينين(وما تمنيت ذلك من قبل) تريني سحنهم القبيحة لأًعرفهم من هو المسخ, كم أثاروا تعجبي فهم يلصقون عيوبا بالآخرين ويغفلون عن مثالبهم.
ما عدت أعير همسهم أي اهتمام, فانا عاهدت أبناء بلدتي أن لا أعود إلا وبيدي ما يروي ظمأهم لذا انشغلت بالتفاصيل الدقيقة للمعاهدة المزمع توقيعها, سارت المباحثات في أول الأمر سيرا طيبا لكن خبيرا متشائما توقع أمطارا شحيحة صلب موقفهم وأعاد المباحثات إلى نقطة انطلاقتها الأولى, كانت المفارقة أنهم يقدسون وسائلهم البالية التي يعتمدونها في رسم توقعاتهم مع اعتداد في النفس يدفعهم دائما إلى رفض سماع ما يخالف قناعاتهم.
تدحرجت المباحثات إلى هاوية الفشل لكن بارقة الأمل بدأت تلوح في أفقي إذ تنشقت رائحة المطر صباح هذا اليوم.

د.عدنان الدراجي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري