الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حملـة «السور الواقـي» بين النتائج ومتطلبات الصمود الفلسطيني

فهد سليمان

2002 / 5 / 29
القضية الفلسطينية


  
 أولاً ـ المرحلة الأولى: (29 /3 ـ 28 /4)
دخلت المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في 29/3/2002 مرحلة جديدة تميّزها عما سبقها منذ اندلاع الانتفاضة من مواجهات. إذ انتقلت من أسلوب المعارك والاعتداءات، التي تتخللـها فترات توقف واتصالات، إلى أسلوب الحرب التي تدار منهجياً على مختلف المحاور حتى بلوغ أهدافها المعلنة. فالعدو، مع استمرار حربه العدوانية وتصعيدها، نحَّى جانباً المناورة وأفصح بوضوح عن أهدافه التي يمكن اختزالها بما يلي: إعادة الاحتلال بأشكاله المباشرة، شطب معظم ما سبق أن حققته العملية السياسية، على تعثرها، منذ أوسلو، وبالذات السيطرة الفلسطينية على المدن وتدمير بنى السلطة التي تشكلت، بما هي بنى «لدولة ناقص» لا تكتمل سماتها إلا بتوفير تلك المقومات التي تسمح لها ببسط سيادتها على رقعة مترابطة من الأرض، مساحة وشعباً ومقدرات ومعابـر تطل على العالم الخارجي. وهذا ما كان يفترض، من منظور الطموح الفلسطيني كما عبـر عنه الطرف الفلسطيني المفاوض، أن يتحقق من خلال المفاوضات حول الحل الدائم وفور استكمال عناصر هذا الحل.
 
 
 هذه النقلة النوعية في المدى والاستهداف العدواني الذي بلغته الحملة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني لم يكن بالإمكان أن تقع لولا ضلوع الولايات المتحدة المباشر، ما يجعل واشنطن طرفاً شريكاً كاملاً وبما يتجاوز قطعاً مجرد التغطية السياسية على العدوان في ظل عجز عربي رسمي كان معروفاً ومرصوداً ومقدراً له أن لا يتجاوز الحدود التي التزم بها وتقيّد بأصولها المرعية حتى هذه اللحظة.
كما أن هذه النقلة لم تكن ممكنة التحقق لولا استكمال شرطها الداخلي الإسرائيلي المتمثل ليس فقط بحكومة «الوحدة الوطنية» التي تتحكم بـ 87 مقعداً من أصل 120 في الكنيست، بل بافتقاد المجتمع الإسرائيلي إلى أي طرح سياسي منافس تتبناه قوى معارضة مؤثرة. فالمعارضة السياسية غائبة، وحزب العمل المستوعب في الائتلاف يفتقد للرؤية والوحدة والزعامة معاً، مما أدى إلى اقتصار المعارضة عملياً على العرب الفلسطينيين وتشكيلاتهم السياسية.
كما أن هذه النقلة لم تكن ممكنة لولا الانمحاء الروسي، فضلاً عن الإحجام الأوروبي عن القيام بتدخلات سياسية ذات مردود عملي بفعل التباين الواضح بين حساسيتين سياسيتين بشكل عام بـريطانيا ومن يتقاطع معها من جهة، وفرنسا ومن يؤازرها من جهة أخرى، وهو تباين يربك محصلة القرار الأوروبي ويضعف تأثيره. يضاف إلى ذلك، تلك الحساسية الأوروبية الأقرب إلى الموقف العربي والحقوق الفلسطينية، بتجنبها الاحتكاك الذي يتجاوز حدوداً معيّنة مع سياسة الولايات المتحدة ناهيك عن الاصطدام بها.
إذن هي حرب إسرائيلية، تخاض بأهداف معلنة، بمشاركة أمريكية وإحجام أوروبي وغياب روسي وعجز عربي رسمي، لاستئناف الاحتلال بالعودة إلى أشكاله المباشرة، وتقويض مرتكزات الحالة الفلسطينية، سلطة وانتفاضة ومنظمات ومقاومة، بكل ما يترتب على هذا من احتمالات مستقبلية تمهد لها منذ الآن، إلى تصريحات مـن نمط « نتساريم كتل أبيب»، والمضي بمخططات الاستيطان (34 نقطة استيطانية جديدة منذ أن أتى شارون إلى الحكم) والضم بالأمر الواقع من خلال إقامة ما يسمى بالمناطق العازلة وتضييق الخناق على المدن.. فطالما استحال سحب الفلسطينيين من أرضهم بالتهجير، فلتسحب الأرض منهم بالمصادرة والجرف والتطويق..
كما أن الاحتلال انتقل من حالة تجمع بين الاحتـلال المباشر على المناطق (ب) و(جـ) والمعابـر الحدودية من جهة، والمظلة الاحتلالية على المدن والمناطق المسماة (أ) من جهة أخرى إلى حالة الاحتلال المباشر دونما تمايز، كذلك الأمر فإن السلطة الفلسطينية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 29 /3 فالهدف المعلن لشارون هو إحلال «مجلس بلدي معمم» يدير الشؤون المدنية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية مع ترتيب خاص لغزة يحفظ لها «كيانها» أبناء القطاع بصمودهم … هذا هو سقف الحل المرسوم إسرائيلياً، وهو فحوى رؤية شارون، التي تُقدم كحل يرتكز إلى ترتيبات انتقالية طويلة الأجل، تلحظ بعد «تأهيل واختبار الجانب الفلسطيني» (يسميها شارون مرحلة انتقالية لإعادة تربية الفلسطينيين بطريقة لا تشمل الكفاح المسلح) التفاوض على «مساحة» الدولة وليس «حدودها»، لأنها لن تملك حدوداً مع الأردن ولا معابـر معه تحت السيادة الفلسطينية إذن دولة بلا تواصل جغرافي إلا بالبنى التحتية (!)، وبلا حدود بل كخطوط داخلية مع المناطق التي سوف تصبح إسرائيلية، وبلا عاصمة، فالقدس خارج البحث إلا من زاوية ترسيـم وحدتها (!) بالسيادة الإسرائيلية، وبلا سيادة ومع إسقاط حق اللاجئين.
إذن بعد استئناف الاحتلال بصيغة أخرى، وانكماش السلطة التي ضربت أذرعها الشرطية والأمنية ومؤسساتها المدنية، نفترض ـ ولاعتبارات موضوعية ـ أنه تقدمت إلى الواجهة مهام مرحلة التحرر الوطني وما يترتـب عليهـا من ضرورة لصياغة الائتلاف الوطني والبـرنامج المشترك بين مجموع القوى الفلسطينية بما فيها السلطة الفلسطينية، ونذكر في السياق أن العديد من القيادات والأوساط النافذة في السلطة روجت أن هذه المرحلة انكفأت (إن لم تكن قد طويت) في ظل دينامية مفاوضات قيل أنها ستقود إلى تراخي قبضة الاحتلال وانحساره تدريجياً وعودة الأرض قطعة قطعة وبسط السيادة خطوة خطوة وإلى ما هنالك من ادعاءات تغطي على مصالح فئوية أوضح من أن يجري التمويه عليها. وهو ما استخلص منه أن دينامية العملية السياسية بواسطة المفاوضات تدفع إلى المقدمة مهام بناء هيكل الدولة ومؤسساتها وإطلاق التنمية الاقتصادية وصولاً إلى أوهام «سنغافورة» التي جرى الترويج لها، ليس فقط لتسويق اتفاق أوسلو، بل لمنظومة أفكار تعكس قناعة ومصالح سعت جاهدة لتحويلها إلى قناعة ورؤية تحكم مصير الشعب ومستقبل القضية وتتحكم بهما.
إلى جانب ذلك فإن التطورات المتلاحقة منذ أن رفع الطوق عن «المقاطعة» أتت لترد الاعتبار لشيء آخر عنوانه الرئيسي: الإصلاح وإعادة بناء مؤسسات السلطة، وإحدى تفريعاته التزاحم بين أولويتي الإعمار والإصلاح المؤسسي (!)، كما أتت لتحيي رميم النظريات البائسة حول «السلطة» و«المعارضة» التي جرفتها انتفاضة الاستقلال لصالح وحدة القوى في الميدان ووحدة الشعب على خيار الانتفاضة والمقاومة.
ثانياً ـ بين مرحلتين: اتفاق «المقاطعة» (29 /4) واتفاق «كنيسة المهد » (7 /5)
في 29/4/2002 تم التوصل إلى اتفاق على فك الحصار عن مقر الرئيس ياسر عرفات مقابل إحالة المناضلين الستة إلى معتقل فلسطيني يوضعون فيه تحت السيطرة المطلقة لسجانين بـريطانيين يساعدهم خبـراء أمنيون أمريكيون. وذلك بدعوى ضمان بقاء المعتقلين الستة في السجن.
ومع تقديرنا للمكسب السياسي الهام المتمثل بفك طوق الحصار الأضيق عن الرئيس الفلسطيني وبتراجع شارون عن هدف إبعاده عن وطنه وعما أعلنه على الملأ مراراً عن عزمه لاقتحام «المقاطعة» لاعتقال المناضلين الستة وربما ما هو أبعد من ذلك، فإننا لسنا من الرأي الذي يسلم بعدم وجود أي خيار ـ في السياق المحدد ـ سوى الإذعان لشروط الاتفاق المذكور الذي لولاه لجرى اقتحام المقر عنوة (!)… فما حمى المقر من الاقتحام هو شجاعة من فيه، وصمود الشعب الفلسطيني، والإشارات السياسية المتواترة من جميع عواصم القرار ومختلف مراكز التواصل مع الموضوع الفلسطيني التي حذرت شارون ومنعته من ارتكاب جريمة أخرى تضاف إلى سجله الحافل. وبمحصلة كل هذا، فإن ما فك الحصار هو اكتمال الشرط السياسي بلقاء تكساس بين الرئيس الأمريكي وولي العهد السعودي.
ولا تخفى على أحد المدلولات الخطيرة التي ينطوي عليها اتفاق «المقاطعة مقابل أريحا» فالاتفاق إلى سابقة محاكمة المقاومين الأربعة بتهمة قتل الوزير زئيفي يضيف سابقة وضعهم تحت «السيطرة المطلقة» لجهة غير فلسطينية ومعهم موقوفان أحدهما أمين عام تنظيم رئيسي من فصائل م. ت. ف.، وحتى لا يعتقدنَّ أحد أن هذه الترتيبات تنهي الموضوع فإن رسالة كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة إلى رئيس حكومة إسرائيل أريئيل شارون تشير إلى حق إسرائيل بعدم التراجع عن مطلبها بإحالة هؤلاء المناضلين إلى محكمة إسرائيلية، لا بل تطرح التزام حكومة الولايات المتحدة إزاء حكومة إسرائيل بحل هذه القضية، ما يعني أنه حتى هذا الاتفاق بكل سلبياته لن يغلق هذا الملف لدى إسرائيل والولايات المتحدة في آن معاً. (ومؤخراً بدأ التمهيد للبحث باقتراح بين النيابة العامة الإسرائيلية وممثلي الولايات المتحدة وبـريطانيا لتقديم هؤلاء المناضلين للمحاكمة في دولة ثالثة ولكن وفقاً للقوانين الإسرائيلية، أي تطبيق صيغة المتهمين بحادثة لوكربي).
ولا يعتبـر الكلام عن اتفاق 29/4 كسابقة تعميماً يجرده من خصوصية الظرف الذي انعقد فيه، وبالتالي يمد إلى المستقبل مالا علاقة له بالحاضر. ودليلنا على هذا صيغة الحل لمحاصري كنيسة المهد بإبعاد المطلوبين منهم إلى خارج الوطن وإلى قطاع غـزة. عند ذاك يضاف إلى «نموذج أريحا» «نموذج المهد» بما هو سابقة الموافقة الرسمية على «الإبعاد» خارج الوطن، وكذلك سابقة «الإبعاد من الوطن إلى الوطن» بما هي استجابة لمطلب إسرائيلي حاولت فرضه (وبقيت دونه) على الرئيس الفلسطيني بخلفية التمايز السياسي الذي تحاول أن تفرضه على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 (والذي نص اتفاق أوسلو على وحدتها الإقليمية بين الضفة والقطاع)، وهو تمايز يقوم على تقاسم وظيفي تتعهد فيه السلطة الأمن في القطاع وإسرائيل الأمن في الضفة.
ليس كافياً، بالطبع، التوقف أمام اتفاق «المقاطعة» (أو اتفاق «كنيسة المهد») عند آخر حلقاته باعتباره يقع في امتداد سوء تقدير سياسي انعكس في سلسلة من الأخطاء لسنا بصددها الآن (استدراج الأمين العام أحمد سعدات واحتجازه بدعوى الاستضافة !، اعتقال المقاومين الأربعة وإيداعهم سجن نابلس ومن ثم نقلهم إلى «المقاطعة» بموافقة إسرائيلية وضمانات أمريكية…).. نقول، لسنا بصدد هذا الآن إلا من زاوية التذكير بمضار أسلوب «الحلول الأمنية الجزئية والصغيرة» التي اتبعت على مدار سنوات. وبالتالي التحذير من مخاطر العودة إلى هذا الأسلوب بدعوى محاولة التملص من الضغط أو التخفيف منه، فكما تراهن السلطة على التنازلات الجزئية لدرء الأخطر، يعتمد العدو الإسرائيلي عليها بالتحديد للتسريع ببلوغ هذا «الأخطر» وقطف ثمار هذه التنازلات. وهذا ما تؤكده الصفقة بين واشنطن وتل أبيب التي قايضت اتفاق «المقاطعة» بدور أمريكي مباشر لحل لجنة تقصي الحقائق في جرائم الحرب الإسرائيلية في مخيم جنين، مع كل ما يستتبع ذلك من إدانة للاحتلال وإجراءات ليس أقلها إرسال مراقبين دوليين، وهو الأمر الذي تحسب له إسرائيل ألف حساب كونه مقدمة لحضور دولي بشكل قوات فصل أو غيرها، بما الذي يعني سياسياً وميدانياً إعادة صياغة لقواعد الاحتلال ويفتح العـد التنازلي لرحيله.
التنازل الذي يتحول إلى سابقة تقود إلى تنازل آخر وتشكل رافعة لما يليه فيما خص قضيتي حصار المقاطعة وكنيسة المهد لا يقتصر على السلبيات المذكورة، بل يتجاوزها مساساً بما شكل حتى الآن مكسباً وطنياً ثميناً وهو الوحدة في الميدان والالتقاء على خيار الانتفاضة والمقاومة. فهذه الاتفاقات ـ الصفقات تشكل ارتداداً إلى سياسة الانقسام الفلسطيني، وسياسة التفرد والانفراد والسلطة التي تدير ظهرها للمعارضة … في الوقت الذي يواصل فيه شارون سياسة الاجتياح والحصار والجرف وإقامة المناطق العازلة، وفي الوقت الذي تطرح فيه الولايات المتحدة وإسرائيل مشاريع وتتقدم بمقترحات ومطالب ليس بالضرورة أن تتحول كلها إلى قضايا سياسية مدرجة فعلياً، لكنها بالتأكيد تستدعي بلورة موقف وطني فلسطيني موحد حيالها وحيال الإملاءات التي تسعى واشنطن لفرضها، وحيال جميع قضايا النضال الوطني والمجتمعي والديمقراطي في هذه الفترة. موقف تلتقي عليه مختلف الاتجاهات في الحركة الفلسطينية. وفي هذا الإطار تطرح نفسها جميع القضايا المتعلقة بخيار الانتفاضة والمقاومة، والوحدة الوطنية، ومعالجة الآثار المادية للعدوان الإسرائيلي، وأسلوب التعاطي مع الضغوط التي تمارس لتكييف هياكل السلطة والحالة الفلسطينية عموماً مع متطلبات السياسة الأمريكية والمشاريع الإسرائيلية.
ثالثـاً ـ مرحلـة الشـروع بالحصـاد السيـاسي (!)
بين مشروع شارون ومحوره ترتيبات انتقالية عشرية وبين مبادرة السلام العربية القائمة على الانسحاب الكامل وحل عادل لقضية اللاجئين وفقاً للقرار 194 تقف مسافة شاسعة تحاول واشنطن تقليصها بالضغط على الوضع العربي الرسمي لخفض سقف توقعاته. وإذا صح ما نقل عن خطة ولي عهد السعودية (ذات النقاط الثماني) التي قدمت إلى الرئيس الأمريكي، فبالإمكان رصد استجابة لهذه الضغوط في نقطتين هامتين:
1 ـ الاستعاضة عن مطلب الانسحاب الكامل حتى حدود الرابع من حزيران بمطلب تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 242 الذي يحتمل بصياغته الإنجليزية (وهي الأصل باعتبار أن مشروع القرار قد صوّت عليه بهذه اللغة) تأويلاً يضعف مبدأ الانسحاب الكامل ويجعل منه شأناً تفاوضياً.
2 ـ عدم الإشارة في الخطة المذكورة إلى قضية اللاجئين التي أجحفت بها أصلاً مبادرة السلام العربية عندما أسقطت منها الإشارة الصريحة إلى حق العودة، بناء على طلب الولايات المتحدة التي لم تمانع في الوقت نفسه من ذكر القرار 194 باعتباره ورد كموضوع تفاوضي بين إسرائيل والفلسطينيين.
بعد 11 أيلول (سبتمبـر) عبـرت واشنطن في أكثر من مناسبة عن تمسكها بفكرة التسوية السياسية باعتبارها إحدى مسلمات وأفق العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، لكنها لم تسعَ جدياً لإطلاق أي دينامية فعلية تعيد الحياة إلى مسارات التفاوض المجمدة منذ مجيء شارون إلى الحكم. وفي هذا السيـاق طرحـت مسألـة إقامـة دولــة فلسطين بجانب دولـة إسرائيـل (خطـاب «الرؤية» لبوش أمام الأمم المتحدة، محاضرة باول في جامعة لويزفيل..)، لكن هذا الطرح افتقد إلى التحديد (ما غفل أي ذكر لمساحة الدولة، ولحدود ها وعاصمتها) كما افتقد إلى آلية التوصل إلى حل، وبالتالي افتقد إلى تلك الدينامية التي تحول «الرؤية» إلى خط تحرك تنفيذاً لخطة عمل وذلك بدعوى رفض الإدارة الأمريكية التدخل المباشر والواسع في المسار التفاوضي في ضوء التجربة غير المشجعة للإدارة الأمريكية السابقة. لكن في حقيقة الأمر كانت واشنطن، خلف هذا الإحجام المزعوم تمدد زمن المهلة تلو الأخرى تمكيناً لحكومة إسرائيل من فرض حلها العسكري في الميدان لكسر المقاومة والانتفاضة وتطويع الحالة الفلسطينية لتقبل المشروع السياسي القائم على الترتيبات الانتقالية.
تسعى واشنطن الآن، مستفيدة من النتائج الميدانية لحملة 29/3، إلى خلق أجواء استعادة الأفق السياسي للتسوية. وفي هذا الإطار اعتبـرت الإدارة الأمريكية زيارة شارون للبيت الأبيض (7 /5) مرحلة أولى من تحرك أشمل تتضمن مرحلته الثانية سلسلة اتصالات واستقبـال وفـود في واشنطن وتوجيه زيارات إلى المنطقة (الجنرال زيني، الوزير باول..) على أن ينعقد فـي مرحلته الثالثـة (حزيران/يونيو المقبل) مؤتمر دولي بـرعاية أطراف لقاء مدريد الرباعي وبمشاركة إسرائيل والسلطة الفلسطينية وعدد من الدول العربية: مصر، الأردن، المغرب والسعودية مع استثناء سوريا ولبنان، ما يؤشر أيضاً إلى الوظيفة التطبيعية لهذا المؤتمر، وهو في حقيقته مؤتمر إقليمي بعد أن توقفت الهياكل الإقليمية للتطبيع عن العمل منذ العام 1996 (المسار المتعدد الأطراف والمؤتمرات الاقتصادية السنوية للتنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا).
إن الدعوة لمؤتمر دولي جديد ترمي إلى إعفاء الولايات المتحدة من التزامات مؤتمر مدريد (91) باعتبار أن العملية السياسية التي انطلقت منه لم تعد تستجيب للمتغيرات التي أحدثتها 11 أيلول ولأولوياتها، أي الحرب على الإرهاب وفي القلب منه «محور الشر» (المتوضع مع «امتداداته» عملياً في الشرق الأوسط) التي باتت منطلق أي سياسة لإدارة بوش.
وفي هذا السياق أتى الإعلان عن المؤتمر الدولي مرفقاً باستدراك يوضح وظيفته، فهوبلا مرجعية واضحة، ولا يستأنف مؤتمر مدريد ولن يكون سوى لقاء وزاري يُعنى بدفع المباحثات قدماً وخصوصاً نحو«إنهاء العنف» في إطار سياسي مؤجل يشمل «الرؤية» التي أعلنها بوش لقيام دولة فلسطين. أما شارون فيريد أن يلتئم المؤتمر الدولي بين الحين والآخر من أجل أن يراقب على إجراء إصلاحات في السلطة (!)، ما يؤشر إلى اضطلاع المؤتمر الدولي بوظيفة ضاغطة على المسار الفلسطيني، بما في ذلك القضايا التي أحال الجانب الفلسطيني المشاركة في حلها أثناء مفاوضات كامب ديفيد (تموز /يوليو2000) إلى العرب (كالقدس …)، وتوفير الاعتمادات الضرورية لحل قضية اللاجئين التي أجحفت بها قرارات القمة العربية الأخيرة في بيروت ،عندما حصرت رفض التوطين ببلد واحد هولبنان، ما يعني جوازه في بلدان أخرى. إن التحرك من جهة أخرى نلاحظ أن التحركات الأمريكية التي تحضر للمؤتمر الدولي (الإقليمي) لا تحكمها أولوية التقدم نحو إنجاز تسوية سياسية فخلق أجواء استعادة الأفق السياسي لا يترتب عليه تلقائياً استكمال شروط التقدم الجاد نحو إنجاز هذه التسوية. إن الأولوية التي تحكم هذه التحركات هي إنشاء أطر واعتماد آليات تؤدي إلى تلبية السلطة الفلسطينية لجدول الأعمال المطلوب منها، أي ما يسمى بمكافحة الإرهاب وضبط الأوضاع الفلسطينية ومقاومتها للاحتلال تحت سقف لا يتعاكس مع ما يترتب على مواصلة التحضير للعدوان على العراق الذي يستلزم أيضاً إسهاماً لوجستياً عربياً.
وإن تباينت واشنطن مع شارون على موقع الرئيس الفلسطيني من هذه العملية (تحييده واعتباره غير ذي صلة بالنسبة لشارون. ووضعه تحت الاختبار ليبـرهن عن جدارته لقيادة شعبه وفقاً لما يستحق بالنسبة لبوش الذي خاب أمله فيه (!) ، على افتراض أن لهذا التباين تأثيراً فعلياً على الوجهة السياسية المتوافق عليها بين الطرفين، وهذا أمر مشكوك فيه، تبقى مساحة اللقاء واسعة بين الطرفين على أولوية إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية بدعوى تسييد قيم الديمقراطية والشفافية ونظافـة الكـف… لتضطلع بمكافحة الإرهاب (!) ولتصبح مطواعة كالعجينة للإملاءات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وملبية لوظيفة واحدة هي حماية الاحتلال وقمع المقاومة. وفي هذا السياق لا خلاف بين الطرفين على استبعاد الحل الدائم لصالح الترتيبات الانتقالية، ولا خلاف حول «أن القيادة الحالية ليست مناسبة لإقامة دولة فلسطينية» كما صرحت بذلك كواندليزا رايس، ولن يشكل توقيت إقامة هذه الدولة أي خلاف بين الطرفين التي ستكون معنية بالتفاوض حول الوضع الدائم طالما إقامتها مرحَّلة إلى أمد غيـر منظـور فضلاً عن كونها لا تفترض انسحـاب الاحتلال والاستيطان كشرط مسبق، فجدولة الترتيبات الانتقالية لا تخضع لتوقيتات بل لتلبية توقعات، كما يكرر شارون.
رابعاً- الصمود الوطني الفلسطيني من مدخل الحوار والوحدة الوطنية
يلتقي شارون مع الإدارة الأمريكية على ضرورة إعادة صياغة وضع السلطة الفلسطينية وإدخال تغييرات على بنيتها بما يؤدي إلى إنهاء السلطة الفردية وتوزيع الصلاحيات في القيادة الفلسطينية وإشاعة الديمقراطية واعتماد الشفافية في القضايا المالية ونبذ الفساد…، ومن هنا الدعوة إلى إعادة بناء المؤسسات التنفيذية وتوحيد الأجهزة الأمنية. وتحول موضوع إصلاح بنى السلطة على لسان شارون أثناء زيارته الخامسة لواشنطن ـ إلى جانب وقف الإرهاب والتحريض بشكل عام ـ إلى الشرط الآخر للعودة إلى المفاوضات. وفي هذه النقطة بلغ شارون نقطة التعارض مع الإدارة الأمريكية التي تريد مفاوضات بالسرعة الممكنة بالتوازي مع معالجة التغييرات في مبنى السلطة في سياق خطة اِلتفاف على موقع الرئيس عرفات باعتباره عقبة، لكنها عقبة تعالج في سياق المسيرة وليست شرطاً لبدئها.
إن اعتبارات الإدارة الأمريكية وإسرائيل في الضغط على نقطة الإصلاح لا تنطلق من تحسس لمعاناة الشعب الفلسطيني جراء مظاهر الفساد المتفشية في أوساط السلطة وأجهزتها وإدارتها... فما يسمى بأموال المقاصة على سبيل المثال (ما يوازي تقريباً 40 % من الموازنة الجارية أي حوالي 400 مليون دولار) كانت تودع في صندوق مستقل عن رقابة وزارة المالية في السلطة وبمعرفة الحكومة الإسرائيلية وتسهيل منها، وهذا ما يمثل نقيضاً للشفافية التي تطالب إسرائيل بتطبيقها على الشؤون المالية. إن الأساس في هذا الموقف الأمريكي ـ الإسرائيلي المشترك هو الضغط بقوة لإعادة هيكلة السلطة وفق صيغة مطواعة تلبي وظيفة قمع الشعب والمقاومة.
في هذه الأجواء تحوّل موضوع الإصلاح فجأة إلى موضوع مطروق وأحياناً مفضل لدى صف معيّن من قيادة السلطة، الذي لم يُعر هذا الموضوع، فيما مضى، الاهتمام الذي يستحق على الرغم من معاناة المواطنين. وإذا كان البعض وجد الفرصة مؤاتية لعكس هذه المعاناة بدافع الحرص، فالمؤكد أن اعتبارات البعض الآخر لم تكن منزهة من خلفيات الصراع على الحصص والنفوذ وصولاً إلى التساوق مع اتجاهات الحلول الأمريكية ضمن تقدير أن الريح تهب في أشرعتها.
إن مسألة إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، والتعبئة العامة لصد العدوان، وتنظيم الحياة اليومية للمجتمع وحماية أمنه في مواجهة الحصار، ومعالجة آثار الدمار الاقتصادي الناجم عن استمرار العدوان فيما خص تأمين مقومات الصمود والاستمرار للانتفاضة… هذه المسألة وما يتصل بها من قضايا إصلاح مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير احتلت دائماً موقعاً هاماً في صياغة موقف الجبهة الديمقراطية وتوجيه عملها السياسي والجماهيري لكن مستوى الطرح كان محكوماً باستمرار بخلفية الإدراك للحدود التي يمكن أن يبلغها الإصلاح الاقتصادي والمؤسسي (وليس السياسي) بفعل ظروف الاحتلال والاتفاقات التي تقيّد السلطة، وقضية الفساد ليس باعتبارها ظاهرة مسلكية فقط، بل بالأساس بنيوية ناجمة عن طبيعة الاتفاقات التي تخضع لمفاعليها السلطة وبالتالي المجتمع الفلسطيني. إن كل هذا يرسم موضوعياً حدوداً من الصعب التغلب عليها عندما يبلغ الأمر مستوى الإصلاحات الجدية لهياكل السلطة في إطار إصلاح النظام الفلسطيني. وفي هذا السياق فإن التقدم في المجال السياسي: بناء الائتلاف الوطني، إشاعة العلاقات الديمقراطية بين القوى ومع الشعب، بلورة البـرنامج الوطني المشترك واحترام التكتيكات المشتقة والتقيد بها، تنظيم الانتخابات القروية والمحلية وصولاً إلى التشريعية والرئاسية، إصلاح القضاء وتوحيد القوانين، إعـادة هيكلة وبناء الحركة الجماهيرية المنظمة على أسس ديمقراطية … هذا كله يصبح هو الممكن والمتاح بالدرجة الأولى وهو الذي يشكل المدخل الرئيسي للإصلاح المؤسسي بامتداداته الاقتصادية والمالية والأمنية وغيرها … من أجل معالجة قضايا المجتمع وتنظيم صموده أمام جموح الاحتلال وتوفير قاعدة قوية لمقاومته.
وفي الظرف الراهن، حيث اندمجت مسألة الإصلاح باستعادة الصلة مع ما يسمى بالأفق السياسي (أي الترتيبات الانتقالية، المفاوضات الخ …)، وتساوت مسألة الإصلاح بالأمن البديل وبالقيادة البديلة ومؤخراً القيادة الجديدة (والفارق بين الأولى والثانية له علاقة بشخص رئيس السلطة: إذا رحل تحل القيادة البديلة، وإذا بقي فبصفة اعتبارية وبصلاحيات مقلصة على رأس القيادة الجديدة …)، في هذا الظرف نعتبـر أن القضية المطروحة تتجاوز موضوع السلطة ووظيفتها إلى موضوع الحالة الوطنية الفلسطينية بكل تعبيراتها: هل تواصل السير على طريق إنجاز الحقوق الوطنية، أم تكتفي بحكم ذاتي (موسع ربما) بصرف النظر عن العنوان الكياني الذي يرفع.
ومن هنا فإن ملف الإصلاح لا يمكن أن يعالج إلا في إطار وطني شامل، والمدخل الرئيسي لمقاربته هو الحوار الوطني انطلاقاً من التداخل بين مهمتي الإصلاح وإعادة الإعمار، باعتبارهما تكتسيان طابعاً عاجلاً لا بد أن يؤخذ باليد الفلسطينية الواحدة المجمعة، وهي الضمانة الوحيدة لغلق بوابة التدخل الأمريكي ـ الإسرائيلي المشرّعة على مصراعيها لعبور حلول تقويض الهيكل الوطني وتهبيط سقفه إلى ما دون الحقوق الوطنية.
وفي هذا الإطار تجري تعبئة طاقات المجتمع الفلسطيني لإعادة بناء ما دمره (أو سوف يدمره) العدوان الإسرائيلي. إن معركة البناء هي إحدى المحاور الرئيسية للتصدي لهذا العدوان، ومن حق الشعب الفلسطيني أن يتطلع ويناضل لتأتي عملية إعادة البناء على أسس جديدة تستأصل عوامل الترهل والفساد وتضمن الشفافية والكفاءة والجاهزية لمواجهة متطلبات المعركة وتجسيد روح الوحدة الوطنية. ونفترض أن المعالجة الضرورية للأضرار الجسيمة التي أحدثها العدوان الإسرائيلي تكون بإنشاء مجلس وطني لإعادة الإعمار تتمثل فيه جميع القوى والهيئات الوطنية وتصب في صندوقه جميع المساعدات والتبـرعات بهدف توجيه عملية تعويض المتضررين وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة وفق أولويات تغلب مصالح المجتمع بعيداً عن اعتبارات المحاباة والفئوية والفوضى.
إن التمسك بخيار الانتفاضة والمقاومة، واستنهاض زخمها، ورفض وإحباط أي محاولة للتراجع عن هذا الخيار بحجة وقف إطلاق النار أو تنفيذ خطة تينيت أو ورقة زيني أو غيرها من الخطط … لا يعفي من ضرورة تحديد أشكال ترجمة هذا الخيار، تحديد تكتيكاته بدقة متناهية كي تؤدي الغرض المطلوب وليس نقيضه الذي يضعف فعالية الانتفاضة والمقاومة ومردودها الوطني.
إن بلورة التكتيك المطابق لاحتياجات العملية الوطنية ليس حكراً على طرف دون آخر، ومـن السلطة الفلسطينية ابتداءً، بل هو ملك للحركة الفلسطينية بجميع مكوناتها، وهذا اعتبار آخر رئيسي لاستدعاء الحوار الوطني مؤسسة ثابتة من مؤسسات العمل الوطني معنية باجتراح عناصر البـرنامج المشترك في جميع القضايا المطروحة على الأجندة الوطنية: الانتفاضة، المقاومة، الإصلاح، البناء، الانتخابات … وكل هذا في إطار التمسك الواضح بالثوابت الوطنية ورفض أية حلول أو تسويات تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني في دولة فلسطينية مستقلة في حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 خالية من المستوطنات وكاملة السيادة على أرضها وعاصمتها القدس وضمان حق اللاجئين في العودة وفقاً للقرار 194.
إن الحوار الوطني الجاد الذي يعزز الوحدة الوطنية هو القضية الرئيسية التي ينبغي تركيز الجهود من أجل التقدم نحوها وصولاً إلى قيادة طوارئ وطنية موحدة تضم جميع القوى السياسية وقيادة السلطة الوطنية وممثلي المجتمع المدني لقيادة معركة العودة والاستقلال الوطني بكافة جوانبها على أساس المشاركة الحقّة في القرار وتحمل المسؤولية الكاملة في تنفيذ هذا القرار ومتابعة تنفيذه. 
 
الحرية -May 26, 2002  








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه الموافقة


.. وزير خارجية فرنسا يسعى لمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في




.. بارزاني يبحث في بغداد تأجيل الانتخابات في إقليم كردستان العر


.. سكاي نيوز ترصد آراء عدد من نازحي رفح حول تطلعاتهم للتهدئة




.. اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة للمطالبة ب