الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شجرة الرمّان..شجرة طفولتي

عبدالكريم كاصد

2008 / 10 / 8
الادب والفن



في حياتنا ثمة أشياء صغيرة نظلّ، على صغرها، نستحضرها ونستحضرها حتّى تكبر فلا نستطيع لها ردّاً. ونعجب كيف انبثقت فجأةً لتحتلّ كلّ هذه المساحة في النفس؟
من بين هذه الأشياء ثمة شجرةٌ صغيرةٌ طالما قادتني إليها زوجتي الراحلة كلّما جئتها زائراً قبل زواجنا، في حديقة منزل أهلها الخلفيّة .. . شجرة رمّان ها أنا أراها فجأةً وهي تتفتح في بيتي ...
وأتذكر جثمان أبي المسجى في ظلّ إوراقها يحيط به الغاسلون وتحجبه ستارة بيضاء.
ثم ها هي تلتمع في أكثر من بيت .
يا لدهشتي، حين تذكرت أنّ جلّ حدائق المنازل في مدينتي البصرة لا تخلو أبداً من شجرة رمّان صغيرة تشع ثمارها المتدلّية الحمراء في البعيد.
لماذا لم أعرف هذا من قبل؟ لماذا لم أعرف أنها قد تكون شجرة طفولتي؟


في شجرة طفولتي
فانوس يضئ :
رمّانة حمراء


غير أن ذاكرتي، إذ امتدّت، تقلّصت ثانيةً عند حديقة أهل زوجتي، فزاد حنيني إليها واختفت بهجتي بلون ثمارها، وتخيّلتُ أو تمنّيت لو أنّ هناك شجرة رمّان أغرسها عند قبر زوجتي في مقبرة ( كنسل غرين ) في لندن .
ما أشدّ وحشتي !
وما أبهج شجرة الرمّان !
وما أبعد حبيبتي !
ثمّ انداحت الذكريات فتذكّرت جلستي في الباص الذاهب إلى دمشق عبر الأردن وحرجي في المقعد المواجه للمرآة المنصوبة في مقدّمة الباص، وأنا أتطلّع في وجوه الركّاب وهم يتطلّعون بي وبوجوه بعضهم بعضاً. وممّا خفّف حرجي إغفاءتهم المتواصلة، غير أنّ ضيقي لم يتوقّف إلاّ عندما توقّف الباص في الطريق. تعرّفتُ على طالبٍ مثلي ذاهبٍ إلى دمشق للدراسة في جامعتها أيضاً. قدّم لي رمّانةً لم أر مثل حمرتها ولمعانها وحجمها أبداً. قال لي إنها من بستان أهله في بعقوبة. جلب احمرارها الحياة والسكينة إلى نفسي ... بعد أن أشاعت المرآة فيّ الاضطراب.
تذكّرت ( كاواباتا ) وقصصه القصيرة التي نسيتها فلم يبق منها عالقاً في ذاكرتي غير شجرة رمّان منتصبة في أكثر من قصةٍ فيها.
في شجرة الرمّان يحضر الماء والنار جنباً إلى جنب وتصدح الأسماء الغريبة كالطيور وتشتعل الأساطير.. لم تسحرني كلمة مثلما سحرتني كلمة جلّنار، ذات الأصل الفارسيّ والتي تعني الرمّان في اللغة العربيّة، ولعلّ ما زاد في سحر هذه الكلمة هو جرسها في أبياتٍ وردت في الشعر العباسيّ وشعر الزهاوي كنت أحفظها في طفولتي :


لستُ أنسى فيما ســــمعتُ الهزارا إنّه كان فاتناً ســـــــحّارا
صاح في الروض صيحةً ثم طارا فكأنً الهزارَ أضـرم نارا
عندما صاح في حشى الجلّنارِ



وأشجار الرمّان بحّد ذاتها أساطير حمراء في واقع أخضر أو رماديّ من النخل والعرائش في أبي الخصيب. أتذكر وقوفي أمامها كلّما طلعتْ لي من خضرةٍ تشعّ ، و (كربٍ ) يذوي ، وروائح تشتعل متخفّيةً في احمرارها الخجول الذي يفضح حياءها. لم أكن أدري من قبل أنّ لشجرة الرمّان مثل هذا التأثير الذي يشيع في داخلي الحنين ... إلى بيتي .. إلى الطرق التي سلكتها ذات يوم عاشقاً أو خائباً أو وحيداً ... إلى حبيبتي التي تنام الآن بلا شجرةٍ لتوقظها أغصانها في الصباح ، ولكنّني تذكّرتُ شجرة أزهرت حمراء ذات يوم فكتبتً هذا المقطع الصغير من مقاطع عديدة:


هذه الشجرة
المكتظة بالأزهار الحمراء
أتهزأ بي ؟


لعلّ هذه الشجرة هي شجرة الرمّان التي تمنّيتها مغروسةً عند قبر حبيبتي .
أجل سأقرأ قصائدي بعينين أخريين وسأبدل بالتفّاحات الخمس رمّاناتٍ خمساً، وشجيرة الورد سأراها شجيرةَ رمّان .
أجل سأمارس لعبتي مع الأزهار :


الأغطية البيضاء
قدح الثلج المائل فوق الرفّ
الرمّانات الخمس
قميص النوم
جواربك السوداء
الكرسيّ الفارغ
ذبذبة الضوء على المرآة

( طبيعة صامتة من ديوان " نزهة الآلام " )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي