الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن والتاريخ / حول مسلسل الباشا

ثائر العذاري

2008 / 10 / 13
الادب والفن


العلاقة بين الفن والتاريخ علاقة أزلية، فمنذ أرسطو أيقن دارسو الأدب أن التاريخ هو المصدر الأساسي الذي يستمد منه الفن مادته، سواء أكان ذاك تاريخ شخصي أم تاريخ أمة. لكن الفن لا يستنسخ التاريخ ولا يتحول الى وثيقة تسجيلية لحفظه، وهذا ما نبه إليه أرسطو فديما بعبارته الشهيرة المستحيل الممكن خير من الممكن المستحيل.

لا يعني هذا مطلقا إطلاق يد الفنان للعبث بالتاريخ، لإإن من أهم عوامل نجاح التجربة الفنية أن تكون مقنعة ومعقولة، وهكذا يجد الفنان نفسه في موازنة صعبة بين التاريخ كما فهمه المؤرخون والتاريخ كما يفهمه بمنطقه الفني، فالرؤية الفنية يجب أن تعرض من الحجج الفنية ما يجعلها مقبولة قائمة.
ولعل الدراما التلفزيونية واحد من أكثر الفنون إغراءا في الولوج الى قلب الأحداث التاريخية الخلافية في محاولة إيجاد تفسيرات فنية معقولة لها. ومن هذه النقطة نريد عرض قراءتنا لمسلسل (الباشا) الذي أنتجته قناة الشرقية وعرضته في رمضان الماضي.

امتاز المسلسل بمشاركة نخبة من أكبر الممثلين العراقيين الذين يشهد تاريخهم الحافل بامنجزات بمهاراتهم، مثل السيدة هديل كامل وسامي قفطان وعبد الخالق المختار، وقد حشدت له من الإمكانات المادية والفنية ما يمكن عده أمرا غير مسبوق في تاريخ الدراما التلفزيونية العراقية، وربما تكون هذه من أهم العوامل التي يفترض أن تنتج عملا ناجحا.

يحاول المسلسل (الباشا) عرض أهم حقبة من تاريخ العراق الحديث، وهي المدة الممتدة بين عامي 1920 و1958، التي كانت ولما تزل تنطوي على الكثير من الغموض والنقاط الخلافية في القراءة والتفسير على الرغم من معالجتها في مئات المؤلفات والشهادات من شخصيات عاشتها ولعبت فيها دورا ما، ويبدو أن المشكلة التي يقع فيها الجميع هي الانطلاق من مواقف ايديولوجية مسبقة تفرض نمطا معينا من الفهم. أما المسلسل فقد أراد استقراء تلك الأحداث من خلال شخصية نوري السعيد (الباشا) الذي حكم العراق عبر أربع عشرة وزارة شكلها في أقل من أربعين عاما.

من المفروغ منه أن نوري السعيد كان شخصية محورية في الحراك السياسي طيلة تاريخ المملكة العراقية، وهنا تكمن أول عوامل الإخفاق للعمل، فلكي تقدم الدراما تفسيرات تاريخية غير مسبوقة فإنها يجب أن تعالج الأحداث عبر شخصيات مختلقة وغير معروفة لكي يمكن تقديم الرؤى عن طريقها من غير تضارب مع معلومات مسبقة عن تلك الشخصيات، أما وقد اختيرت شخصية الباشا محورا للعمل فقد قيد العمل نفسه بوقائع تاريخية معروفة، ولأن النص أراد تقديم الوجه الحسن للباشا من غير أن يكون قادرا على نكران كثير من الأحداث الدموية التي حدثت في عهده، فقد اضطر الى إظهار العراقيين أمة لا تجيد غير القتل والتنكر لأبطالها والقضاء عليهم.

والواقع كان من الممكن أن تعالج شخصية الباشا من خلال شخصيات ثانوية مؤيدة ومعارضة مثل شخصيات الصحفيين وشخصية النجار، إلا أننا لا حظنا أن تلك الشخصيات لم تلعب أي دور في بناء الرؤية الدرامية للتاريخ وكان دورها هامشيا قدم حكايات ثانوية على هامش العمل لا تؤدي وظيفة تخدم التفسير التاريخي وبالإمكان حذفها من غير أن يتأثر العمل.

كان هناك من الشخصيات والأحداث ما كان بالإمكان تنميته ليكون منفذا دراميا جيدا للتعامل مع التاريخ مثل قصة حب كاظم وبنت الجيران، وعلاقة عصمت وصباح والموقف الدرامي لزوجة جعفر العسكري، فهذه كانت حقول درامية خصبة كان من الممكن تنميتها، لكنها ظلت هامشية زائدة.

اعتمد العمل بشكل واضح على القدرات الفردية للممثلين الكبار، فقد كانت شخصيات الباشا ونعيمة العسكري ونوري ثابت وملا عبود الكرخي تشير الى أن من مثلها قام بدراستها دراسة مستفيضة بحيث ظهرت مليئة بالحياة، بعكس شخصيات أخرى بدت هزيلة أو متكلفة مثل شخصية مصطفى النحاس، ومن الواضح أن هذا يدل على ضعف الإخراج واعتماد الممثلين على قدراتهم الذاتية التي اعتمد عليها العمل بكامله نتيجة لذلك.

ونرى أن العمل أخفق في استخدام الكثير من الإمكانات الهائلة التي وفرت له، فإن أكثر المشاهد، مثلا، صورت في استوديو داخلي باستخدام أكثر من ثلاث كاميرات، غير أننا لا نجد أي توظيف لحركة الكاميرات أو نوع اللقطات، وكان الممثلون في الغالب يبدون كأنهم يمثلون على خشبة مسرح أو كأن المشاهد صورت بكاميرا واحدة. حذ مثلا مشاهد مقهى ابراهيم عرب التي كان من الواضح أنها صورت في وقت واحد من غير تغييرات واضحة في المشهد أو زاوية التصوير على الرغم من امتدادها على مدة زمنية تتجاوز ثلاثين عاما. شخصية ابراهيم عرب أداها ممثل مقتدر اعتمد على أسلوب نمطي عرف به أما الشخصيات الأخرى في المشهد فكانت هزيلة باهتة تكشف ضعفها بعد موت ابراهيم عرب.

هناك إخفاق آخر في المونتاج، فقد بدأ العمل بمشهد هرب السعيد من بيته واستكمل هذا المشهد في الحلقة عشرين على ما أتذكر، لكني لم أستطع تحديد وظيفة فنية لهذا الترتيب. وفي إحدى الحلقات يظهر الباشا في اجتماع محلس الوزراء لمناقشة المعاهدة مع بريطانيا ويقطع المشهد ليتخلله مشهد كاظم ابن النجار مع والده ووالدته محاولا اقناع الوالد بزواجه من ابنة الجيران ثم يعود مشهد مجلس الوزراء ليستكمل، وهنا لا يبدو أن هناك وظيفة فنية أداها هذا القطع، ومثل هذا كثير في المسلسل مما لا ندري إن كان موجودا في السيناريو أو إنه من إبداعات المونتير.

كان من الجلي أن العمل يحاول بناء تفسير تاريخي يجعل تلك الأحداث مطابقة لما يحدث اليوم في العراق، وأدى هذا التفسير الى سقوط المسلسل في فخ المباشرة والسرد التاريخي غير الموثوق ليقدم درسا في التاريخ السياسي. وقد جر هذا التفسير العمل الى نقطة يكون فيها أشبه بدعاية مضادة للأمة العراقية إذ يحاول تقديمها على أنها أمة جاهلة قاتلة تسفك الدماء وتقتل الأبطال.

لم نرد من هذا العرض أن نقلل من أهمية العمل، إذ لا شك في أهميته إذ أعاد الى الشاشة الصغيرة إشراق الممثل العراقي ومهاراته الفائقة، لكن الدرس المستفاد مما تقدم هو أن أعمالا كهذه يجب أن تأخذ حظها من الوقت والدراسة ويجب أن تكون تحت إشراف نخبة من المختصين بالتاريخ والشهود عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان