الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- الرأسمالية والأخلاق - .. !! ..

بدر الدين شنن

2008 / 10 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


" الرأسمالية والأخلاق " ليس عنواناً لكتاب أيديولوجي ، أو بحث اجتماعي ، لمبتديء في علم الاجتماع السياسي ، وإنما هو " مقولة جدلية " قدمها النائب الاقتصادي لرئيس الوزراء السيد " الدردري " في لقاء تلفزيوني مؤخراً ، حدد فيها لطمأنة المواطن عن حالة الاقتصاد السوري ، أن السبب الأساس في الأزمة الرأسمالية العالمية الراهنة ، المتمثلة بفشل اقتصاد السوق الحر كنمط جديد لتجاوز مفاعيل دورات إعادة إنتاج الرأسمالية لذاتها ، التي اكتسحت بخسائرها وارتداداتها المدمرة كل أسواق المال في العالم ، وتزحف بإيقاع سريع لتشمل قطاع الإنتاج في الاقتصاد ، هو انعدام الأخلاق لدى المحافظين الجدد في أميركا ، الذين يقودون الاقتصاد الحر المعولم . ما يعني ، لو أن هؤلاء يتمتعون بقدر مطابق من الإيمان بثنائية " الرأسمالية والأخلاق " لما حصل ما حصل .. !! .. متجاوزاً بلحظة تلفزيونية ، الأسباب الحقيقية لانفجار الأزمة الراهنة ، التي تعبر عن أن الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي ينتمي السيد " الدردري " إليها ويحاول تطبيق نظرياتها وآلياتها على الاقتصاد السوري ، قد جلبت للرأسمالية أسوأ أزماتها منذ نحو قرن حتى الآن ، بدل أن تجلب لها إكسير الخلود .

على أن ما هو أكثر سوءاً في الثنائية " الدردرية " الاقتصادية هو ، ضرب الصفح عن لاأخلاقية الرأسمالية التاريخية ، لاسيما عن لا أخلاقيتها في مرحلة نشوئها التراكمي الأول على حساب الشغيلة ، الرجال والنساء والأطفال ، الذين كانت المشاغل الأولى تجبرهم على العمل أربعة عشر ساعة وأكثر في اليوم ، وعلى العمل في أحط شروط الاستغلال عبودية بالعمل على آلات فجة تنعدم فيها السلامة البدنية والصحية ، حيث تحول أعداداً متزايدة منهم إما إلى العجز والتسول لسد الرمق أو إلى المقابر . كما تجبر بعضها الشغيلة على النوم في مكان العمل . كل ذلك لقاء وجبات طعام أو أجور تافهة . وضرب " الدردري " الصفح أيضاً عن مآسي تراكم الرأسمالية الثاني ، حيث أبادت الرأسمالية التي غزت القارة الأمريكية شعوب تلك القارة الأصلية .. قتلت عمداً بالسلاح وبنشر الأوبئة أكثر من مائة مليون من الهنود الحمر ، حتى تمكنت من الاستحواذ على القارة بكاملها ، التي هي من أغنى قارات هذا الكوكب .

وإذا كانت غبار القرون الماضية تغطي معطيات وأرقام رهيبة في الذاكرة التاريخية ، فإن لاأخلاقية التراكم الثالث ، التي تمثلت في مرحلة الاستعمار لأفريقيا والشرق مازالت تحت أضواء المعرفة ، وما زالت بقايا أجيال تلك المرحلة على قيد الحياة . فقد كانت الامبراطورية البريطانية لاتغيب عن مستعمراتها الشمس في آسيا وأفريقيا وأمريكا ، وكذلك بمساحات أقل كانت الامبراطورية الفرنسية التي كانت تمتد من الفيتنام في آسيا إلى المغرب في أفريقيا ، وكذلك أمريكا وهولندا وبلجيكا والبرتغال وإيطاليا واسبانيا ، حيث نهبت هذه الإمبراطوريات الرأسمالية ثروات الشعوب التي ا ستعمرتها بكل قرصنة ووقاحة وحولتها إلى قوة مالية لبلدانها في المراكز الإمبريالية . ولتحقيق هذه المحصلة " الحضارية الأخلاقية " أبادت على سبيل المثال مليون ونصف مليون إنسان في الجزائر وثلاثة ملايين إنسان في فيتنام .

وعندما كانت تستعر المنافسة بين الدول الرأسمالية ، كانت الحروب تنشب فيما بينها لإعادة اقتسام العالم ، ولنقل المزيد من ثروات الشعوب المستضعفة إلى بلدان المراكز الإمبريالية باسم أخلاقيات نشر الحضارة وتمدين الشعوب . وخلال عمليات التمدين الحضاري قامت جيوش المرتزقة الرأسمالية النظامية وغير النظامية بقتل عشرات الملايين من أبناء تلك الشعوب ، التي لم تر من مدنية وحضارة الغزاة سوى التخلف والتفويت والموت . وأكبر تلك النزاعات الرأ سمالية الإمبريالية كانت الحرب العالمي الأولى والحرب العالمية الثانية في العقد الأول والعقد الرابع في القرن العشرين المنصرم ، اللتان أزهقتا أرواح نحو مائة مليون إنسان وأدتا إلى إعادة ا ستعمار شعوب أخرى . ولم تتوقف تلك النزاعات بعد الحرب العالمية الثانية ، إذ مالبثت أن اندلعت حرب كوريا في أول الخمسينات ومن ثم حرب فيتنام وحرب فلسطين وحرب السويس وتلتها دون توقف حروب الصراع العربي الإسرائيلي . وتدور الآن حروب العولمة الرأ سمالية في أفغانستان والعراق والسودان والصومال وفلسطين ولبنان .

وحين كان يتعذر الحسم بالحرب العسكرية ، كانت حرب المخابرات والانقلابات تحل محلها لتأدية نفس الأهداف البشعة ، لتداول النفوذ والمصالح الرأسمالية ، مثل الانقلاب على محمد مصدق في إيران والانقلاب على سلفادور الليندي في تشيلي ولومومبا في الكونغو ، وخاصة لما أصبح البترول مصدر الطاقة الرئيسي في حركة العالم الاقتصادية والسياسية .

بكلام آخر ، إن آلاف الترليونات التي تحرك مفاعيل تداولاتها الآن حرب إعادة اقتسام النفوذ الإمبريالي في العالم ، وتعويم الدور القطبي الدولي ، إنما جاءت من جبال الضحايا البشرية أجساداً وثروات أبيدت ونهبت من الشعوب الأخرى .

وهل في مثل هذه السيرورة الرأ سمالية التاريخية للاستغلال والنهب والقتل الجماعي توجد أخلاق ؟ .

وإذا ما أخذنا معطى رقمياً مالياً لتوزيع الناتج الإجمالي العالمي ، تتجلى لنا تلك الأخلاق فعلاً . فحسب آخر بحث علمي لتوزيع الناتج الإجمالي العالمي يتبين أن ( 100 ) ألف شخص فقط في العالم يمتلكون ربع الناتج الإجمالي العالمي ، أي ما يعادل ( 15 ) ألف مليار دولار . بينما بقية سكان العالم أي ما يزيد عن ( 6 ) مليار إنسان يمتلكون الثلاثة أرباع من هذا الناتج . وهكذا فإن نصيب الفرد نظرياً في الضفة الإولى هو ( 150 ) مليون دولار في العام ونصيب الفرد في الضفة الأخرى فقط ( 7500 ) ألف دولار . أم في اليوم ، فإن نصيب الأول هو أكثر من ( 400 ) ألف دولار بينما نصيب الثاني هو ( 2 ) دولار .. الفارق بينهما هو فقط ( 200 ) ألف مرة .. ويتبين نبل وعدالة الرأ سمالية واقتصادها الحر أوضح ما يكون البيان .

وعلى المستوى السوري ، لم تكن الرأ سمالية التي ظهرت أولى ملامحها المتميزة كطبقة في الثلاثينات قبيل الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين أكثر أخلاقية . فهي التي جاء معظمها من جذور اقطاعية ، طبقت المفهوم الاقطاعي على العاملين لديها . فقد كان أجر العامل في أحسن الأحوال يتراوح بين ليرتين وأربع ليرات سورية في اليوم . وشروط العمل كانت في أقل مستوياتها الصحية ومستوى السلامة البدنية ، حيث كان العمال عرضة لمخاطر الآلات الفجة الصنع وللمخاطر المهنية ذاتها ، لاسيما في معامل الغزل والنسيج ومعامل الاسمنت ، دون أي تأمين اجتماعي أو ضمان صحي . وقد أدى ذلك إلى إصابة عشرات آلاف العمال بالأمراض المعدية كالسل وفقدان أطرافهم أو حياتهم . ومما ساعدها ، أي الرأ سمالية السورية ، على تنامي واتساع نهوضها بقفزات لافتة هو ، اعتماد المحتل الفرنسي ، بعد أن احتلت ألمانيا فرنسا ، على إنتاجها لتغطية حاجة جيوشه من الكساء والأعتدة المدنية . وهذا ما سرع ثراء رأ سمالي تلك المرحلة . بيد أن ما أن لاح بالأفق السياسي احتمال توزيع أكثر عدالة للناتج الإجمالي المحلي نتيجة نمو اليسار السياسي والنقابي ، حتى قامت بتهريب معظم أموالها إلى الخارج . وقد قدرت تلك الأموال ب ( 800 ) مليون ليرة سورية تعادل بأ سعار اليوم ( 400 ) مليار ليرة سورية . أي ما يعادل في حينه ميزانية الدولة لعامين كاملين .

كما أن الرأ سمالية السورية الجديدة الراهنة ، التي جاءت من نهب القطاع العام واستغلالها السلطوي لمؤسسات الدولة وشراكاتها القسرية في السوق ، فإنها تتمتع " بأخلاقية عالية " بامتياز ، تعززها و" ترتقي " بها أعمدة دستور الميز السياسي ، الذي يمنح أهل الحزب الحاكم امتيازات ، دون بقية المواطنين ، في كل مستويات السياسة والاقتصاد والدولة وتحميها حالة الطواريء والأحكام العرفية التي تضرب كل من يعوق ولو بالكلمة المستقلة سريان تلك الامتيازات في شرايين الحياة السورية . وأكثر تلك الامتيازات فجيعة هو ، امتياز تطبيق الليبرالية الاقتصادية واقتصاد السوق الحر ، الذي فاجأت مآلاته الكارثية العالمية مهنسي الاقتصاد السوري الليبراليين الاقتصاديين الجدد ، الذين يجرون البلاد إلى هذا النمط من الاقتصاد والناس من الحج إليه راجعة وهي تشتمه وتنبذ معاييره ، ودعاته ونصابوه يتشامت بعضهم ببعض .

ولذلك ، لم يكن ربط قائد الليبرالية الاقتصادية الجديدة في سوريا فشل اقتصاد السوق الحر بالأخلاق عبثياً ، وإنما جاء للتمويه على العبثية الاقتصادية المدمرة ، الذي ’عبد له الطريق بسلسلة من الإجراءات الملبية لإملاءات البنك الدولي ومتطلبات التجارة العالمية ، وفي مقدمتها خطوات الخصخصة والتسهيلات الضريبية للمستثمرين الجدد ، وفتح المجال لمفاعيل اقتصاد السوق في العرض والاحتكار والتلاعب بالأسعار ، على حساب آلام وحرمانات الشعب السوري وخاصة الطبقات الشعبية ، وبسلسلة من الاعتقالات والمحاكمات التعسفية لحملة الرأي ، لاستباق أي تحرك شعبي جاد لاحق .

ويبدو أن أخلاق الرأ سمالية السورية حسب السيد " الدردري " تتعفف عن النشاط عندما تتزايد نسب الربح .. وتتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم عندما يتضاعف ما يمكن سرقته من فضل القيمة .. كما هو شأن كل الرأ سماليات التي عرفها التاريخ المخزي للرأ سمالية .. !! ..

والدليل على ذلك ، هو الجري المتقافز في اقتصاد السوق الحر حتى اللحظة ، رغم أن حيثيات الأزمة العالمية الراهنة قدمت موجبات إفلاسه ونهايته مرفقة بلوائح خسائر تبلغ آلاف المليارات من الدولارات ، منها ( 180 ) مليار فقط خسائر دول الخليج حتى الآن ، ومنبهة بانتقال الأزمة إلى قطاع الإنتاج ، حيث ستكبر الآلام ، وتداس كل الأخلاقيات الإنسانية الحقيقية .

والسؤال الناهد الآن ، أليست البشرية أحق بتلك المبالغ الأسطورية التي ا ستنزفها الأزمة المالية الراهنة ، والحبل على الجرار ، من أن تذهب بها عبثية واحتيالات الطغم الرأ سمالية اللاأخلاقية في مجال تداولاتها ومنافساتها ؟ .. أليست الإنسانية بحق .. بحاجة إلى نظام اجتماعي اقتصادي بديل مغاير .. نظام توظف فيه بحق كل منتوجات الجهود الإنسانية لمصلحة الإنسانية كلها ؟ .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ثلاثة قتلى إثر أعمال شغب في جنوب موريتانيا • فرانس 24


.. الجزائر: مرشحون للرئاسة يشكون من عراقيل لجمع التوقيعات




.. إيطاليا تصادر طائرتين مسيرتين صنعتهما الصين في الطريق إلى لي


.. تعازي الرئيس تبون لملك المغرب: هل تعيد الدفء إلى العلاقات بي




.. إيران .. العين على إسرائيل من جبهة لبنان.|#غرفة_الأخبار