الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على درجات المئذنة

منهل السراج

2008 / 10 / 1
الادب والفن


كنت في السادسة حين جربت أن أصوم لأول مرة، كنت في الصف الأوّل الابتدائيّ وفي الأيام الأولى من السنة الدراسية. طول نهار الصوم أكثر من خمسة عشرة ساعة.
أغضبني أنّ الصائمين يُميَّزون بالجلوس إلى المائدة الرئيسية بينما المفطرون الأطفال ينتظرون أن يفرغ الصائمون ليأكلوا، وكنت أحسّ حين أجلس إلى المائدة وأبدأ بالطعام كالقطّة التي تنبش في حاوية الزبالة لتأكل ما يتيسّر لها من بقايا، فكنت أتذمّر وكثيراً ماتركت المائدة حردانة، ولكنّ عنادي هذا لم يُجْدِ. استمرّت أمّي في زعمها أنّ المفطرين من الأطفال أقلّ شأناً من الصائمين الكبار، وظلّ طعامنا بقايا فطور الصائمين، إلى أن قرّرت أن أحوز على مرتبة الصائم وأجلس عند رأس المائدة ولو أنّي في السادسة.

فغرت أمي فمها حين أبلغتها بجدية بأن توقظني على السحور. امتلأ وجهها بالحبور والتفتت إلى أبي: ماشاء الله هالبنت طالعة "ديّنة".
نادتني في الثانية ليلاً، أيقظتني أوّل أفراد العائلة. كانت ضاحكة ومستبشرة بالبنت التي ستفتح باب الجنة وربما ينوب أمها التي ربّتها جزء من الثواب. تركتُ فراشي ميّتة من النعاس، تظاهرتُ بالعزم ومضيت إلى سفرة السحور العامرة بالأطباق نظيفة الحواف، لم يلمسها أحد بعد. راحت أمي تدللني كما لم تفعل مع زوجها أبي سيد البيت، راحت تأخذ مني الخبز المقضوم وتأكله، وتناولني الصحيح، وتتباهى أمام اخوتي الكبار وأبي بتلك الصغيرة إذ نفعت التربية فيها.


كانت أمي كالنحلة، تشتغل مثلها وتلسع مثلها. حين يفوّت أبي أو أخوتي الصلوات تؤنّبهم ناصحة: الصائم من دون صلاة كالراعي من دون عصا. ولكن لا مستجيب، الكل صائم وعلى الأغلب متعب وصامت. إلى وقت الغروب، يأتي الفرج بصوت "أبو رحمون" الذي يسعل ويتمهّل ثمّ، الله أكبر، ويبدأ الطعام، وبعد دقائق تنتشر سحب الدخان، وحين يشبعون بعد جوع النهار، يبدأ صخبهم وتبدأ أمي صلواتها، صلواتها التي كنت ومازلت أحسّ أنها أكثر من الفرض والسنة، وأطول بكثير من المسلسل التلفزيونيّ.
تسحّرت بلا شهية، كنت أودّ أن أرجع إلى النوم، ولكنّ أمّي أمرتني ببشاشة:
ـ ستصلّين الصباح ثم تنامين، حتى تنالي ثواب النهار كاملاً.

لا أذكر بالضبط إن كان الثواب قصراً في الجنة أم نهراً من العسل، كانت حين تجدنا لا نكترث لتلك الثوابات، تحرّك أحلامنا بثوابات أخرى: قصر كبير ومن فيه دمى تتحرك على البطاريات.
جلست على حافة الكرسي بجانبها، أحلم بالملك والملكة على البطارية، وهي تقرأ القرآن وأنا أنتظر الأذان، وحين قال المؤذّن: يا أمة خبر الأنام أمسكوا عن الطعام.. هرول الجميع يغبّ الماء، أشعل أبي سيجارته الأخيرة واختفى أخي في غرفته ليدخّن أيضاً سيجارته الأخيرة. شربت الماء وجلست أنتظر الفجر موعد صلاة الصبح. أدّيت ما طلبت مني أمي، فرضاً وسنة. ورجعت إلى سريري صائمة. حاولت النوم، عبثاً، كنت مشغولة الفكر بأني صائمة وبأنه عليّ ألا آكل ولا أشرب.


لم أنم. نام الجميع، وأنا مستيقظة أفكّر بصومي وبأهمّيتي وجنّتي ورضا أمي.. أمعن بالتفكير فتزداد إرادتي وثقتي بنفسي، ولكن فجأة وفي عزّ كبريائي، أحسست برغبة بالذهاب إلى التواليت. ما العمل؟ ربما لا يحقّ للصائم أن يدخل إلى التواليت حتى يحين موعد الإفطار.
جلستُ أنتظر أن يصحو أحد وأسأل عن الأمر، ولكن كان الكل نياماً، وأمي الحنونة التي يمكن أن تجيبني دون سخرية، نائمة وأبي في غرفة نومهما، التي لا يحقّ لأحد أن يدخل أو يقرع الباب إلا للأمور الشديدة. ماذا أفعل؟
قررت أن أدخل إلى التواليت ولا أخبر أحداً.

كان دوامي في المدرسة بعد الظهر ولم تجد محاولاتي في النوم حتى موعد المدرسة. وهكذا حين بلغت الحادية عشرة موعد ذهابي إلى المدرسة صار صومي سبع ساعات كاملة. عطشت وجعت واشتهيت أن آكل حتى من الإفطار الصباحي البسيط الذي وضعته أمي للمفطرين. ولكن هيهات، لا يمكن أن أخذل أمي وأفطر، أو أقول إني جائعة، لأني أصبحت فتاة كبيرة وسوف أجلس إلى مائدة الإفطار الرئيسية.
أخذت خرجية مضاعفة من أمي، وقالت ضاحكة أن أشتري إفطارية.


مضيت إلى المدرسة لأخبر رفيقاتي بصومي، وكنّ كثيرات في السادسة من عمرهن صائمات. دخلت المعلّمة وسألت من هن الصائمات فرفعنا كلنا أصابعنا، فقالت: شاطرات. وبدأت درسها، العدّ إلى العشرين، وعشرين عصا على أصابع البنات اللواتي أخطأن، وواحدة دج الراس باللوح، وواحدة أخذت دفتر التوقيع لتدور به على الصفوف، وفتاة ذهبت لتغسل كندرة المعلمة، وأنا كنت غائبة في صومي وجوعي وعطشي. انتهت الحصتان الملصقتان ببعضهما وهرولت إلى حديقة المدرسة الخلفية حيث أستطيع أن أستظلّ بشجرة. سحب الآذن النربيج من الحنفية وترك الماء يتدفق، واندفعت من عطشي أغسل وجهي.
ولكن حين لامست شفتاي الماء، ادّعيت أمام نفسي أنه فقط أحتاج أن أتمضمض. قالت لي أمي قبل ذهابي أنه يمكن للصائم أن يتمضمض، حتى وإن كانت رائحة فمه كريح الجنة. فكرت يومها كيف تكون ريح الجنة هكذا، هذا أمر غير مشجع.

تمضمضت وتمضمضت حتى نزلت من دون إرادتي أو بإرادتي بضع قطرات إلى حلقي ومن ثم إلى بطني.
أكملت النهار شبه صائمة، وعدت إلى البيت حزينة وخجلة. لم أشتر الإفطارية ولم آبه لمكافآت أمي، جلست مع الصائمين وضميري يؤنّبني وربّي يخبرني أنه لن أنال قصراً ولا أبطالاً ببطاريات، بل سأقضي سنين لا تحصى في النار لأني ابتلعت قطرات من الماء ولم أعترف لأمي بذلك. لم تجذبني الأطباق المزينة التي لم يلمسها أحد، كما تفعل حين أكون مفطرة، أكلت مما أمامي، وشبعت من اللقيمات الأولى، امتلأ بطني وأوجعني ونمت قبل موعد المسلسل. ومرضت في الليلة نفسها.
أشفقت أمي عليّ، ونصحتني أن أصوم على درجات المئذنة.
فعلت بنصيحتها ومن يومها وأنا أرضى بمائدة المفطرين، بل لا أشتهي كثيراً مائدة الصائمين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق