الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل صانع الموت أو - أي الموتين يختار العراقيون؟

منذر بدر حلوم

2004 / 2 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


    ثمة من يلجأ إلى الانتحار نكاية بالحياة, وثمة من يلجأ إليه نكاية بنفسه أو بالآخرين الذين قد يكون بينهم الصديق والحبيب كما يكون العدو, كما ثمة من يلجأ إليه كفعل حرّية شخصية, من باب تقرير لحظة الموت تعويضا عن جبرية لحظة الولادة, فضلا عمّن يلجأ إليه بحثا عن خلاص فردي في حياة لا يبدو فيها مخرجا سواه, بل ومن يستسلم لِطيفٍ ما يتراءى له من العالم الآخر, طيف يقوده إلى هناك فينقاد إلى حيث اللاعودة..
    من النادر, كما يبدو لي, أن تجد شخصا لا تراوده فكرة الانتحار لسبب أو لآخر, بطريقة أو بأخرى, كما هو من النادر أن تجد شخصا لا يصحو إلى نفسه بعد ذلك فيثني عليها لأنها لم تستسلم لنداء الموت, أو يثني على الظروف التي حالت بينه وبين الموت عندما كان على شفا الرحيل, وكان يكفي أن يومئ أحدهم له برأسه موافقا أو مشجعا حتى يسقط في اللجة.
    يقال إن من يُنْقَذ من الموت وهو في طريقه إلى الانتحار أو يُنعَش فيطرد الموت من أحشائه نادرا جدا ما يعود إليه. وربما يكون مرجع ذلك فيما يُشمَل به المنتحر, عادة, من رعاية نفسية بعد الإنقاذ, أو ربما يكون فيما يفعله الآخرون حين يرسمون في وجوده أبوابا إلى الحياة لم يكن يراها قبلا أو كانت تبدو له موصدة قبل أن يتناهى إلى أذنيه الجديدتين صريرها أو تنشرع أخشابها على فضاء جديد أمام عينيه العائدتين من الموت؛ أو ربما هو لا يعود إلى الانتحار لأن أحدا ما يستطيع أن يزرع في روحه طريقا آخر إلى ما كان يسعى إليه بالموت, طريقا يكون بغير قتل النفس...إلى ما هنالك من أشياء يمكن أن تعيد من هو برسم الموت إلى الحياة.. فإذا كان في إعادة الحياة إلى راحل عنها فضيلة, فهل يكون للأخيرة أثر في الدفع إلى الموت!؟  
    ذلك القليل العامُّ مما يمكن أن يقال في الأسباب الدافعة إلى قتل النفس أو الرجوع عنه, لا يلقي الضوء على صنف من الموت يتجمّل بالقضايا الكبرى والقيم العظيمة كالتضحية بالنفس في سبيل حرية الوطن وحياة مواطنيه الكريمة.
    نكاد كل يوم نسمع بمن يفجّر نفسه وسط العراقيين, وكدت أقول وسط أهله وأبناء عمومته وأبناء دينه, لكنني وجدت من الضروري بمكان أن أتوقف هنا, فهنا كما يخيل إليّ تقع نقطة الفصل في أن يكون هذا الموت مقدسا أم ملعونا, بطولة أم إرهابا. فهذا الموت الذي يؤدي إلى قتل النفس والآخرين العراقيين تختلف قيمته المعنوية باختلاف النظرة إلى هؤلاء العراقيين المقتولين, النظرة النابعة أصلا من النظرة إلى الأمريكان؛ فهناك من يرى في الوجود الأمريكي احتلالا يستهدف الأرض العراقية والإنسان العراقي وكل شيء يكونان به, ويرى, بالتالي, في مقاومته واجبا وطنيا ودينيا ونصرةً لتراب العراق ومقومات الوطن العراقي وكرامة الإنسان العراقي, ومنه, فطبيعي أن يرى صاحب هذه النظرة في التعاون مع الأمريكيين وحلفائهم اعتداء على العراق والعراقيين, اعتداء يُكسب المتعاونَ انتماء جديدا إليهم ويجرده تلقائيا من كل انتمآته السابقة إلى الأرض والدم والعقيدة, فلا يعود أخا أو ابن عمٍّ بالدم أو الدين لأي عراقي (حقيقي), بصرف النظر عن فقره وعوزه وسعيه إلى اللقمة, وبصرف النظر عما يكون قد تعرض له من ظلم صدامي بعثي؛ كما هناك من يرى, على العكس من ذلك, في الوجود الأمريكي خلاصا من الطغيان الصدامي البعثي وفاتحة نحو حرية العراق والعراقيين, ويرى بالتالي في الوقوف معه وقوفا مع مستقبل العراق وأبناء العراق, ومنه, فهو يرى في مقاومة الأمريكيين قتلا لهذا المستقبل, ناهيك عما يمكن أن يقال في قتل العراقيين المتعاونين مع حَمَلة المستقبل, المستقبل الذي يرى أصحاب وجهة النظر هذه أنه لم يكن ممكنا ولا يمكن أن يكون لولا فضل أمريكا. ولا يفوتنا أن هناك من يرى طريقا ثالثا يكون بالانطلاق مما وصلت إليه الأمور اليوم, أي بالسعي إلى الاستقرار وبناء الدولة, بصرف النظر عن وجود الأمريكيين الذين سيرحلون إن عاجلا أم آجلا, وبالتالي لا يرى للمقاومة معنى.. وثمة فئة أخرى من حلفاء أمريكا الأذكياء الذين يرون أنها أنجزت ما كانوا يصبون إليه- إسقاط صدام- وبالتالي,ولما كان الشعور بعبء الدَين تجاهها, كما الشعور بالعجز أمامها, يمنعهم من مطالبتها بالرحيل, تراهم يفرحهم أن تتلقى من الخسائر ما يجعلها تنسحب ويبقيهم في دائرة أصدقائها دون أن يكونوا أعداء للعراق, فيتمنون الموت الغريب- الموت العراقي والأمريكي, دون موتهم. ولعل هناك من يفكّر بطريقة أخرى بين الموت والحياة. وبعد:    
    فنحن, عموما, أمام موت ذي طبيعة سياسية, خاصة في الحالتين الحدّيتين (أمريكا بصفتها محتلا, وأمريكا بصفتها منقذا), موت وطني استشهادي في الحالة الأولى, وموت لاوطني عبثي أو إرهابي في الثانية. وكلا النظرتين, للأسف, تقول بالموت لا بالحياة, أولاهما تقول بموت لأمريكا والمتعاونين معها ولمن يقع صدفة في هذا الحقل, موت مقدس لا يكون وطن ولا تكون كرامة دونه, وثانيهما يقول بموت لصدام وبعثه وللمتعاونيين معه ولمن يقعون صدفةً, أيضا, في محيطهم, موت لا تكون للعراق حرية وديمقراطية دونه. في الموت الأول, ينظر القاتل إلى عيون قتلاه عن قربٍ قَبْلَ ومضةٍ من امتزاج دمه بدمائهم, بينما, في الموت الثاني يبدون له كالحشرات الصغيرة عبر منظار الطائرة أو شاشات الرصد المختلفة. وفي الحالتين يموت كثير من العراقيين في طاحونة يديرها عقلٌ صانعٌ للموت, هو العقل الذي يطوّع الأشياء جميعها خدمة للموت, العقل الذي يلغي كل الخيارات لصالح خيار واحد هو الموت, ويلغي جميع الآفاق لصالح أفق واحد لا ينفتح إلا بالموت, العقل الذي يضع بين أيدي الأمريكيين والإسرائيليين تكنولوجيا فتّاكة تشبع حاجتهم إلى الموت, ولكن عن بعد, فلا يرى العقل الأمريكي والغربي, العقل الذي لا يؤمن إلا بالأشياء الملموسة - كدبق الدم ورائحته الزنخة واللحم المحترق- لا يرى إرهابا في الموت المؤتمت عن بعد, الموت على الشاشات؛ وعقل يضع بين يدي العربي العاجز اليائس الحاقد, بالضرورة, على عالمٍ كل ما فيه يؤكد عجزه وعلى محيط يصرخ بعجزه صباح مساء, يضع بين يديه جسدا قابلا للتفجر وأملا بحدقة تلتقط هلع العدو في لحظة انطفاء الحياة..
    أمّا العقل الصانع للموت فيحصي الأرقام, ويقارنها في مكاتبه أو في مغاوره, وأمّا الحياة فلا يُعنى بها أحد. وأمّا جند الموت, فمنهم من يوقظ بدمه حرّاس أبواب السماء لاستقبال المزيد من الأرواح السائرة وراء روحه, ومنهم من يوقظها بزره الإلكتروني مرسلا إلى يهوه إيميلا من أمريكا أو إسرائيل يخبره فيه عن عدد قتلى اليوم, القتلى الذين يتابع لمّ أشلائهم على الشاشة مع كوكاكولاه..
    في المكاتب تدار السياسات أو في غيرها, وهناك تتخذ القرارات, وفي مكان آخر تُحضَّن العقول من أجل أن تغدو السياسات المقرّرة ممكنة, وممكنا معها قتل النفس أو قتل الآخرين. وآخر ما يؤخذ بالحسبان حياة الأفراد والشعوب, حياة الناس بصفتهم آخر أو آخرين. فيكون لموتهم قيمة إحصائية كبيرة أو صغيرة, ولا يكون لحيواتهم معنى أكثر من معنى أرقام مكتوبة بالقلم الرصاص يسهل محوها عند اللزوم. وعلى الرغم من وحدة الموت أمام علم الإحصاء, بل رغما عن أنف علم الإحصاء, فثمة فرق معنوي لا يشعر به إلا القتلى ومن تتشبع أشياؤهم برائحة حيات وموت ذويهم, فرق يلتقطه من تعنيه الحياة أكثر مما يعنيه الموت. فأما قاتل نفسه فضحية مزدوجة وإن كان في فعله العمومي إرهابا في الكثير من الحالات, وأمّا العقل الصانع للموت وأدواته فمجرم, فكيف إذا ترافق القتل مع استعبادِ من يخطئهم الموت وإرهابِهم كما هو حال الفلسطينيين مع الوحش الإسرائيلي, الفلسطينيين المنسيين في عالم يتفرج على بريق هوليود, وكما هو حال الكثير من العراقيين الذين يعيشون اليوم بين موتين فأيهما يختارون!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟