الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة :الأجندة

بشير زعبيه

2008 / 10 / 6
الادب والفن


كعادته حين تخونه الذاكرة أوهو يبحث عن رقم لاسم ما..
فتح الصفحة عند الحرف الذي اختاره باحثا بنظره وأصبعه معا من أعلى الى أسفل ثم بمهل قلب الصفحة والصفحة التي تليها وهنا سحب أصبعه فجأة وبدأ يقلب الصفحات بسرعة ويلاحقها بنظرات مرعوبة ثم ألقى بها جانبا وكأنها عقرب خشي أن تلدغه متراجعا عن مشروع مكالمة هاتفية كان يعد لها ..
جلس على حافة السرير لبعض الوقت وهو في حالة شرود قبل أن يعود اليها ويعيد تصفحها ولكن ببطء هذه المرة فتستوقفه بعض الصفحات ثم ينتقل الى غيرها شاردا ولم يعد يبدو عليه أنه يبحث عن شيء محدد..
كان ذلك منذ زمن عندما دون أول اسم في هذه الأجندة التي يفتخر بأنه حافظ عليها طوال هذه السنين ولن يغيرها .. بدأها بأسماء الأصدقاء ثم بعض رفاق الدراسة فزملاء العمل لتخرج فيما بعد عن النطاق المحلي فتضم أسماء تعرّف عليها في رحلات ومهام خارجية .. يتذكّر أول اسم أنثوي دونه وكيف كان يكتب تلك الأسماء في البداية مموهة .. تغيرت أرقام وكبرت أسماء وصارت تسبقها أحرف ونقطة تعرف باختصار عن أصحابها فهذا (أ.) وذاك(د.) وآخر(م.) وأسماء النساء لم تعد مموهة..اختفت أسماء وعادت بأرقام جديدة وغابت أخرى ولم تعد..
تعود بين حين وآخر أن يفتح الأجندة ويتصفحها بتمهل مستعرضا الأسماء حسب ترتيب أحرفها فيختار أحدها ويهاتفه ثم يكرر ذلك مع آخر وهكذا يحس أنه أدى واجبا كان لابد منه والا لماذا وجدت تلك الأسماء في هذه الأجندة ولماذا يحرص عل تدوينها و يحافظ عليها كمن يحافظ على كنز قديم.. تعود أيضا ومنذ مدة أن يرسم خطا عريضا بلون بني لا يعرف لماذا اختاره تحديدا فوق الأسماء والأرقام التي يرحل أصحابها الى الأبد فيخفيها.. ولما فتح الأجندة هذه المرة متصفحا فوجيء بخطيين بنيين على الصفحة الأولى ما كان ليعيرهما اهتماما لولا أنه عندما بدأ يقلب الصفحات اكتشف للمرة الأولى أن الخطوط البنية قد ازدادت وأن اسماء عديدة لم يعد يراها لابد أنها قد اختفت تحت تلك الخطوط .. لذلك ارتعب وبدا شاردا وهو يتذكر بعض تلك الأسماء التي كان الى وقت قريب يلتقط أرقامها من هذه الأجندة وبلمسات معدودة يمكنه أن يرفع سماعة الهاتف لتأتيه أصوات أصحابها مفعمة بالحياة والآن قد غابوا ولن يعودوا..لم يشعر من قبل أن وقتا طويلا مرّ منذ أن دون الاسم الأول في هذه الأجندة الى آخر اسم فيها أخفاه خطه البني.. حتى ورقها بدأ يفقد بياضه الأول.. سارع باغلاق الأجندة فانتبه الى وجود بقع بنية بدأت تتشكل وتنتشر على غلافها الذي لم يره قديما باهتا كما هو الآن .. لم يعد يريد الرجوع الى هذه الأجندة سيخفيها ..يمكنه استخدام جهاز الهاتف نفسه في تخزين الأسماء والأرقام وهو الذي ما كان يستهويه ذلك .. اتجه الى خزانة الملابس, سيدسها هناك في رفً أو درج ما أو في جيب سترة قديمة.. وعندما فتح الخزانة تراجع على الفور وهو ينظر الى ملابسه وكأنه يعدّها ويعيد.. فوجيء أيضا أن ملابسه بدأ يغلب عليها اللّون البنّي.. لم تكن هذه ألوانه..
يتذكّرأنه كان يختار ملابس ألوانها فاتحة ومزهرة .. دسّ الأجندة وأقفل باب الخزانة على عجل فوجد نفسه وجها لوجه أمام صورته في المرآة المثبتة على أحد بابيها.. رفع يده في حركة آلية محاولا أن يصلح من شعره لكن يده توقفت فوق رأسه في الوقت الذي دنا برأسه قليلا الى الأمام حتى كاد أنفه يلمس سطح المرآة وهاهو اكتشاف جديد .. الخطوط المرسومة على وجهه تحت العينين وتلك التي تنحدر من جانبي الأنف أو من أسفل الذقن الى الرقبة بدت واضحة بلون بنيّ .. تحسسها بباطن أصابعه وكأنه يحاول مسحها ثم استدار بسرعة متجها نحو باب الغرفة ..
لم يعد يطيق البقاء هنا .. سيخرج الى الشارع ..
منذ أول استعمال لها أصبحت هي الشيء الأهم الذي يحرص على أن يكون برفقته .. تغمره بهجة كلما فتحها وهم باضافة اسم جديد.. انها تزدحم بالحياة.. هكذا كان يقول لنفسه وهو يرى أجندته وقد ازدحمت صفحاتها بالأسماء. اليوم فقط اكتشف أن هذه الأسماء يمكن أن تنقص أيضا وتختفي من الأجندة .. وقد اختفت أسماء كثيرة..
طقس بجو الخريف يستقبله في الشارع وهو الذي لم يكن ليهتم من قبل بالفصول وتعاقبها .. فهي عنده اثنان،صيف حار طويل وشتاء بارد قصير.. لكن الآن لا حر ولابرد .. سماء لاتظهر زرقتها وشمس تطل بين غيمة وغيمة.. وأوراق سقطت من شجيرات الرصيف يحس بها ويراها بلونها البنّي تتكسر بين خطوة وأخرى تحت قدميه التين لا يعرف الى أين تقودانه فكل ما أراده فقط هو أن يهرب من الغرفة ومن الأجندة ومن المرآة ويخرج الى الشارع.. لكن من المؤكد أن وجهته ستكون تلك المقهى التي اعتاد التردد عليها منذ مدة في غير هذا الوقت ، لذلك يعلم أنه ربما لن يلتقي فيها أحد من الوجوه التي تعود رؤيتها هناك.. أراحه هذا الاستنتاج فاستسلم لقدميه وهما تقودانه الى المقهى..
و هناك قصد المقعد المعتاد في الزاوية نفسها .. مكان يتيح له مشهدا بانوراميا للمقهى من الداخل وللخارج عبر الواجهة الزجاجية التي تفصله عن الشارع ..وفي امكانه هذه اللحظة وهو في وضعه هذا أن يميز بوضوح حتى حركة الشفتين لذلك الشاب والفتاة وهما يتهامسان في مجلسهما عند الركن المحاذي للمدخل الذي يجلس قبالته.. يمكنه أيضا أن يسمع بعضا من حديثهما اذ يعلو مرفقا بضحكتين.. تدني الفتاة رأسها قليلا نحو الشاب وهي تبتسم مقربة بين حاجبيها مع حركة ناعمة من الرأس توحي بأنها تسأله, هكذا فسرها حين سارع الشاب بدس يده تحت فانلته وأخرج من جيب قميصه شيئا عرف على الفور أنه أجندة فيما مدت هي قلما أخرجته من حقيبتها الصغيرة.. أعاده المشهد فجأة الى الغرفة التي غادرها قبل قليل.. ركز نظره اتجاه الأجندة قبل أن يهم الشاب بفتحها .. لاحظ أنها جديدة ولها غلاف بلون فاتح جميل ينسجم مع ألوان الملابس التي يرتديانها .. أجندته كانت كذلك في البداية..لاحظ الشاب والفتاة بدورهما أن رجلا علي المقعد المواجه يراقبهما ولا يبدو أنه يحس بأنهما تنبها اليه..بقي لحظات جامدا متسمر العينين كتمثال الشمع غير أنه انتبه أخيرا للفتاة وهي تنظر اليه وتهمس في أذن الشاب الذي كان قد خط شيئا في الآجندة وأعادها الى جيبه ..فابتسم بارتباك وهو لازال ينظر الي هما وكأنه يقدم اعتذارا ثم قام متظاهرا بالبحث عن النادل وانسحب تاركا الشاب والفتاة و المكان خلفه وخلفهم الغرفة والمرآة والأجندة والشجر الذي يتعرى..
عليه الآن أن يبحث عن مكان آخر ..
(تمت)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟