الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأحزاب المغربية.. تراجيديا السقوط نحو قمة الحكومة

عبد الإله بوحمالة

2008 / 9 / 30
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


تجربة عباس الفاسي وحزبه، (حزب الاستقلال)، هي التجربة الثانية بعد تلك التي قادها عبد الرحمن اليوسفي والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أواخر التسعينيات وبداية القرن الحالي في ما عرف بحكومة التناوب. والتجربتان معا تلتقيان في الشكل والمضمون والسياق بشكل يكاد يكون متطابقا، لأنه ببساطة لا شيء حدث بين التجربتين وقليلة هي الأشياء التي تغيرت بين الزمنين.
وإذا كان عبد الرحمن اليوسفي خرج من التجربة برمتها بحصيلة من الخسائر، فإن الخسارة الكبرى كانت هي الضربة القاصمة التي نزلت على ظهر حزبه الذي كان في ما قبل في طليعة المعارضة وظل يحمل لواءها لعقود بشكل حضي باحترام وتعاطف نسبة كبيرة من الفئات الشعبية وغير الشعبية كانت تثق فيه وفي برنامجه وأطره وخطه المذهبي وخطابيه السياسي والإعلامي، وكانت تعقد عليه الآمال العريضة وتصوت له في الانتخابات رغم المضايقات والصعوبات، ثم أدارت له ظهر المجن بعد ما لاحظت بالملموس أنه فعل نفس الشيء في حقها في أول منعطف وعند أول امتحان، بمجرد ما قطع النهر إلى الضفة الأخرى، وبمجرد ما أمسكت أطره بزمام الاستوزار وكرس الحزب بدوره، كسابقيه، حالة الاستمرارية والجمود والتراجع وبرهن على أنه ليس أقل عجزا من الآخرين، ولا أشد حرصا منهم على الصالح العام، ولا أكثر وفاء بالتزاماته ووعوده حيال ناخبيه، فكانت النتيجة أن دخل الحزب مباشرة في مسلسل من الانهيار والخفوت وأصبح من منظور المتعاطفين معه حزبا عاديا باردا لا يميزه شيء عن تلك الأحزاب التي كان يسميها إدارية وفاسدة وكان ينعتها بكونها انتهازية وفاقدة للمشروعية، في الوقت الذي ظل يبني مجده وتاريخه النضالي على مواجهتها وانتقاد طريقتها في تدبير الشأن العام.
وهكذا ذهب الاتحاد الاشتراكي وتنحى جانبا ليلعق جراحه القاتلة ويرمم انكساره في الظل، وجاء الدور الآن على حزب الاستقلال بعد انتخابات شتنبر 2007، ليختار بمحض إرادته السير في نفس الطريق ويرافق نفس الحلفاء والأولياء ويتحرك في ظل نفس الشروط، مما يوحي بالبداهة أنه سيصل في نهاية المطاف إلى نفس المقصلة ويذوق من نفس الكأس ويلقى بالتالي نفس المصير التراجيدي، سواء أتم مدة حكومته إلى آخر أنفاسها أم خرج أو أخرج منها عنوة قبل الأوان.
وإذا ما تأملنا التجربتين معا سنجد أن الاحتكام إلى ما يسمى بالمنهجية الديموقراطية والاحتفاء الشديد بها من قبل بعض الأحزاب ليس في حقيقته إلا سوق قاس لها نحو مسلخة حزبية حقيقية لا سبيل إلى الخلاص من نصالها في ظل حالة الثبات السائدة، وفي ظل تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
وبالتالي فإن حزبا مقبلا على تشكيل وقيادة حكومة في هذا الزمن مهما كانت قوته وعنفوانه وامتداده الشعبي هو، قبل هذا وذاك، حزب مقبل مع سبق الوعي والإصرار على انتحار سياسي أكيد، شكله وميدانه وطريقته وملابساته معروفة سلفا ويمكن إجمال أهمها في المقدمات العشر التالية:
أولا: الحكم في ظل دستور لا يعطي للوزير الأول ولا للحكومة التابعة له صلاحيات واسعة يمكن من خلالها تطبيق السياسات ومباشرة الإصلاحات من داخل حقل اختصاصها دون مغبة الدخول في حقل اختصاصات فاعلين آخرين أعلى أو أدنى، يجعل الهامش المتاح أمامها مجرد قمقم ضيق خانق لا يسمح بالحركة ولا يحفز على فعل ولا يشجع على مبادرة.
ثانيا: الحكم في ظل ملكية تنفيذية يمسك فيها الملك بكثير من خيوط التشريع والتنفيذ والتحكيم والمراقبة والتتبع والتوجيه وأحيانا الردع والزجر والإقالة والجزاء والتبرع والعفو وأعمال الخير والإحسان..
وانخراطه في سياسة متعددة المشارب الإيديولوجية وبلا حدود فكرية تتجاور فيها النفحة المخزنية التقليدية مع النفحة الحداثية العصرية، وتختلط فيها الخلفية الدينية الإسلامية بالخلفية الليبرالية الرأسمالية.. بل وأيضا تحضر فيها الرؤية اليسارية الاشتراكية، حيث نجد ملكية العهد الجديد انطلقت منذ البداية على خلفية تحليل المجتمع تحليلا طبقيا وقاربت قضاياه وفق هذا المنظور سواء في المرحلة الأولى حينما تركز الاهتمام على الفئات الفقيرة المعوزة أو في المرحلة الحالية لما انتقل الحديث إلى ضرورة دعم وتوسيع الطبقة الوسطى والاهتمام بمستقبلها.
كل هذا يجعل مضمار العمل الحكومي وكأنه طريق مفروش بالأشواك والمحاذير ومطوق بعلامات قف وتحديد السرعة وتغيير الاتجاه.. بل يجعل منه متاهة من التقاطعات والألغاز الكابحة للعمل الواضح السهل المرن.
ثالثا: الحكم في ظل احتضان الحكومة لوزارات سيادية ومؤسسات لا تدين بالتبعية الحقيقية ولا بالولاء الكامل لسلطتها، ولا تنسق في قراراتها مع الوزير الأول، هذا في الوقت الذي تضطر فيه الحكومة إلى تحمل كل تبعات السياسات التي تنهجها هذه الوزارات وكل جرائر الإجراءات التي تتخذها تلك المؤسسات وتنوء بوزر أخطائها يوميا في هذا القطاع أو ذاك.
رابعا: الحكم في ظل تحالفات متعددة مصطنعة وترقيعية تحول دون انسجام الفعل الحكومي وتحد من فاعلية القرار المتخذة وتعلي من شأن العمل الفردي القاصر وفق جزر وأرخبيلات عشائرية حزبية متباعدة لا يمكنها أن تنتج أو تكرر إلا الخطط الفاشلة.
خامسا: الحكم في ظل استمرار آفة الفساد المالي والإداري التي استحكمت في دواليب نظام الإدارة والتسيير والتمثيل مركزيا وجهويا.. وتفشي ثقافة التساهل والتواطؤ في محاسبة المسؤولين عن الخروقات.. وضعف آليات الرقابة والزجر والركون إلى سياسة الطي المتعمد لكل ملفات الفضائح المالية وعمليات الاختلاس وسوء التدبير.. وغياب الإرادة السياسية التي تجعل من أنظمة الافتحاص وتدقيق الحسابات آلية عادية ومرنة وشفافة ودورية للجم شكيمة التطاول على المال العام والضرب بيد من حديد على الأيادي التي تمتد إليه بغير وجه حق من مسارب السرقة المكشوفة جهارا نهارا، أو بالطرق والحيل المموهة بصيغة النفخ في ميزانيات المشاريع أو اختلاق مشاريع وهمية على الورق.. يجعل الحكومات تأتي وترحل فيما تبقى هذه البنيات ثابتة يكتوي بنارها المواطن العادي الذي يصرف معاناته مع هذا الواقع نقمة وسخطا على الحكومات المتوالية والأحزاب المشكلة لها.
سادسا: الحكم في ظل خضوع الجهاز القضائي خضوعا معيبا إلى مؤثرات ضاغطة متنوعة المصادر مختلفة النفوذ متفاوتة الحظوة والسطوة، بالشكل الذي أصبح يهدد استقلالية هذا الجهاز ونزاهته وحياديته ويدفعه بالتالي للتوغل في التراجع وفقدان النجاعة والمصداقية.
سابعا: الحكم في ظل الامتحان اليومي المفتوح الذي تعيش فيه الحكومة من خلال الإضرابات والتجمعات الاحتجاجية والاعتصامات التي تخوضها فئات شعبية وجمعيات ومنظمات وتنسيقيات سواء خارج المظلات النقابية والحزبية أو داخلها، الشيء الذي يقطع الطريق أمام الحكومة فعليا وبالدليل الحي الملموس ويمنعها من أي إمكانية للتملص من المسؤولية أو إنكارها أو التماطل في مباشرة حلها، أو على الأقل ممارسة نوع من التعمية في الاعتراف بها، كما جرت العادة برسم صورة وردية لواقع داكن موجود في الشارع أمام الملأ بما تجيده الأحزاب الحاكمة في مثل هذا الموقف من بلاغة الالتفاف اللغوي وتقنيات الكذب والمغالطة.
ثامنا: الحكم في ظل تنامي سلطة "العين المفتوحة" التي أصبحت تمارسها الصحف المستقلة حيال اختلالات التدبير الحكومي وضعف الأداء وانحراف سلوك بعض الوزراء، وذلك من خلال عمل صحفي متطور أثبت بالتجربة لدى الرأي العام مصداقيته ومهنيته المضطردة وتوسله بخطاب إعلامي شفاف مقتحم غير متهيب يضع المسؤولين يوميا وجها لوجه أمام مفارقات وعودهم المعسولة وإنجازاتهم المتواضعة ويكشف الهوة السحيقة بين الواقع العيان والكلام الرنان، بدون تلك التحفظات التي كانت في السابق تمليها المحاباة الحزبية أو الأطماع النفعية المصلحية.
ثم سلطة العين "الغامزة" التي أصبحت تمارسها بعض الصحف الحزبية المشاركة في الحكومة مشاركة (نص/ نص)، حيث يصبح النقد في الوقت الذي يراد منه تبريء ذمة الذات من تبعات عمل من أعمال الحكومة اعترافا صريحا فصيحا بالفشل والعجز والفساد.. والاعتراف سيد الأدلة كما يقال خصوصا إذا شهد شاهد من أهلها.
تاسعا: الحكم في ظل تواتر مؤشرات وأرقام وتقارير تنشرها منظمات وطنية أو مؤسسات دولية تكشف عورة الحكومة وترصد حالة التردي المتواصل كل سنة في معدلات التنمية والتضخم والأمية والبطالة وتفضح تراجع سلطة القانون وغياب الأمن وانتهاك حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
عاشرا: وأخيرا، الحكم في ظل فراغ سياسي وعزوف انتخابي وتقلص كبير في نسبة المشاركة الشعبية وتفكك في الوشائج بين المجتمع ونخبه وأحزابه مما يجعل الحكومات سواء الحالية أو المقبلة تشتغل عارية الظهر بلا سند ولا قواعد تدافع عنها وتحميها، وتجد نفسها، بالتالي، حكومات تحكم وسط تيار عدائي جارف وبقانون لعب سياسي غير واضح وعديم الضمانات.
هذه هي النتيجة إذن، وهذه هي المقدمات التي تجعلنا نؤكد في الختام أن ما حدث للاتحاد الاشتراكي سابقا، وما يحدث لحزب الاستقلال حاليا، لا يشكل حالات استثنائية أو خاصة، وإنما هو الواقع الجديد الذي أفرزته المنهجية الديموقراطية في صيغتها المغربية، وهو المآل الذي ينتظر باقي الأحزاب التي تنخرط في ممارسة الحكم أو المشاركة فيه دون ضمانات أو شروط.
وتبقى مثل هذه المشاركات عند المواطنين من عامة الناس بمثابة تهمة في صحيفة سوابق أي حزب أقدم عليها، وقد لا تبلى بالتقادم ومرور الزمن إلا إذا ارتفع هذا الواقع كليا وحل محله واقع آخر نظيف وسليم ومتوازن.. أي واقع ديموقراطي حقيقي بفاعلين ديموقراطيين مخلصين.. دون ذلك هي المقصلة تنتظر الجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نيويورك تايمز: صور غزة أبلغ من الكلمات في إقناع الآخرين بضرو


.. فريق العربية في غزة.. مراسلون أمام الكاميرا.. آباء وأمهات خل




.. تركيا تقرر وقف التجارة بشكل نهائي مع إسرائيل


.. عمدة لندن صادق خان يفوز بولاية ثالثة




.. لماذا أثارت نتائج الانتخابات البريطانية قلق بايدن؟