الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رحيل ريك رايت أسطورة بينك فلويد وبينك فلويد الأسطورة

يوسف ليمود

2008 / 10 / 9
الادب والفن


"لست خائفا من الموت، سأموت في أي لحظة، لا أبالي. ولم أخاف الموت؟ لا سبب للخوف. سنرحل في وقت ما".
هذه بعض كلمات المداخلة الغنائية "الحلقة العظمى في السماء" التي كتبها ريتشارد رايت في ألبومهم المجيد "الجانب المعتم من القمر" 1973 لفريق الروك الانجليزي الأشهر "بينك فلويد" والذي كان هو عازف البيانو والكيبورد فيه وأحد مؤسسي هذا الفريق الأسطورة. مات "ريتشارد (ريك) رايت" قبل أسبوع يوم الاثنين 15 أيلول في بيته في بريطانيا في الخامسة والستين بعد صراع قصير مع السرطان. قال ديفيد جيلمور مغني وعازف جيتار الفريق في رحيله: "كان شخصا رقيقا متواضعا وذا خصوصية شديدة، لكن صوته الدافئ وعزفه كانا من الحيوية والسحر ما وهب موسيقى بينك فلويد نغمتها وحسها الخاصيْن، لم ألعب مع شخص مثله في حياتي أبدا".

كلام حقيقي غير مبالغ فيه، فإن كان جيلمور هو صوت الفريق، وروجر ووترز عقله ومحركه، فقد كان ريك رايت الروح السارية في الجسد الكلي لتلك الأسطورة أو البللورة السحرية المسماة بينك فلويد والتي أخذت بألباب الملايين في العالم أجمع وغيرت حياة الآلاف منهم. كان رايت روحا فنية خالصة تعمل في الظل وفي صمت، روح فنان في أرقى مستوياتها وأكثرها شفافية. في عزفه زغب خفي يطير ويملأ فراغ المساحات وأذيال الخفوت في الوديان التي تنهمر عليها السيول والشلالات القادمة من أعماق الآلات الأخرى تخبيطا وتجريبا وجنونا لم يسبق لدماغ موسيقي قبلهم أن حلم بمجالات فضائها الكونية البعيدة.

علم رايت نفسه العزف على البيانو والكيبورد في الوقت الذي التقى فيه أعضاءَ الفريق "روجر ووترز"، "نيك ماسون" و"سد باريت" أثناء دراسته العمارة في كامبريدج في 1965 لينضم إليهم "ديفيد جيلمور" بعد ثلاث سنوات. برحيله يودع الفريق وملايين المولعين بالفريق حول العالم، العضوَ الأسطوري الثاني بعد أن رحل "سد باريت" مرتين: الأولى حين غيبه الجنون وهو في قمة نجاحة وتألقه وشبابه، والأخيرة، التي لا رجوع منها، قبل عامين.
هل يفاجئنا الثلاثة الباقون على ظهر الأرض بألبوم جديد يعاودون فيه سؤال الغبار "إلى أين نمضي من هنا؟"! حين غاب باريت في جنونه شبعوا الأثير بنغمات ألبوهم الخرافي "كم أتمنى لو كنتَ هنا" والذي من كلماته:

أذكر حين كنتُ صغيرا، كنتَ مشرقا كالشمس
أشرق والتمع، أنت يا ماسة الجنون
في عينك الآن نظرة كثقب أسود في السماء
أشرق والتمع، أنت يا ماسة الجنون
قُبض عليك بين طلق نار الطفولة ولمعة النجومية
تبددتَ على نسمة من فولاذ
تعال يا قرص الهدف لضحكٍ بعيد
تعال أيها الغريب أيها الأسطورة أيها الشهيد
أشرق والتمع
وصلتَ إلى السر سريعا، بكيت إلى القمر
أشرق والتمع، أنت يا ماسة الجنون
مهددا بظلال الليل غارقا في النور
أشرق والتمع، أنت يا ماسة الجنون
حسنا، محوت ترحيباتك بدقة عشوائية
وركبت نسمة الفولاذ
تعال، أيها العربيد، أيها الرائي، أيها الرسام، أيها الناي، أيها السجين
أشرق والتمع
بإمكانك إذن أن تخبرنا الفرق بين الجنة والجحيم
بين زرقة السماء والألم
أيمكن أن تخبرنا ما حقل أخضر من قضبان سكة حديد باردة؟
ما البسمة من الحجاب؟
هل بإمكانك فعلا أن تخبرنا
وهل جعلوك تقايض أحصنتك بالأشباح؟
الرمادَ الساخن بالأشجار؟
الهواءَ الحار بالأنفاس الباردة؟
الراحةَ الثلجية لمجرد التغيير
وهل بادلت نزهتك في حقل الحرب بدور قائد في قفص؟
كم أتمنى لو كنت هنا
روحان مفقودان نحن يسبحان في حوض سمك
عاما إثر عام
نركض على الأرض القديمة ذاتها
ما الذي تحصلنا عليه؟
الخوف القديم نفسه
كم أتمنى لو كنت هنا

إن كان سماع نغمة أو أغنية واحدة من فريق البيتلز، الذي كان معاصرا لبداياتهم، يستحضر في الذهن فورا حقبة الستينات بكل تداعياتها، من حركة الهيبي والثورة الجنسية إلى حرب فيتنام والوصول إلى القمر، فإن روح بينك فلويد تأخذ الحواس إلى فضاء بعيد، بعيدا عن تفاصيل الحاضر، رغم انبثاقها من صميم هذا الحاضر بحكم الوجود والتشكل فيه. حس يقذف بسامعيه هياكلَ عظمية كسفن تسبح في آفاق بغير زمن.
موسيقى بينك فلويد مجرة سابحة على حافة ثقب. تسيل، كامتزاج شمع في عسل على حرير كوني. أحبال الصوت شعيرات تمتص الرحيق الآدمي. برزخَ التلاقي بين مد الحياة ومد الموت:"إلى أين نمضي من هنا؟". الخارج من الحنجرة روح وليس صوتا. فقاعات من طبيعة داكنة ترغي وتزبد في مساحات الصمت. فقاعات قرمزية رغم الاسم الوردي. شخشخات ألم منثورة بين نغمة القرار وشظايا الجواب. هدوءات ما قبل العواصف يهتز فيها خريف سحيق.

في النسيج الصوتي ثمة جهات محترقة. متفحمة. عتبة "صول" المنزلقة على هاوية بلا قرار تنفي الزمن في سقوطها الدائخ في الفراغ. رياح تفور في الصقيع الأبعد كفحيح نجمة احترقت. بين درجات السلم انزلاقات بلاتينية كإبرٍ مصوبة على نواة خلية. تصاعدات صوتية تتهدج تتداعى في ارتطامها بحائط أين نمضي من هنا. ارتجافات إله محكوم بالموت لم يسعفه الحدس والوقت لاختراق حُجب المصير. تصدعات وجودٍ يتوالد يتجدد ينشطر يتكرر يحبو يأمل يكبر ييأس يرتطم بالسؤال وبالمصير وبالعتامة أين نمضي من هنا.

ويلتف ذيل الهم الوجودي على انشطارات لغة العالم. على اليومي: من الأم إلى المدرسة. من المدرسة إلى الحرب: "أماه، هل سيسقطون القنبلة؟" .. "أماه، هل أثق في الحكومات؟" .. "أماه، هل سيرمون بي في خط النار؟" .. "أماه، هل أنا في طريقي للموت حقا؟". ومن غسيل الدماغ إلى البرمجة: "أيها المدرسون، دعوا الأطفال في حالهم. لا نحتاج تعليما الآن". في تصاعد زعقة الصوت أربع طبقات في نفسٍ حد الاحتباس من بحة الصراخ تلخيص لعمر أربعيني. لانفجار جنونٍ في سن الحكمة. في التشظي والانبعاث. في المرور من أنابيب التلاشي وسياط الذكريات ونقر السؤال على جلد العبث.

صولو الجيتار يفتح في السماء فجوة. والطبول تقذف العدم بالحجارة. والكيبورد يطلق في شروخات البرق أجنحة بيض. والبيانو يدفن جثثا خيالية في عمارة قبور لم تبن بعد. والساكسفون نفخٌ في الصور. والفلوت فجر وأرض في مطر.

الموسيقى، رغم كونها الأكثر تجردا بين كل الفنون، لا تنجو من خاصية التصوير. هي أكثر تصويرية من الرسم والتصوير ربما، وتحديدا بسبب من تجريديتها. هذا ليس عيبها ولكنه عيب الدماغ البشري الذي يربط أوتوماتيكيا بين الوارد المجرد وبين زاده من الصور والانطباعات. إنه بالأحرى عيب الذاكرة. الذاكرة الكلب التي ربطت بين جرس الباب وبين وقت الأكل.
موسيقى بينك فلويد موسيقى صورة في الأساس، ذلك أنهم شعراء في الأصل، رسامون. الشعر، وهو في جوهره صورة، أداتهم الأولى ومنطلقهم. التشوش الصوتي يتموج في الأثير وفق قوانين الشعر، فكأنما يخبط أو يهبط على مفتاح البيانو الأيسر فيل، وعلى الأيمن سنونو ينقر، وما بينهما أحصنة تعدو وغزلان وبقر وخنازير وضفادع وجرذان وكلاب وأبناء آوى وخرفان وماعز وكاتدرائية من حناجر أطفال وأجراس وهلوسات وفراشات ورياح ونوارس ويمام. هديل وزغب ولحم طري يخرج من بيوضاته في الأعشاش المخبوءة في أعماق الآلة. ضحك وبكاء. نهارات بلا تاريخ. بدايات هي أم نهايات! أغشية قلوب تصمغت بالريش يترنح من التعب في ساحاتها الإله والشيطان. وملايين البشر المنوية تصفق للموت القادم والمشيمة القادمة. تصفق وتصفر.

ذراع الآلة عفقة. والأغنية ثلاث عفقات أو أربع. بساطة واعية. تغزو أرضا عجائبية. تحرثها. تقلبها بأهداب جمال بكر. الصوت الذي يقتنص ذاته ويقولها في فجائية حدس نبوي. كأنها الحتمية. بجع يخرج من لمس الوتر الغليظ. سرب سنونو بين أطراف الأصابع ومسافات السلك الرفيع يهبط في قعر الماء يسائل الأسماك عن نشأتها. وتدوخ الذبابة المحبوسة في نافذة الظهيرة وفي المطاردة. لكن لحم الغريزة يلح تتعالى شحنته يتصاعد يرتطم يدوخ يشهق يزفر في النشوة يتكهرب يتفرغ يلمس ظل جثمان الوجود ويهجع. فليمتلئ صمت الموت إذن بكائنات الماضي البعيد. ما حملناه في ترحالنا عبر العوالم والميتات. للصوت المعدني أعصاب تكهرب الآنَ بغياهب ما كان. هدير ممسوس بروح الأرض يقول الليلَ القمر الصمت القبر النجمة العظام الراحلة فانبثاق الصرير الكوني والغيب وتكسرات الأزمنة في التصاعد اللحني المشوش بين الأحبال والمفاتيح والنقر على جلود الرحيل فدخول ناي النهاية.

قبل عامين، حين رحل سد باريت في الستين من عمره المأسوي، وكان قد أمضى نصف عمره الأخير بعيدا عن عالم الناس العقلاء، وديعا فى غيابه الحي في كنف أخته يرسم ويرعى الزرع في الحديقة ويتسوق ويركب دراجته البخارية. هذا الولد الذي كان يوما الأكثر جمالا والأكثر موهبة والأكثر خفة والأكثر روحا والأكثر صخبا والأكثر حبا والأكثر كل شيء، والذي راح في جرعة المخدر ولم يرجع. لحظتها، ومنفعلا بحدث موته وحياته، خرجت من كاتب هذه المادة السطور التالية:

ما كان للمشوار أن يأخذ أكثر من ست خطوات بحسابات نجمة ميتة 
والصرخة
ما كان لها أن تُغسَّل إلا على رخامة الشهيد 
لا مقاعد هنا لعزاء الملائكة 
والكهرباء سبق تعطيلها منذ سنوات عديدة
كي يتعرف الصمت على جلال الصمت. 
المرايا حلقت شعرها بأمواس الآخرة: 
الرأسَ والحواجب والحلمات.
والولد المتكوم على جرف حبه المروع 
يعالج بالغبار
كلمات أغنية لن تسمعها إلا الخفافيش 
يلون نملا يتسرب من ثقبه الأسود 
ويرسم لوحات غامضة 
متوحدا في نفسه
مثل النجوم

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا