الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مناقشات حول الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين-1 - مناقشة مع الرفيق نعيم الأشهب

سلامة كيلة

2008 / 10 / 3
ملف: الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين


مناقشات حول الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين-1
حول شعار الدولة الديمقراطية العلمانية
(مناقشة مع الرفيق نعيم الأشهب)
كتب الرفيق نعيم الأشهب نقداً لشعار الدولة الديمقراطية العلمانية أو الدولة ثنائية القومية قبل أكثر من عام ونصف (أيار 2007)، حينما كان النقاش حول هذه المسألة محدوداً، أو في بداياته. ولقد أُعيد تعميمه مجدداً بعد أن بات النقاش واسعاً، وبعد أن أصبح الحديث عن فشل حل الدولتين (أي شعار الدولة الفلسطينية المستقلة) واسعاً، ومن قوى شاركت في الترويج له، وشاركت فيه من خلال اتفاقات أوسلو.
وميزة النص تكمن في أنه يبدأ بمقدمات مهمة وأساسية وصحيحة حول طبيعة الدولة الصهيونية وعلاقتها بالمشروع الإمبريالي، لكنه يصل إلى استنتاجات مختلفة بل مناقضة لهذه المقدمة. تبني على منطق مبسط هو ذاته منطق الحركة الشيوعية منذ عقود، يقوم على أساس التكيف مع "الوقائع"، أي مع الأمر الواقع المتحقق، لهذا يرفض حل الدولة الواحدة ويتمسك بحل الدولتين، انطلاقاً من أن الدولة الصهيونية هي أمر واقع، وأنها قوية ومدعومة من قبل الإمبريالية، وبالتالي يجب أن نحدد أهدافنا فيما يمكن أن نحصل عليه، أو ما يبدو أنه ممكن الحصول عليه، بقوانا المحدودة وغير القابلة لأن تتطور.
المقدمات
ما هي هذه المقدمات؟
طبعاً يسرد الرفيق نعيم تاريخية تبلور هدف الدولة الديمقراطية العلمانية والدولة ثنائية القومية عبر تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً في الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي كان السباق إلى طرح الهدفين معاً (الدولة الديمقراطية العلمانية والدولة ثنائية القومية) في إطار الخلافات فيه بين عرب و"يهود". ثم يشير إلى العودة إلى هدف الدولة الديمقراطية العلمانية بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، ثم منذ تسعينات القرن الماضي.
ورغم توضيحه الدقيق للاختلاف بين حل الدولة الديمقراطية العلمانية (الذي كان يتبناه العرب في الحزب الشيوعي الفلسطيني) وحل الدولة ثنائية القومية (الذي كان يتبناه "اليهود" في الحزب)، إلا أنه وهو يواجه خيار الدولة الديمقراطية العلمانية المطروح اليوم لا يقيم التمييز الضروري بين الحلين.
لكن ما يلفت في المقال هو أنه ينطلق من رفض شعار الدولة الديمقراطية العلمانية والدولة ثنائية القومية، مستنداً إلى مقدمات لا تفضي إلى ذلك على الإطلاق، بل تفضي إلى ما هو أبعد من ذلك، وعكس ذلك. فهو يحدد طبيعة الدولة الصهيونية في أكثر من موقع من مقالته، ويمكن تلخيص رأيه بالتالي:
1) يشير الرفيق نعيم إلى "موقع إسرائيل في الإستراتيجية الأميركية الكونية للسيطرة على العالم"، والتأكيد الأميركي على الحفاظ عليها "كدولة يهودية". كما أن جميع الدول الأوروبية "ترى في وجود إسرائيل، بحد ذاته، خدمة لهدف إستراتيجي من الدرجة الأولى، وهو عرقلة وحدة العالم العربي، وتطوره وازدهاره، بحيث يضع حداً، آخر المطاف، لنهب ثرواته الطائلة. كذلك يرون في إسرائيل، كدولة يهودية، قوة عدوان ضاربة، يمكن تحريكها عند الحاجة ضد هذا العالم العربي، أو أي من دوله، كما جرى بالفعل أكثر من مرة".
2) "إن المشروع الصهيوني جرت صياغته منذ البداية على أساس إقامة دولة يهودية"، وأن التعهدات التي قطعتها الحركة الصهيونية لبريطانيا تتمثل في "أن تكون الدولة اليهودية الموعودة في خدمة المصالح البريطانية في المنطقة"، "وإذا كانت هذه الالتزامات قد تضاعفت عشرات المرات، منذئذ، وغدت في خدمة الولايات المتحدة في الأساس، بدل بريطانيا، فإن المبدأ يظل قائماً وبقوة أكبر، وهو أن إسرائيل، فقط كدولة يهودية، تستطيع الوفاء بهذه الالتزامات".
3) "لذلك، فقضية يهودية دولة إسرائيل ليست، ومنذ البدء قضية إسرائيلية داخلية، فالدول الإمبريالية ذات مصالح في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة الولايات المتحدة، تتمسك بيهودية دولة إسرائيل لا أقل من حكام إسرائيل الصهاينة أنفسهم".
4) عداء حكام إسرائيل "لتحقيق أية تسوية سياسية مع المحيط العربي .... (و) حرصهم في الحفاظ على جذوة هذا الصراع حية لتأجيجها عند الحاجة". وبالتالي فإسرائيل لا تريد "تسوية هذا النزاع". ولهذا ترفض تطبيق قرارات "الشرعية الدولية"، كما ترفضه الولايات المتحدة. وهي تعمل "- لتحصين- المجتمع الإسرائيلي اليهودي ضد –خطر- الاندماج في المنطقة وشعوبها". حيث أنهم "أكثر قلقاً على يهود لإسرائيل ذاتها من خطر الاندماج في محيطها العربي إذا ما ساد سلام حقيقي".
5) "لقد ظهرت الصهيونية السياسية أواخر القرن التاسع عشر في فترة تحول تاريخية، جاء بها التطور الرأسمالي، وتحمل معها بداية انهيار نظام الغيتو اليهودي ومعه سياسة اللاسامية. وقد جاء ظهور الصهيونية السياسية كظاهرة اعتراضية لقطع الطريق على هذه العملية التاريخية وتحويل تأثيراتها ومفاعيلها لصالح مشروع دولة كولونيالية للرأسمال اليهودي العالمي، مرتبطة ومتداخلة عضوياً بالإمبريالية العالمية، لتشارك من موقعها الخاص، في عملية نهب الشعوب المتخلفة".
إذن، ببساطة، هو مشروع إمبريالي يشارك فيه الرأسمال اليهودي من أجل السيطرة على الوطن العربي، والدولة الصهيونية هي مرتكز لهذه السيطرة عبر دورها العسكري المستمر. وأن السلام يتناقض مع هذا المشروع لأنه ينهي الدور العسكري هذا، ويفتح أفق اندماج اليهود في المنطقة، وبالتالي تفقد الدولة الصهيونية دورها ضمن هذا المشروع الذي يهدف إلى "عرقلة وحدة العالم العربي"، وعرقلة "تطوره وازدهاره"، وتكريس "نهب ثرواته الطائلة". وفي هذا التحديد نقطتان أساسيتان:
الأولى: أنه ضد الوطن العربي، أي أنه جزء من الإستراتيجية الإمبريالية ضد الوطن العربي، حيث كانت التجزئة هي الجزء الآخر منه.
والثانية: أنه مشروع "حربي"، لا يريد "السلام". أي لا ينطلق من أنه يوجد لليهود "ملاذ آمن"، ومن ثم يصبح من الضروري التعايش مع المحيط العربي.
وفي هاتين النقطتين ينتفي أي بحث في "السلام"، وأي ميل لقبول "حل وسط". ولا مجال لمفاوضات تقود إلى السلام أو تلغي دور الدولة الصهيونية في المشروع الإمبريالي. وربما كان تحديد الرفيق نعيم في هذا المجال هو الأكثر دقة في فهم طبيعة الدولة الصهيونية، بأنها جزء من مشروع سيطرة على المنطقة، وليست حلاً لمشكلة اليهود، الذين كان بدأ التطور الرأسمالي في أوروبا يزيل الغيتو من حولهم ويؤسس لإدماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها. وكذلك يمكن أن نستنتج بأنه مهما فاوض الفلسطينيون أو قبلوا دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أقل من ذلك، لن ينتهي الدور الإمبريالي للدولة الصهيونية ضد "المحيط العربي". وأن النهاية تعتمد على هزيمة المشروع الإمبريالي ذاته، وبضمنه هزيمة الدولة الصهيونية. أو، في المقابل، التكيف معه ومع السيطرة الإمبريالية والقبول بشروطهما، كما تفعل النظم العربية والرأسماليات التابعة. وبالتالي ليس من خيار ثالث، هو الذي يؤسس لكل هذا النزوع لتقليص الهدف، والقبول بجزء من فلسطين ...ألخ. حيث أنه مادام جزءاً من الميل للسيطرة الإمبريالية على الوطن العربي ليس من الممكن تخلي الإمبريالية عن مصالحها من أجل حل وسط، وبالتالي ليس من الممكن له أن يقبل ما يخالف أساس وجوده. وهو الأمر الذي يجعل الحل في فلسطين مرتبطاً بهزيمة المشروع الإمبريالي كله. وهذه مسألة جوهرية إن لم تستوعب سوف تكون كل الإستراتيجيات المطروحة مضللة.
وهنا يجب أن يكون واضحاً بأنه، رغم أن الفلسطينيين هم الذين تعرضوا للنكبة بشكل مباشر، وفقد قسم كبير منهم أرضه، فإن الدولة الصهيونية هي جزء من أدوات الصراع ضد الطبقات الشعبية في الوطن العربي، حيث أن لها دور في منع وحدتها وتطورها، وفي نهب ثرواتها. وبالتالي لهذه الطبقات مصلحة مباشرة في الصراع ضد الدولة الصهيونية في سياق صراعها ضد الرأسماليات التابعة الحاكمة والإمبريالية ذاتها، التي هي أم كل هؤلاء. ولهذا كانت القضية الفلسطينية قضية عربية بامتياز، حيث لا تتعلق المسألة في منطقة محتلة فقط (ككل الاحتلالات التقليدية)، بل بمشروع يطال كل الوطن العربي. ليس الوضع هنا كما كان في الجزائر أو مصر أو سورية ولبنان والعراق، وليس الوضع مثل جنوب أفريقيا، رغم محاولات التشبيه التي ينطلق منها البعض. هنا احتلال أرض، واستيطان وعنصرية وتمييز ودولة دينية، لكن –وبالأساس- مع دور في إطار أوسع يطال الوطن العربي، وبالترابط مع ميل الرأسمال الإمبريالي للسيطرة عليه.
ولأننا ماركسيين يجب أن نعتبر الصراع هنا جزء من الصراع الطبقي الذي يتخذ شكلاً قومياً ضد الإمبريالية، تمارسه الطبقة العاملة وكل الطبقات الشعبية في الوطن العربي من أجل تحررها وتطورها. وهو الأمر الذي يفرض رؤية موازين القوى من هذا الأساس، ورؤية الصراع على هذه الأرضية دون غيرها.
إلى ماذا توصل هذه المقدمات؟
إلى أن الصراع هنا هو صراع حدّي، أي ككل صراع طبقي يجب أن ينتهي بانتصار أحد الطرفين. هذا هو الجذر الذي ينبني الصراع عليه. حيث أن هناك مصلحة إمبريالية عميقة بألا يتوحد الوطن العربي، وأن يحقق التطور الضروري، من أجل ضمان استمرار النهب والتحكم بالنفط والأسواق. وهذا الصراع هو في جوهره صراع طبقي في الإطار العالمي الراهن، الذي يسيطر عليه نمط الإنتاج الرأسمالي، رغم أنه يتخذ شكلاً قومياً. فنحن في مواجهة مع الرأسمال الإمبريالي العالمي، ولسنا فقط في مواجهة الدولة الصهيونية، التي هي أداة من أدواته، رغم أساسيتها. إذن، هل يمكن إيجاد حل وسط؟ وأيضاً عبر التفاوض؟ كيف يمكن، ببساطة، أن تقبل الدولة الصهيونية حلاً وسطاً ينهي دورها الأساس ضد المحيط العربي، هذا الدور الذي هو السبب في التمويل الهائل الذي يقدمه الرأسمال الإمبريالي، والذي هو مرتكز وجودها كدولة؟
لهذا ليس من حل عادل في فلسطين، أو حتى عشر عادل، لأنه ليس من حل بالأساس، هناك سيطرة واحتلال فقط، لأن الدولة الصهيونية لا تقدم ما يبدو أنه حل، وليس عادل فقط. لهذا فهي تزيد من قوتها العسكرية، تعزز "الطابع اليهودي" للدولة، تسيطر على الأرض في باقي فلسطين، توسع المستوطنات دون توقف، تبني جدار العزل، وتفتت الضفة الغربية إلى كانتونات. أي تبتلع باقي فلسطين بـ "نعومة" و"هدوء"، تحت سقف المفاوضات وشعار الدولة الفلسطينية المستقلة. وكما أنها تستعد للعب دور عسكري وهيمني في إطار المنظومة الأمنية العسكرية الأميركية من أجل إكمال السيطرة على المنطقة، من جورجيا، إلى إيران، إلى العراق وسورية ولبنان، وحتى المغرب؟
الاستنتاج البسيط من كل هذه المقدمات هو أن مهمتنا تتحدد في البحث الجدي في تطوير قوانا من أجل تغيير ميزان القوى (والعسكري أساساً مادامت الدولة الصهيونية قوة عسكرية هائلة، ومادمنا في مواجهة الاحتلال الأميركي في العراق)، في إطار، ليس فلسطيني فقط، بل عربي بالأساس. حيث أن من ينشد التطور في الوطن العربي هو في تصادم مباشر مع الدولة الصهيونية. وهذا مؤسس على طبيعة مواجهة المشروع الإمبريالي للمطامح القومية في الوطن العربي. ولقد كان الميل الفلسطيني للفلسطنة أولاً، ثم للتسوية والمفاوضات وقبول بعض فلسطين ثانياً، أساس انكسار كبير في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني، ترافق مع التحولات في النظم العربية "القومية"، والتحاقها بالإمبريالية الأميركية. ورغم ذلك لازال المشروع الصهيوني يتوسع، ويتوسع دوره الإمبريالي.
إن المسألة الأساس هنا هي كيفية تغيير ميزان القوى على ضوء الفهم الحقيقي لطبيعة الصراع، وبالتالي التفكير في القوى التي يجب أن تشرك فيه من أجل ذلك.
هل من خيارات إذن غير المواجهة؟
هنا سوف نصطدم بـ "عقلية" تعمّمت في الحركة الشيوعية في الوطن العربي، وتنطلق من ميزان القوى القائم (الراهن) لتحديد الأهداف، وبالتالي تكون الأهداف عادة متواضعة، ولا تلمس عمق مشكلات العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية، ولا تؤسس بالتالي لتجاوزها. وهو الأمر الذي يُبقي القوة التي تمثلها محدودة، ليعاد إنتاج الأهداف في صيغ أخفض. بمعنى أن هذه "العقلية" لا تحسب ممكنات تغيير ميزان القوى، وهي في العادة لا ترى القوى الممكنة، لهذا تأتي أهدافها وحلولها خارج السياق. لتظل في الهامش، ولتتقدم قوى أخرى مستحوذة على مشاعر الطبقات التي كان يجب أن يمثلها الشيوعيون قبل غيرها. رغم أنها تفشل.
إن تحديد الهدف ينطلق من المشكلة ذاتها، من تحديد طبيعتها على ضوء مصالح الطبقات، بينما يخضع ميزان القوى لفعل كل من الأطراف المتصارعة. وعادة ما يفضي تحديد الهدف إلى تفعيل القوى القادرة على تحقيقه فيما إذا رسمت القوى الماركسية إستراتيجية صحيحة تفضي إلى تطوير الصراع إلى الحد الذي يسمح بذلك. وهنا دور القوى الماركسية مهم وأساسي، خصوصاً وأنها تتطابق مع المصالح الجذرية للعمال والفلاحين الفقراء، وبالتالي تقطع كلياً مع الرأسمال الإمبريالي، وكل رأسمال. لقد أوضحت التجارب أن الطبقات الشعبية كانت مع مواجهة الإمبريالية ومع تحرير فلسطين، لكن استنكاف الشيوعيين عن تبني هذه الأهداف جعلها تنضوي تحت لواء القوى التي طرحت هذه الأهداف. وهنا انعكست إشكالية وعي هذه القوى ومصالحها على النتائج. بينما كانت الماركسية قادرة على أن تقدم الرؤية الضرورية من أجل الانتصار كما حدث في الصين وفيتنام وكوبا و...ألخ.
وبهذا فإذا كان ميزان القوى مختل إلى أبعد الحدود الآن يجب البحث في هذه المسألة بالذات وليس تغيير الهدف. يجب البحث عن القوى القادرة على تغييره، وأقصد قوى الطبقات وليس "الرأي العام الدولي"، رغم أهميه، لكنه الذي يخضع موقفه لتغيرات ميزان القوى ذاته، وبالتالي يكون عنصراً مساعداً وليس العنصر الأساسي في الصراع. وهنا الطبقات الشعبية هي التي يجب أن تغير ميزان القوى، عبر دورها الفاعل، وتنظيم نشاطها، وبلورة فاعليتها في إطار الأهداف التي تحس هي أنها معنية بتحقيقها. هنا الأساس في التفكير وليس في أي مكان آخر. وبالتالي فإذا كان الماركسيون يطرحون أهداف كبيرة فإن تحقيقها منوط بفاعلية هذه الطبقات، ومهمة هؤلاء تنظيم نشاطها، وتطوير قواها. وهي الفاعلية التي استنكف عنها الشيوعيون، وانحصروا في تنظيم نضال مطلبي محدود، في وضع كان يحتاج إلى تغيير سياسي عميق، إلى مقاومة الاحتلال وطرده، والى إسقاط النظم التابعة، من أجل تحقيق برنامج كبير.
إن الشعور بالهزال الذاتي هو الذي كان يجعلهم يفكرون في الإصلاح فقط، وعبر الضغط على الأكثر، وفي إطار نضال مطلبي محدود في كل الأحوال. وهو الوضع الذي يجعلهم بعيدين عن التأثير في التغييرات التي جرت وستجري.
ولهذا حين نحدد طبيعة الدولة الصهيونية وفق ما أشار الرفيق نعيم لا يمكننا إلا أن نؤسس على أن مهمتنا تتحدد في كيفية بناء القوى القادرة على حسم الصراع لمصلحتنا عبر تغيير ميزان القوى، وليس "تخفيف" الهدف، وإقناع الذات بالقبول بالدولة الصهيونية وبيهوديتها، لعل وعسى أن نحققه بقوانا الهشة، والتي هي في الغالب لم تعد قوى. لقد باتت أشكال، "خيال مآتة"، لا أحد يأخذها على محمل الجد إلا لتغطية مفاوضات لا معنى لها سوى خدمة الهدف الصهيوني. إن المسألة الأساس هنا هي أن لا ممكنات لحلول وسط لا بقوانا ولا بقوى الرأي العام و"الشرعية الدولية"، رغم أن التخلي عن 80% من فلسطين هو أخطر من حل وسط. وأنه لا حل إلا بإنهاء الدولة الصهيونية في إطار الصراع العربي ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني. هنا يكون البحث في تأسيس القوى القادرة على خوض الصراع، وحين نقرر ذلك نستطيعه، حيث أن الطبقات الشعبية في الوطن العربي كتلة حاسمة فيما إذا استطعنا تنظيم قواها.
لكن عادة يُنظر إلى "الرأي العام العالمي" من أجل الضغط لتحقيق "الدولة الفلسطينية المستقلة"، وبالتالي يزوغ النظر إلى الهامش وليس إلى قوة الفعل. بمعنى أننا نريد من "الوضع الدولي" أن يقيم لنا دولتنا كما أقام الدولة الصهيونية رغم الفارق الكبير بين الحالتين. هذه السياسة لا تفضي سوى إلى التهلكة، لأن الوضع الدولي، وكما أشار الرفيق نعيم بحق، هو مع الدولة الصهيونية، وأكثر تشدداً منها.
وبالتالي يمكن أن نسأل الرفيق نعيم على ماذا يعترض على الدولة الديمقراطية العلمانية؟ ولماذا يتمسك بالدولة المستقلة؟

نقد الدولة الديمقراطية العلمانية
يشير الرفيق نعيم منذ البدء إلى أن جمود وتعقيدات "تسوية النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني" أفضى إلى أن يعود شعارات الدولة الديمقراطية أو الدولة ثنائية القومية إلى التداول من جديد "ضمن دوائر ضيقة وغير مؤثرة من المثقفين، دون أن تثير أي اهتمام على المستوى الشعبي". طبعاً لأنها غير مؤثرة فقد قرر الرد، جازماً بأنها لا تثير اهتمام الشعب، رغم أن هذا الشعب (في الضفة الغربية وغزة) انتخب البرنامج الذي يرفض الدولة المستقلة حينما انتخب حركة حماس. وبالتالي يمكن القول بأن ضيق معتنقي هذا الحل ليس بأقل من معتنقي حل الدولة المستقلة، رغم أن الرفض واضح شعبياً لحل الدولة المستقلة نتيجة وعيه بأنه مستحيلاً على الأقل. وبالتالي فحينما نتحدث عن الشعب يجب أن نكون على معرفة بميوله، وأشير إلى أن الشيوعيين لم يبرعوا في هذه المسألة منذ عقود، لهذا كانوا يفاجئون بميول الشعب، واصطفافاته. وسوف يتوضح الأمر ذاته في هذه المسألة كذلك.
على أي حال يتساءل: "ما مدى جدية وواقعية هذه الشعارات؟ بمعنى آخر: هل حقاً أنه ... خيار قائم في المرحلة التاريخية التي نعيشها، ويمكن اعتماده، باعتباره قابلاً للتحقيق إذا فشل خيار الدولتين؟" طبعاً هنا يشير إلى "المرحلة التاريخية"، أي إلى موازين القوى الراهنة كما سيتوضح. ويمكن أن أقول تأسيساً على ذلك أنه غير قائم، حيث أن ميزان القوى الراهن يحقق فقط ما تريده الدولة الصهيونية. ميزان القوى مختل بشكل عنيف لمصلحة الإمبريالية والدولة الصهيونية. لكن هل يعني أن هذا الحل غير قائم الآن، أنه خاطئ؟ هنا يجري الخلط بين ممكنات الحل راهناً وكونه الحل الضروري، وبالتالي يجب العمل من أجل أن يصبح ممكناً. الخلط هذا سوف نصطدم به في أكثر من موضع لاحقاً، وربما كان هو أساس كل إشكالية التحليل، وكل إشكالية الحركة الشيوعية العربية. وأقصد عدم التمييز بين ضرورة هدف معين وممكنات تحقيقه في الراهن. أي أن كل هدف يقاس بـ "الآن"، وليس بما يجب أن يكون. يقاس على أساس القوى الراهنة وليس على ممكنات بناء القوى. وفي هذا الوضع يكون الهدف المطلبي غير ممكن، لأن تحقيقه راهناً غير قائم، و يحتاج إلى تغيير معين في ميزان القوى في الصراع الطبقي. إن زاوية النظر السائدة في كل الحركة الشيوعية، وهنا، قائمة على اللحظة/ السكون، لهذا لا تلمس الصيرورة التالية، التحول من الآن إلى لحظة تغيير موازين القوى، التي هي المسافة التي يكون لدورنا الأهمية الفائقة في تطوير الصراع عبر تنظيم القوى وصولاً إلى تحقيق الهدف. هذه أواليات ماركسية بسيطة لكنها غائبة مع الأسف.
إن طرح خيار الدولة الديمقراطية العلمانية هو ليس حلاً في الراهن، بل أنه هدف نضالي من أجل توحيد قوى الشعب الفلسطيني، بالتلاحم مع الطبقات الشعبية في الوطن العربي، وفي إطار الأهداف العامة التي تحقق مصالحها، في سياق السعي لتنظيم القوى لكي يصبح ممكناً تغيير موازين القوى، وصولاً إلى هزيمة الدولة الصهيونية والقوى الإمبريالية. إنه هدف النضال في السنوات القادمة بالتالي، حيث يجب الفعل من أجل تغيير موازين القوى.
هذه المسافة بين الراهن وتحقيق الهدف تكون هي المسافة التي يتبلور فيها فعل الذات. وهي المسألة التي كانت غائبة ولازالت. لهذا يوضح الرفيق نعيم المسألة بالتساؤل: "هل حقاً أن الأمر يتوقف على تحولنا من خيار الدولتين إلى خيار الدولة الديمقراطية أو الثنائية القومية، حتى يغدو الأخير خياراً واقعياً قابلاً للتحقيق؟". النظر هنا يقوم على أساس الهدف الممكن في اللحظة الراهنة، وبالتالي يتساءل هل أن تغيير الهدف ضمن موازين القوى الراهنة يجعله قابلاً للتحقيق؟ أجيب، لا. فكما أشرت فإن ميزان القوى الراهن لا يحقق إلا ما تريده الإمبريالية والدولة الصهيونية. لكننا نختلف هنا في معنى الهدف، وهل أن الهدف الذي يطرح يجب أن يكون قابلاً للتحقق في الوقت الراهن، أو يجب العمل في السنوات القادمة من أجل تحقيقه عبر تغيير ميزان القوى؟ الماركسية تطرح الخيار الثاني، وإلا لم يطالب ماركس بتحقيق الاشتراكية والطبقة العاملة كانت لازالت ضعيفة ودون تنظيم. والماركسية تحدد الهدف بناء على المصالح، مصالح الطبقة العاملة، مصالح الشعوب، وليس على ميزان القوى القائم. لهذا كانت رؤية للمستقبل وليس لتبرير الأمر الواقع. وهذا كان خلافها مع هيغل، الذي قال بأن كل ما هو واقع هو عقلي (معقول"، لأن ما هو معقول (عقلي) سيتحول عبر الصيرورة إلى واقع، كما شرح إنجلز.
هذه النقطة غائبة عن الوعي الشيوعي، لهذا يعتبر الرفيق نعيم بأن نجاح الصهيونية بالتعاون مع القوى الإمبريالية وتواطؤ الرجعية العربية سنة 1948 "نقل هذين الخيارين: الدولة الديمقراطية والدولة ثنائية القومية، من خانة الإمكانية الواقعية إلى خانة اليوتوبيا (الحلم)، على الأقل في الأفق المرئي للعين". بمعنى أنه قد تكرس أمر واقع يجب الاعتراف به، وبات خيار الدولة الديمقراطية يوتوبيا لأنه هزم نتيجة أنه لم يجد القوى القادرة على تحقيقه في لحظة معينة. وهنا نلمس إشكال منهجي، هو أن ما نقرّ به هو ما يظهر، يوجد، في الواقع، أما ما هو أبعد من ذلك فهو مستحيل. وهذا في أساسه نتاج الوعي الحسي الذي يكون الأمر الواقع هو الأساسي فيه. لكن طبيعة الصراع كما جرى توصيفها سوف تفرض العودة إلى هذا الحل، لأن لا حل آخر ممكن في ظل ميزان القوى القائم. ولهذا يبدو حل الدولتين أكثر من يوتوبيا اليوم، حيث أن ما قاله عن الرؤية الصهيونية الإمبريالية تشير إلى استحالة الموافقة عليه كما حل الدولة الديمقراطية. وبالتالي فإن النظر على طريقة الرفيق نعيم سوف يوصل إلى الاستسلام، أو الانكفاء للحفاظ على الذات، وهو ما يشير إلية في نهاية مقاله. لكن من يغير ميزان القوى؟ وكيف؟ هل ننتظر تغيراً ما يمكن أن يسمح لنا بتحقيق حل الدولتين؟ لكنه ينهي الدولة الصهيونية وينهي دورها فهل تقبل به؟ أليست مهمتنا أن نوجد هذا المتغير؟
أليس الانطلاق من طبيعة المشروع الصهيوني وعلاقته بالإمبريالية ضروريان من أجل البحث عن أسس جديدة للصراع؟
وهو يرفض الدولة الديمقراطية والدولة ثنائية القومية يستخدم الرفيق نعيم كل إمكانياته لتوضيح طبيعة المشروع الصهيوني إذن، لكن للوصول إلى أن هذا الخيار ليس ممكناً على الإطلاق دون أن يلحظ بأنه ينفي كذلك إمكانية تحقيق الدولة المستقلة. حيث أن موازين القوى هنا وهناك هي ذاتها، والموقف الحاسم في رفضه لهذه وتلك هو واحد لدى كل من الدولة الصهيونية والولايات المتحدة. أكثر من ذلك أن الولايات المتحدة والدولة الصهيونية يمدان السيطرة على الوطن العربي (احتلال العراق وتوسع التواجد العسكري من الخليج العربي إلى المغرب). إذن، لا هذا ولا ذاك ممكنين في الوقت الراهن، وحتى في الأفق المرئي. وهنا الحلين يتساويان. لكن يبقى السؤال مَنْ منهما يستطيع أن يوحد قوى أكبر قادرة على تغيير ميزان القوى؟ وحين نشير إلى القوى هنا نشير إلى الهدف الذي يستطيع توحيد الكتل الأكبر من الطبقات الشعبية، ولا نشير لا إلى الأحزاب القائمة، ولا إلى الرأي العام العالمي.
هذا يفرض علينا أن نعود إلى طبيعة الصراع، وأن نحدد القوى المعنية، وبالتالي العمل من أجل تحويلها إلى قوة فعلية. هذه هي مهمة الماركسي، مهمة الشيوعي، وليس اللعب في حدود ميزان القوى القائم. مهمة الشيوعي هي كسر ميزان القوى القائم، وليس التكيف معه، لأن دوره الأساس هو تنظيم وتطوير فعل الطبقات الشعبية من أجل أن تخلّ في ميزان القوى وتفتح الأفق لتحقيق أهدافها.
ولقد أوضح تبني خيار الدولتين كم تقزّمت قوة المقاومة الفلسطينية، وكم حصرت ذاتها في إطار جزء من الشعب الفلسطيني (سكان الضفة وغزة)، الذين أيضاً تحوّلوا ضد السلطة التي نتجت عن هذا الخيار. بينما يفتح خيار الدولة الديمقراطية العلمانية لتفاعل كل الشعب الفلسطيني، في أرض سنة 1948 والضفة الغربية وغزة والشتات (اللاجئون). كما يفتح الفهم العميق لطبيعة الصراع إلى أن يصبح الصراع ضد الدولة الصهيونية هو صراع كل الطبقات الشعبية في الوطن العربي. هنا ينفتح أفق تغيير ميزان القوى.
الحل؟
وإذا كان الرفيق نعيم يأخذ على مروجي خيار الدولة الديمقراطية أو ثنائية القومية أنهم "لم يطرحوا آليات حول كيفية تحقيقه"، يعتقد بأن تبني م.ت.ف لقرارات الشرعية الدولية سنة 1988 قد أوجد تحدياً لنهج حكام إسرائيل، وأدخل الصهيونية في مأزق. لكن –يضيف- "من غير المتوقع حدوث تقدم حقيقي نحو تسوية النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي على وجه الخصوص، والإسرائيلي- العربي على وجه العموم، على أساس قرارات الشرعية الدولية طالما بقي التفرد الأميركي في الإمساك بمفاتيح هذا الصراع". لأن واشنطن تستفيد من "بقاء جذوة النزاع مشتعلة". إذن، كيف ننهي التفرد الأميركي ما دامت أميركا مصرّة على بقاء "جذوة النزاع"؟
هنا ينقلنا الرفيق نعيم إلى معركة أكبر: هزيمة أميركا من أجل إنهاء التفرد الأميركي هذا. وبالتالي نعود إلى البديهية البسيطة التي هي أن تنفيذ قرارات الشرعية الدولية يستلزم هزيمة أميركا. حينها لماذا ننفذ قرارات الشرعية الدولية فقط؟ أليس حل الدولة الديمقراطية العلمانية يكون هو الأصح؟ لقد قيل بالتزام قرارات الشرعية الدولية لأنها مقبولة من مختلف الأطراف الدولية ولم تكن مقبولة من المقاومة الفلسطينية، وبالتالي قيل بأن قبول المقاومة سوف يجعل تحقيقها ممكناً، ولم يجري تبنيها لأنها تستلزم هزيمة أميركا. أي لأنها حل وسط يمكن أن تقبله الإدارات الأميركية وكان يدعمه السوفيت (يرحمهم الله). وكان التفكير الحاكم هو أن القبول الفلسطيني سوف يفتح الباب لتحقيقها، ولم تكن المسألة هي مسألة نضال من أجل تطبيقها. وبالتالي كان التفكير الرائج تماماً مثلما يشير الرفيق نعيم حين يتناول الدولة الديمقراطية، أي هل أن تحولنا إلى هذا الخيار يجعله قابلاً للتحقيق؟ هذا التفكير هو الذي حكم قيادات المقاومة، وقبلها حكم الحركة الشيوعية فيما يتعلق بقرار التقسيم. وهو ما يعبر عن سطحية عالية مع الأسف، لأن هذا المنطق يتجاهل الأساسيات حتى تلك التي أشار إليها الرفيق نعيم، أي أن هناك مشروع سيطرة واحتلال وهيمنة من أجل النهب، مشروع إمبريالي بالأساس.
كيف نهزم أميركا؟ وهل يؤسس هدف تحقيق قرارات الشرعية الدولية لوضع يمكن فيه توحيد قوى قادرة على إنهاء "التفرد الأميركي"؟ يمكن أن تُدخل المراهنات هنا على تغيرات في الوضع الدولي، كما هي العادة منذ عقود، ولقد كانت التغيرات المتحققة في غاية السلبية. وبالتالي يكون مطلوب منا فقط: الصمود. لكن هذه المسألة تقع خارج إرادتنا، وتتجاهل فعلنا، ودورنا، الذي يحتاج إلى إعادة صياغة على ضوء وعي جديد، ورؤية جديدة. فالمنتظر مهزوم، وحتى الذي يحصر فعله في حدود دنيا مهزوم كذلك. وإذا هناك من فعل للوضع الدولي فإن تطوير الصراع هو الذي قد يفضي إلى "تفكك جبهة الرأسمال الإمبريالي" (إذا كان ممكناً ذلك في هذا العصر) أو حدوث تفاعلات جديدة قد تفرض وضعاً عالمياً مؤاتياً. لكن الأساس هنا هو الصراع، صراعنا، الذي يجب أن ينبني على الفعل من أجل هزيمة المشروع الإمبريالي الصهيوني، وليس في حدود انتظار متغيرات قد تحدث وقد لا تحدث، وليس بادياً أنها يمكن أن تحدث مادام دور الدولة الصهيونية مرتبط بكلية المشروع الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي. وحتى لو انتهى التفرد الأميركي يمكن أن تتفرد رأسمالية أخرى، كما جرى من قبل، فيبقى للدولة الصهيونية الدور ذاته.
إذن، يعيدنا الرفيق نعيم إلى المعركة الأساسية، معركة الطبقات الشعبية في الوطن العربي ضد الرأسمال الإمبريالي عمواً، وتمظهراته الواقعية خصوصاً، التي منها الدولة الصهيونية والاحتلال الأميركي للعراق والنظم التابعة. ولاشك أنها معركة كبيرة، ومن ينظر من منظار ميزان القوى الراهن سوف يصل إلى نتيجة أنها وهم (يوتوبيا)، لكن الطبقات الشعبية قوة يمكنها فعل ذلك، حينما يلعب الشيوعيون دوراً قتالياً حقيقياً، بدل التنظير لميزان القوى وتقليص الأهداف علها تتحقق، وبالتالي تتحول الأهداف الكبيرة إلى مطالب مبسطة، معيشية وإنسانية، يمكن أن تقبل بها الدولة الصهيونية أو تشير به الدولة الأميركية.
في الأساس نحن من يفرض ميزان القوى، والشيوعي الذي لا ينطلق من ذلك لن يكون في حقيقته شيوعياً. وربما لم يتعلم الشيوعيون في فلسطين (والوطن العربي) بعد سبب تهميشهم وهامشيتهم، حيث لم يتحسسوا مخزون الطبقات الشعبية الثوري طيلة عقود طويلة من نضالهم، ولهذا ظلوا يعتقدون بأن ميزان القوى ليس في صالح مطامحها، الأمر الذي كان يدفعهم دائماً إلى تقليص مطالبهم إلى أدنى حد ممكن.
وهذه المرة كما المرات السابقة. والرفيق نعيم يبقى ضمن الحدود هذه، لا يرى بأن ميول الطبقات الشعبية كانت ولازالت بعيدة عما يطرح الشيوعيون. وحتى انتخاب حركة حماس لم يفهم جيداً، ولا هامشية كل اليسار. حيث صوت الشعب لبرنامج مناقض لما يطرحون، لكن لقوى لها برنامجها الآخر، الذي لا يقود إلى انتصار، بل يكرر تجربة حركة فتح. وإذا كان اعتبر بأن الذين يطرحون الدولة الديمقراطية هم فئة ضيقة، فإن الوضع يوضح بأن الشعب الفلسطيني في مختلف مناطق تواجده بات مناهضاً لبرنامج الدولة المستقلة: في الشتات، لأنه ظهر أن تحققه سيكون على حساب حق العودة. وفي الأرض المحتلة سنة 1948 لأنهم اعتبروا "مواطنين إسرائيليين". وفي الضفة وغزة لأنهم اكتشفوا أن الثورة أتتهم بسلطة فاسدة وتابعة، وأن برنامجها فاشل لأن الدولة الصهيونية لا تريد تقديم هذه الدولة الموعودة، بل تعمل بشكل حثيث على قضم الأرض وفرض السيطرة الشاملة عليها. وهنا نلمس كم أن الحديث عن الشعب واتجاهاته ينطلق من عدم وعي بواقعه وبميوله وممكناته، وهذه سمة لازمت الحركة الشيوعية، التي ظلت تنادي بالسلام والاعتراف بالدولة الصهيونية إلى أن فوجئت بأن كل الشعب الفلسطيني هو مع الحرب من أجل التحرير. وتحولت حركة فتح إلى قوة قائدة رغم حداثة نشوئها، وباتت الجبهة الشعبية، وهي التنظيم الماركسي، تعبر عن الماركسيين الفلسطينيين أكثر من حزب كان من أقدم الأحزاب الشيوعية العربية.
لقد بات حل الدولتين مشكوك فيه فلسطينياً، قبل أن نشير إلى أن الرأي العام العالمي الذي دعم هذا الحل بات أيضاً متشككاً في ممكناته، بالضبط لمعرفته بدور الدولة الصهيونية، ولهذا بات أكثر تقبلاً لحل ينهي الدولة الصهيونية. ودورنا هو أن ندفعه إلى ذلك بدل أن نربكه في تكرار ما بات واضح الفشل: أي الدولة المستقلة. وبالتالي أن نعمل من أجل بناء إستراتيجية جديدة تهيئ لبناء قوى فاعلة.
الآن، عن الدولة الديمقراطية العلمانية
كيف فهم الرفيق نعيم خيار الدولة الديمقراطية، أو ثنائية القومية؟
يشير الرفيق إلى أن تحقيق أحد هذين الشعارين "يفترض، بالبداهة، الموافقة الحرة من الأطراف المعنية"، أي من "الطرفين الإسرائيلي- والفلسطيني". والطرفان هنا هما "المجموع"، أي كل الإسرائيليين وكل الفلسطينيين، بما في ذلك الأحزاب والدولة.
هنا جملة إرباكات، حيث يشير إلى طرفين، والى علاقة حرة بينهما. وإذا كانت الإشارة إلى طرفين ربما تؤشر إلى خيار الدولة ثنائية القومية، حيث يفترض الموافقة الحرة لمجموعتين، قوميتين، فإن هذه لا تنطبق على خيار الدولة الديمقراطية العلمانية، الذي ينطلق من مبدأ المواطنة (ولقد أشار الرفيق نعيم إلى الخلاف هنا وهو يوضح الخلاف في الحزب الشيوعي الفلسطيني حول طبيعة الحل المطروح). ولكن أيضاً هل يمكن أن نجمل كل طرف هكذا؟ هل الخيار المطروح مطروح لـ "كتلتين"؟ أم لطبقات – من كل الذين باتوا مرتبطين بفلسطين - يمكن أن تتوافق عليه؟ هل هو مطروح على الرأسمالية الإسرائيلية أو على النخبة السياسية؟ طبعاً لا الرأسمالية ولا النخبة السياسية الإسرائيليين معنيتان بهذا الخيار، وهما في تناقض معه، كما أنه مطروح في تضاد معهما. لهذا فهو خيار حر يطرح للطبقات المناهضة للرأسمالية، وبالتالي للمشروع الإمبريالي الصهيوني. هو مطروح ليس لـ "كتلتين" بل لطبقات محددة "إسرائيلية" وفلسطينية (وأيضاً عربية). وهو هنا مطروح لمستوطنين ينتمون إلى الديانة اليهودية من أجل "غسل" خطيئة الاستيطان عبر إنهاء الدولة الصهيونية، والتأسيس على أنقاضها لدولة ديمقراطية علمانية عربية (وبالتحديد). وهو هنا نتيجة الصراع ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني، وعلى ضوء المقدرة على تغيير ميزان القوى. وما من شك في أن لطرحه فاعلية في الإسهام في تغيير ميزان القوى. لدى الفلسطينيين، لأنه يطرح استرجاع وطنهم، وهو هنا يخص كل الفلسطينيين في مختلف مناطق تواجدهم. ولدى العرب نتيجة العلاقة القومية بفلسطين، لكن أيضاً نتيجة الدور الصهيوني المشار إليه سابقاً. كما لدى "اليهود" لأنه يقدم حلاً ديمقراطياً علمانياً، يقرر استمرار وجودهم لكن في إطار تكوين مختلف، وفي دولة عربية. وهو كذلك يلمس مشكلات "اليهود العرب" لأنه يعيد ربطهم بمناطقهم الأساسية، ويلمس مشكلات الطبقات الفقيرة (وأساسها اليهود العرب) في مواجهة الرأسمالية التي توظفهم في مشروع لإمبريالي، وإن كانت هذه المسألة تبدو صعبة الآن، وربما يعتقد البعض بأنها مستحيلة، لكن الأفق العلماني الديمقراطي والمناهض للرأسمالية يمكن أن يسمح بتحقيق هذا التحول، الذي هو ضروري من أجل تغيير ميزان القوى.
الفعل السياسي يتحدد في المقدرة على حشد كل هؤلاء من أجل تحقيق هذا الخيار. وهو مجهود نقوم به نحن، وفعل نمارسه، لأنه دورنا. حيث من مهمتنا تغيير ما هو راهن، في الوعي، وفي الاصطفافات، من أجل تنظيم القوى التي تصبح قادرة على التغيير.
وهنا نحن لا نتحدث عن "طرفين" بل عن طبقات، عن ناس، ودورنا هو تحشيدها. ربما يقع على عاتق الفلسطينيين والعرب العبء الأكبر في البداية، نتيجة كل ما يحيط بالمشروع الصهيوني من ملابسات، لكن المأزق الذي تحدث عنه الرفيق نعيم الذي باتت تعاني منه الصهيونية، والتغير في موازين القوى عبر النضال الفلسطيني/ العربي، وبالتالي "الحل العقلاني" لوضع اليهود، يمكن كلها أن تفتح على تغير أساسي، يستند إلى رفض المشروع الرأسمالي، ودور "المرتزقة" فيه، ومن ثم رفض الاستيطان والاحتلال، والتمييز الديني والعنصري. والمؤسس على استقطابات طبقية، لدى قطاعات متسعة منهم.
إذن المسألة ليست مسألة تجميع لفلسطينيين وإسرائيليين، ليست كم لكي نقول من هو الأقوى ومن هو الأضعف، كما يلامس الرفيق نعيم وضع الفلسطينيين الذين هم بالتأكيد الأضعف، ولهذا ليس بإمكانهم تحقيق الدولة المستقلة كذلك. لكنها صياغة مشروع يؤسس لاستقطابات على أسس جديدة.
ولهذا فإن الموافقة الحرة هي التي تدفع لتبني، والنضال من أجل هذا الخيار. ولا تأتي الموافقة الحرة على مشروع يطرح على التصويت، أو يخضع لقناعات "الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني"، أي للنخبة الصهيونية الحاكمة والنخبة الفلسطينية المسيطرة. الموافقة الحرة هي فعل سابق يؤسس لفرض هذا الخيار بكل أشكال النضال الممكنة، وعبر تبنيه من قبل الطبقات المناهضة للرأسمالية ولمشروعها الإمبريالي. وهو الفعل الذي يسهم في تغيير موازين القوى.
هنا نعود إلى توضيح أن الخيار المطروح ليس مطروحاً كحل في إطار موازين القوى القائمة، بل في إطار النضال من أجل تغييرها، حيث يكون للهدف/ الخيار دور في تحشيد القوى، وتطوير فاعليتها. في تبلور الاستقطابات، وفي تصعيد حدة الصراع. المسألة هنا هي مسألة صراع طبقي، أيديولوجي، سياسي وعسكري، من أجل تنظيم الطبقات الفقيرة (العربية و"اليهودية") لتحقيق مصالحها، في إطار البوتقة التي تحتضن الوطن العربي. وبالتالي فهي ليست بازاراً من أجل الموافقة "الحرة" على دولة ديمقراطيو أو ثنائية القومية أو على الدولتين. ولهذا ليست المسألة مسألة "موافقة حرة" بل مسألة استقطابات طبقية تؤسس لتغيير المعادلة القائمة، الأمر الذي يسهم في تغيير ميزان القوى.
كيف يعالج هذه المسألة؟
إذا كان الرفيق يرى أن إمكانية الموافقة الحرة ليست قائمة نتيجة ضعف الطرف الفلسطيني ورفض الطرف الآخر، وأن هذه ممكنة فقط "بعد أن يغدو للشعب الفلسطيني دولته المستقلة والمزدهرة"، يعتبر أن طرح خيار الدولة الديمقراطية أو ثنائية القومية هي "حب من طرف واحد". وهو هنا لايزال ينطلق من "الدول" ولا يلامس الطبقات. ينطلق من "الطرفين" وليس من الطبقات/ الأفراد. من فوق وليس من تحت. وهنا يجب لمس مظهر آخر من مظاهر الإشكالية المنهجية التي تعمّمت مع الحركة الشيوعية، التي أشرنا إليها سابقاً، حيث أن الطرف المقصود هو المستوى السياسي وليس الطبقات، التي يمكن أن تكون مختلفة في المواقف، أو يمكن أن يتفكك توحدها.
وبالتالي يأتي تناوله لإمكانيات تحقيق الدولة الديمقراطية أو ثنائية القومية انطلاقاً من هذه "السطحية". لهذا يجهد ذهنه في التخيل حول احتمالات تحقيق هذه الدولة، فيجدها في ثلاث، الأول، "تحول راديكالي عاصف في المجتمع الإسرائيلي". وهذا شبيه بالمعجزة في الأفق المرئي. والثاني، فرضه بالقوة، وهذا ينفي الاتفاق الحر والديمقراطية، لكن القوة ذاتها غير ممكنة بالأساس كما يشير. والثالث، أن يتحقق عبر الدولة الصهيونية ذاتها، وهذا ما يرفضه "حكام إسرائيل". إذن، هذا خيار مستحيل. طبعاً يمكن وضع خيار الدولتين هنا بدل خيار الدولة الديمقراطية ولسوف تكون الاحتمالات هي ذاتها، وبالتالي تتكرر الاستحالة ذاتها وفق المقدمات التي حددها.
إذا كان التحول الراديكالي العاصف غير ممكن إلا عبر فعلنا وتقديمنا حلّ لكل الأطراف (وهنا الأطراف ليست النخب والحكام بل الطبقات الفقيرة)، وإذا كان "حكام إسرائيل" يرفضون التخلي عن يهودية الدولة، ولهذا يرفضون ضم الضفة الغربية مع سكانها، فما هي مشكلة القوة؟
إن توصيف طبيعة الصراع كما حددها الرفيق نعيم توصل إلى خيار القوة بالحتم، حيث أن الهدف المركزي للدولة الصهيونية هو السيطرة ولعب دور إمبريالي. لذا، هل تتنافى القوة مع الخيار الحر والديمقراطي؟ القوة هنا لا تتنافى مع الخيار الحر والديمقراطي، بل ربما تكون تجسيداً له. أليس من حق الشعب الذي تحتل أرضه أن يقاوم وأن يهزم المحتل بالقوة؟ أليس في ذلك تجسيد للخيار الحر والديمقراطي؟ ألا يتضمن خيار الدولة الديمقراطية حل ديمقراطي للمسألة اليهودية؟ وحل للطبقات الفقيرة بغض النظر عن دينها؟
هنا الخلط بين طبيعة الحل وطريقة تحقيقه، فالحل ديمقراطي لأنه يعبر عن مصالح الأغلبية، التي هي الطبقات الشعبية. لكن تحقيقه يخضع لطبيعة القوى التي نواجهها، التي هي الإمبريالية والدولة الصهيونية، والتي كما يشير الرفيق قوة احتلال وسيطرة وتصرّ على لعب هذا الدور الإمبريالي. والنظر للدولة الصهيونية وممارساتها يوضح هذه المسألة. إذن، كيف يمكن أن تواجه؟ بالضغط أو التوسطات؟ هنا نلحظ بأن فكرة الصراع خارج كل حساب، والممارسة هي في حدود الضغط والمناشدة والتحركات المحدودة لإظهار الوجود ليس أكثر، وهو المنطق ذاته الذي يحكم الصراع الطبقي. وبالتالي فإذا كان الحل هو حل ديمقراطي فإن تحققه لا يتم إلا عبر الصراع بكل أشكاله، وأساسه الصراع المسلح ضد كل أشكال الاحتلال.
إن المسألة الفلسطينية هي مسألة احتلال استيطاني أتى في سياق مشروع إمبريالي كما أكد الرفيق نعيم مراراً وهو يرفض خيار الدولة الديمقراطية أو ثنائية القومية، ليقول بأن الدولة الصهيونية لا تقبل بهذا الحل لأنها كذلك. وإذا كنا نحن لا نقبل بهذا الاحتلال الاستيطاني فمن حقنا المقاومة، ومن واجبنا تطوير القوى لهزيمة القوة المحتلة. هنا نحن إزاء قضية واضحة، قضية شعب محتل، والحل الديمقراطي الوحيد هو في أن يحصل على استقلاله. هذا عنصر جوهري لا يجوز القفز عنه، لأن "الأمر الواقع" فرض علينا أن نعترف بالدولة الصهيونية، وبالتالي أن نشطب من قاموسنا أنها دولة احتلال استيطاني، ليس على الضفة الغربية وغزة فقط (كما بات يتكرر) بل على كل فلسطين. وهي كذلك مرتكز عسكري إمبريالي ضد الوطن العربي. الأمر الذي يجعل الصراع معها حتمياً ومستمراً، حتى وإن تجاهلنا نحن ذلك، فهي عنصر تدخل مستمر.
وإذا كانت الصهيونية "تعتبر تحويل إسرائيل من دولة يهودية إلى دولة ديمقراطية أو ثنائية القومية مساوية تماماً لتدمير هذه الدولة – إسرائيل"، فإنها تعتبر كذلك أن إنهاء الصراع والموافقة على "قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة" يعني دمار الدولة، لأنه ينهي دورها الإمبريالي، وبالتالي يلغي كل الدعم العسكري والمالي والاقتصادي والسياسي الإمبريالي. وهو المأزق الذي يؤسس لما أشرنا إليه سابقاً، أي ليس من خيارات وسط ممكنة. وبالتالي فإن "الرافعة الثورية المطلوبة" لتحقيق فرضية الدولة المستقلة هي مساوية تماماً كما أشرنا كذلك سابقاً.
ما يجعل هذا الخيار غير ديمقراطي هو عدم تضمنه لحل للمسألة اليهودية فقط، وليس لفرضه بالقوة، وهو خيار يتضمن هذا الحل بكل تأكيد، وهو ما حاولت توضيحه للتو.
إن المنطق الذي ينطلق منه الرفيق نعيم يقوم على الاعتراف الحاسم بوجود الدولة الصهيونية، وبالاقتناع المطلق أنْ ليس من الممكن تغيير موازين القوى، لهذا لازال يراوح حول حل الدولة المستقلة رغم تبيان فشله بالملموس، ولازال يراهن على الوضع الدولي وهو يرى أنه يميل لمصلحة الدولة الصهيونية. وهو في كل الأحوال لا يراهن على "قوة الجماهير"، ولا يعتقد بأن لكل الشيوعيين دور كبير في تحشيد القوى، وتنظيم الطبقات الشعبية من أجل فرض برنامج هذه الطبقات، الذي لا يلحظ وجود الدولة الصهيونية كونها جزء من المشروع الإمبريالي، لكنه قادر على حل المسألة اليهودية.
نعم، نحتاج إلى مائة ضعف، وربما ألف ضعف القوى القائمة. وحين ننظر إلى الشعب نستطيع أن نثق بأننا سوف نجد هذه القوى. وبالتالي يجب أن ننطلق من طبيعة فهمنا الصراع من أجل تأسيس القوى القادرة على تحقيق أهدافنا، وليس تقزيم الأهداف ذاتها لأننا لا تملك القوى الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق


.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م




.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا


.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان




.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر