الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حنين

يحيى علوان

2008 / 10 / 5
الادب والفن


بعد ما استبدَّ بها الشوق ، اتصَلَت بي ندى أمس تلفونياً من مراكش : " بابا ، اشتقتُ إليكَ كثيرا ، تعالَ وخذني إليك حالاً !" ثم صمَتَت قليلاً وعادَت بُنَيَّتي تَسأَلُني :" بابا ما هو الحنين ؟ ولماذا َنِحنُّ ؟!
قُلتُ لها الحنين هو شوقُ النَرجِسِ للندى ،
... أرضٌ تَجلِسُ مَنفوشَةَ الشَعرِ ، مُشَقَّقةَ الوجه اشتهاءً لِبَلَل ،
...هو عَطَشُ البئرِ لحاملاتِ الجِرار ،
... وتَوقُ الناعور لخريرِ الماءِ ، موسيقىً ، كي لا يُدَوِخه حفيفُ الريحِ في الدولاب ،
والحنينُ فِعلُ ماضٍ ناقِصٍ عن رائحةِ زرع بَهيَّ الخُضرَةِ ، كنتَ تتَمَرّغُ به - ولا تعرفُ إلى اليوم اسمه بل رائحته - ذاتَ ضُحىً ربيعي بحديقة عامة على كَتِفِ النهر عندَ معملِ فتّاح باشا ، يومَ كانوا يُلملِمونَ عوّاماتِ الجسرِ الطافي ، بعدَ اكتمالِ بناء "جسر الأئمة " في الكاظمية ،

... وللحنينِ رائحةُ "المزكوف" في " أبي نؤاس " مُضَمَّخة بعطورِ النساء في شارع النهر ،
............
............
بابا ، بابا ، ...بــــابــــــــــا....!!
............
والحنين ، يا صغيرتي ، مَرَضٌ مُتَردِّدٌ لا يُعدي ولا يُميت ،
... يُصيبُ مَن به مَسٌّ من مكان ، وهوَسٌ لمعنىً خالٍ من الزركَشَة وزُحام التأويل ،
... هو وَجَعُ البحثِ عن فَرَحٍ مندَثِرٍ ، بعيد ،
... وهو ناتجٌ عَرَضيٌّ لخوفنا من الكِبَرِ ،
... وهو ظمأُ المُستَترِ لضميرٍ معلومٍ ، حتى لو كان ماءً يَلصِفُ في سراب ،
... وهو فلترٌ يُنَقّي زوايا الذاكرةِ مما تَرَسّبَ بها من شوائبَ وسلبيات ،
والحنينُ ، يا ندى ، رَجفَةٌ تَخُضُّكَ عندما تواجه بياضَ لوحةٍ وأنتَ تَهِم بنثر نجومٍ ، تكتظُّ بها سماءٌ ، تَفتَقِدُها في منفاك ُ

بابا ، أنا لا أفهَمُ هذا الهُراء ، سألتُكَ عن معنى الحنين ...!
..........
الحنينُ ، يا ندى ، هوَ ما دَفَعَنا أن نعودَ بنشيدٍ مكتومٍ ، مُتَسَللينَ إلى
وطَنٍ ، حَسِنُ التسمية سيءُ المُسَمّى ، وَطَنِيُّ القَهر ، قومِيُّ النفاق ،
عُدنا ،" مهاجرونَ " عائدون ، يتَحَكَّمُ بنا إنفصالُ الرمزِ عن الواقع ، والألفاظ
عن معانيها ،.. عودة ،.. تحرير ،.. إسقاط ،.. حرية ،.. عدل...، مفرداتٌ تتملّى الشيء عن بُعدٍ ، حتى بدون عَدَسَةٍ مُكَبِّرَةٍ أو ناظورٍ مُقَرّب !!
أهيَ وعكةٌ لُغَوية عَجَزَت عن تعريفِ الكليِّ بالجزئي ؟! أم سحرُ رنينِ المفردة ، الذي لم نُشفَ منه ، وقضينا العُمرَ في الدفاعِ عن حقَّ اللعبة في استدراجنا إلى المتاهة ، وفي استدراجها إلى فُكاهة لافَتَةٍ لا يراها سوانا ؟!
...نَعَم ! كُنَا أحراراً ، بحريَّةٍ غيرُ حَمّالةِ أوجه ..أحراراً في وضعِ الخيالِ على الركبتين ، دون المقارنة بين سِجنٍ كبيرٍ وصنوٍ صغير ، كنّا كما تَفعَلُ المُتَصَوِفَةُ نطيرُ أَبعَدَ من هُدهُدٍ في أَقاصي السؤال ...وكان فينا من كثافةِ الغَيمِ ما يَروي اليَبابَ لو تَقَطَّرَ ومَطَر . وفينا من نُدوبِ الظُلمِ ما يُغنينا
عن طَلَبِ العدالةِ بِفَصاحةِ اللسانِ والتبيينِ والبيان ...

...بابا ، إذا لم تُجبني فوراً ، سأُغلقُ الخط ..!!
............
الحنينُ ، يا صاحبتي ، هَسيسٌ ، نَسمعُ فيه قَطَراتِ الماءِ ، تُنَقِّطُها حنَفِيَّةٌ
غيرُ مُحكَمَةِ الإغلاق ، وإصغاءٌ لِخَطوٍ يَتَقَدَّمُ من البابِ ، ولا يَصِل ...
... وللحنينِ صوتُ العُتمَةِ تَتَطَلَّعُ إلى وظيفةِ حاسّةٍ أُخرى لا تُتقِنُ الكلام ،
تَستَعينُ بطاغوتِ الأَرَقِ ، يُسبِّبُهُ سوءُ الفَهمِ الدائمِ بينَ الواقِعِ والخيال...

... الحَنينُ هُوَ حاجَةُ الصَحوِ إلى غيبوبَةٍ قريبةٍ من شَبَهِ الشيء بغائبٍ ، لا مَرئيٍ ، يَستَعصي على المناورةِ والتَعريف....
... الحنينُ يَهبِطُ عليكَ حُبَيباتُ ندىً ، لا هوَ شِعرٌ ولا هُوَ نَثرٌ ، لا أرضِيٍّ ، ولا سَماوِيٍ ، لكنهُ يَطيرُ بِكَ وتَطيرُ به .....
فأذا نَصَبتَ له فَخّاً من دفتَرٍ وقَلَم ، قَد يَجفَلُ من التدوين ، لأنهُ لا يُحِبُ الإفاداتِ ولا المحاضِر ولا التَقارير ....
... الحَنينُ هو إعرابٌ لدواخِلِ غُربتكَ في ظِلِّ الصدى وحواشي كؤوسِ الهاجِسِ ، التي لا تُتقِنُ التدوينَ بلا أخطاء...
... والحنينُ يَتَزَيَّا بالغامِضِ ، لا يُلمَسُ ولا يُتَذَوَّق .... يَتَحَرَّشُ باللامُنتَظَر...
.............
.............
.............

توووووووووووووووت........

ندى قَطَعَت الخط ....



يحيى علوان
برلين : 2/ 10 / 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجا فيلم -رفعت عينى للسما- المشارك في -كان- يكشفان كواليس


.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا




.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ