الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ردة اعتبار

أزهار الصفا

2008 / 10 / 13
الادب والفن


جلس خلف السائق في سيارة أجرة , وانطلق نحو مشواره , مسترسلا بنظره نحو الغيمات المطلة عليه من النافذة اليمنى لباب السيارة .. و غارقا فكره بالمكالمة الأخيرة التي تلقاها من مديرة المدرسة , التي يدرس فيها أولاده , وعن سببها , عندما طلبت منه القدوم إلى المدرسة لأمر ضروري يتعلق بأولاده , فكثيرا ما توجه إليه المدرسة , أصابع الاتهام بعدم مسؤوليته تجاه أطفاله , وعدم الاهتمام بهم علميا و صحيا . .. وكثيرا ما ترسل إليه معلماتهم , باقات التحذير من سلوك أولاده داخل المدرسة .
و بينما هو جالس بجسده في السيارة , ارتعبت أفكاره لصوت السائق المفاجئ , يتكلم معه قائلا :
_ عندما نخرج بمشوارنا مشيا على الأقدام نصل إلى مبتغانا قبل أن نخرج إليه بسياراتنا.
حملق سامي مستغربا بالسائق , و كأنه لم يسمع ما قال سوى بعض المفردات العارية , التي مشت وسط غباش فكره إلى جوفه . نظر أمامه حتى قرض من مسمعه صوت زمير السيارات المتكدسة أمامه , فأدرك ما قال السائق , هازا رأسه بالرضا , دون أن يحرك ساكنا ...

انتهت به ساعات الضجيج وسط شوارع مدينة "عمّّان" , إلى أعتاب المدرسة الخاصة لبراعم المستقبل , الملقية برتابة تخطف الأنظار , على رصيف شارع الحسين بالمدينة ... حيث يدرس أطفاله .
وضع قدمه اليمنى بثقل على الأرض , بعد أن فتح باب السيارة . وسارت ببطيء تسكنها الرهبة الحذرة إلى داخل المدرسة قدماه ... توجه بقامته القصيرة , و نظراته المريبة , إلى غرفة المديرة بعد أن أرشدته إحدى المدرسات إليها . طرق الباب و دخل بعد أن أَذن له , ليجد امرأة ترتب الأوراق على الطاولة , التفتت عيناها إليه دون أن تعرفه , و أشارت بيدها إليه للجلوس دون أن تتكلم , و بادرها بالحديث قائلا :
_ أنا سامي رضوان . والد عرين و رائد.
زرعت كلماته أوتاد نظر المديرة في جوف عينيه . و استذكرت ذاكرتها بأن الشخص أمامها مر عليها منذ زمن , لكنها لا تعرف أين ؟ أما هو : الذي ألقى الماضي رحاله في أعماق ذاكرته من جديد , فقد عرفها ... و كيف لا يعرفها ؟ و هي من زرعت الكآبة في قوارير جوفه , و بنت له أسوار الحزن حول منازل سعادته , بعد أن أحالتها لركام ألم و تعاسة ... غادر فكره من الحاضر لإجراء جولة حول الماضي يدخل من خلاله إلى تفاصيل ذكرياته , و ما رأى فيها سوى نفسه , يجلس أمام المرأة الماثلة أمامه , يمارسان عشق الحديث , على طاولة منعزلة عن بقية طاولات إحدى كفتيريات المدينة , و يرسم معها موعدا لقدومه إلى بيت والدها , ليتقدم لخطبتها ... إلا أن شرايينه نبحت لخبر أوقف أمانيه عن التقدم , عندما علم أن والدها أبكم لا يسمع , و لا يتكلم . وانتفضت مشاعره للخبر الذي لم يحمل له سوى حقول البعد عنها , عندما قال لها بلهجة مستنفرة :
_ ولكنك لم تخبرينني من قبل بذلك !
_ و ما الفرق الآن ... أو من قبل نفس النتيجة .
حط الصمت رحاله في ساحات ثورته الهائجة برهة , و دونما تفكير, قصف كرامتها لسانه , بجملة من عنده :
_ أنا لا أريد أن يولد أطفالي بكم و صم , و أنت بالتأكيد تحملين هذه الجينات ...
لملمت ساجدة ما تبقى لها من قوة بعد أن خارت و تناثرت ذراتها على التراب . و قالت :
_ ولكن والدي لم ينجبني أو شقيقي أبكمان !!
ضحك سامي باستهتار بالغ , و كأنه كان بانتظار فرصة كهذه , للفرار من قفصها إلى هواء الحرية , و بلا تفكير واصل عملية التحطيم لكرامتها دونما اكتراث , قائلا :
_ لو أنجب غيركما لكان كذلك ... أما أنتما ؛ فتحملان الجينات الوراثية , لتصبانها بأولادكما ...
ردت عليه ولا زال لسانها المتعثر بالتلعثم يلملم آثار هزائمها المتتالية لكرامة وئدت بالذل :
_ أنت أعطيتني موعدا , بأنك ستزورنا عند المساء ... و أنا أنتظرك ... و أرجو منك أن تفكر قبل أن تتخذ قرارك .
محاولات عبثية من قبلها , للتمسك بسامي , أجلستها وقت المساء تنتظر مجيئه بشوق . و بينما هي تنتظر , كانت تراقب والدها الذي يتحدث مع والدتها بلغة الإشارة . و تقول له بذهنها :
_" أرجو أن لا تكون نقطة فارقة بيني وبين سامي ... فمهما حصل , و إن ابتعد سامي أنا لن أحقد عليك أو أرمي بشباك الكره تجاهك , بالرغم مما أكنه لسامي من حب ينبع بقوة من أعماقي ..."
بينما كان سامي يجلس بجانب والدته , يطلب منها أن تبحث له عن فتاة كي يتزوجها , بعد أن أغلق الصفحة بينه و بين ساجدة , و دونما تفكير بمشاعرها , و مكانتها في قلبه ... تلك المكانة التي انفجرت أمامه بعيد دقائق قليلة من وصوله المدرسة ... فبعد أن لف العالم يبحث عن الأمن و الحب في عيون النساء , فما وجد سوى في عيونها مدينة للأمان .

عاد سامي لواقعه التعيس , يقف أمام ساجدة مرة أخرى بعد سنوات من البعد ...خطر بباله للوهلة الأولى أنها جاءت لتسأل عن أولادها , وقبل أن تتحدث إليه سألها:
_ أنت ساجدة أليس كذلك ؟؟
صمتت عيونها وهي تحملق فيه باستغراب, ورغبت بقطع تقدم سامي لمعرفتها بقولها :
أنا مديرة المدرسة هنا...
أما في أعماقها : فبالكاد عرفته نظراتها وتذكرت روحها وبعد أن عرف عن نفسه طلبت من الآذن إحضار ابنته "عرين" إلى غرفة المديرة وأدارت ظهرها عنه تداري خبر معرفته قائلة:
_ يا سيد سامي ابنك يعاني من عسر استيعاب , و نوبات غباء شديدة , و نحتمل ذلك ... أما ابنتك ؛ فنحن لسنا مجبرون على تحملها ... فهي تعاني من تخلف عقلي , يجعلها تخرج بين الفينة و الأخرى من داخل الصف دونما سبب يذكر , و تضرب زميلاتها , ولا تحاكي المدرسات أبدا ... لذلك أنت مجبر على نقلها إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة .
سقط بالهم قلبه , ووقع بالهزيمة حاله . فهو يعرف ابنته و جنونها جيدا , أما أن تأتي بآخر عمره امرأة تجبّر على قلبها قلبه في بؤر الماضي . تعيره بأولاده داخل فنادق الحاضر ,,, فهذا لم يكن بالحسبان أبدا , فبعد أن بذر زمانه بالتكبر و الأنانية , حصد زرعا زرع رأسه بالأرض ذلا و مهانة , و ما من مهرب للحق يسير إليه , سوى تذكيره بنفسه قليلا , فقال :
_ أتذكرين عندما رفضت الارتباط بك خوفا على أطفالي ؟؟
هزت رأسها و قالت و هي بيدها إلى ابنته الواقفة أمامه :
_ أنت بالتأكيد كنت تحبني , وإلا لما كنت حجبت عني هذه المصائب .
جملة صفعت كبرياءه , و كسّرت تكبر صباه على صباها في سنوات الشباب , وألزمته حالة شعرت بها هي ذاتها قبل سنوات . ولا يعيد الحالة لما كانت عليه بالسابق , سوى اطمئنانه بأن ساجدة أنجبت أطفالا بكما أم لا؟ وبأسلوب ملتو متعرج القصد , في محاولة بحث لإعادة مكانته , قال :
_ ألك أولاد ؟
_ بالتأكيد . دقائق قليلة و يأتون إلى المدرسة , كي نعود معا إلى المنزل . فهم يدرسون بالمدرسة الأساسية القريبة من هنا ... أما ابنتي , فهي مريم التي تتكفل بتدريس ابنتك , و تعلمها الكتابة والقراءة .
ارتشفت عيناه دمعة , كانت تدلى أعلى جفنيه و تتأرجح هناك استعدادا للسقوط , بعدما سمع ما سمع , وعادت ذاكرته , لأيام قليلة مضت , حينما أقامت المدرسة احتفالا تكريميا للطلاب المجتهدين . عندما كان سامي يجلس بجانب ولديه : رائد وعرين . وبدأت المشرفة على الحفل حفلها, بتكريم مريم الهندي , الحائزة على المرتبة الأولى على مستو المدرسة بكاملها .شدت عرين وقتها يد والدها , وقالت:
_ "هذه الفتاة التي تدربني على القراءة والكتابة و أمها مديرة المدرسة ".
حينها ... لم يكن الأمر ليعني سامي كثيرا , أما الآن ... وخاصة بعد أن دخل شبلان إلى غرفة الإدارة , متجهان صوب ساجدة , و يتحادثان إليها بلهجة الأمومة وخالية أسماعهم وأبصارهم وعقولهم من أي عيب يذكر , فقد بات الأمر يعني ضميره كثيرا ... ابتسمت ساجدة ابتسامة ردت لها اعتبارها المكسور منذ سنوات . و قالت بلؤم :
_ هذان ولداي .

نظر سامي إليهما و كانت تبدو عليهم علامات البداهة والذكاء , وأعاد النظر إلى ابنته المطلية بالتخلف العقلي , و تذكر ولده المجبول بالغباء . فربط بصعوبة جأشه الصبر , و استل حسام العزيمة في وجه حقيقة مفادها : تجبره على فتاة بريئة , لا ذنب لها بمشكلة والدها , و تعميته عن طريقها , و سلوكه طريقا آخر , طريقا مختصرا عن الخوف , قاده إلى حمل خطيئة قلبها المكسور من قبل قلبه .

بعد أن ردت عورة التاريخ إليه ؛ ناولته ساجدة بعضا من الأوراق الرسمية , التي تلزمه من خلالها , بنقل ابنته إلى مدرسة ذوي الاحتياجات الخاصة , و خرجت برفقة ولديها من الغرفة . في حين مسمر الهمّ ساقي سامي مكانه , وباشرت عيونه تمطر الندم على ما فاته , و ما جناه تجبّر ضميره , و حصدته نيته السيئة . في بطن لحظات منحه الله إياها ليختبر مدى شكره له .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07


.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب




.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج


.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت




.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال