الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حياتي .. ورأس القلم

أزهار الصفا

2008 / 10 / 14
الادب والفن


فاقت الشمس , بعد سويعات قليلة من نومها داخل الغيمات الباردة على قيلولة سهاد . وبعد أن تسلقت النافذة, ومن بين ثقوب الستارة ؛ استطاعت الوصول إلى وجه سهاد الناعم الأملس , و دغدغت جسدها الملقى على الأريكة الرمادية بهدوء كهدوء الملائكة , فتحت عيونها , ليغسل أجفانها شعاع الشمس المتكسر , و رمقت بحنين جميع الاشياء والألوان والروائح من حولها بعيون يخدّرها النعاس : الستائر الخمرية , و أزهار المزهرية الحمراء ,والساعة ذات البريق الذهبي على الحائط , و صورة بيت بالطبيعة يتفرد معلقة على الجدران , و عبق رائحة الغرفة المنعش. أعادت اغماض عيونها , لتفتحها بنشاط مرة أخرى لتنظر إلى الغطاء الملقى على جسدها , فأدركت أن والدتها وضعته أثناء نومها .

نهضت عن الأريكة الواقفة بثبات في غرفة الضيوف , و اتجهت نحو الداخل تبحث عن والدتها و أشقائها , و سط هدوء غير معتاد ... رن صدى صوتها داخل المنزل , منادية متسائلة ,إن كان أحدهم في المنزل . لم يجب أحد . و أدركت أنهم خرجوا جميعا دون اعلامها بذلك , فاليوم هو ثاني أيام عيد الأضحى المبارك , و الساعة المتمكنة حول معصمها , سارت بعد أسوار الرابعة عصرا ... و من الطبيعي أن تكون والدتها قد ذهبت لمعايدة جدتها ... و لكن , غير الطبيعي : أن تحتمل سهاد بقاءها في المنزل وحيدة ساعات متواصلة , دون ملأ فراغ وحدتها بعمل ما , وقف جسدها مدججا بالوحدة داخل المنزل , مفكرا , ماذا سيعمل ؟ أو أين سيذهب ريثما تعود والدتها ؟ . أول خاطر خطر ببالها هو : الاتصال بخطيبها "سالم" , و قضاء الوقت بمحادثته , سارعت لمهاتفته ولكن , حظها السيء اعترض طريقها , عندما وجدت هاتفه مغلقا . فكرت قليلا و اتجهت نحو التلفاز علها تجد فيه صديقا لوحدتها . فتحته , و باشرت بالتنقل بين المحطات الفضائية المتعددة , دون أن تجد فيها سوى برامج ترفيهية روتينية مصقولة من الملل ... ونشرات أخبار للقلب متعبة ... و مسرحيات حفظت كلمتها و مضمونها عن ظهر قلب , من كثرة اعادتها على مشاهد الناس ... أغلقت التلفاز و فكرت بمراسلة صديق خيالها الإيطالي "صنومة" عبر البريد الإلكتروني ... باشرت بإيصال خط الإنترنت و أرسلت له رسالة لم يجب عليها , فأيقنت أن جهازه مغلق ... حملت هاتفها و اتصلت بصديقتها "علا" كملاذ يلتقف وحدتها . رن الهاتف , و لم تجب "علا " زاد ذلك الأمر من تخبط سهاد بالوحدة وشعر قلبها بالغربة ... حاولت تناسي وحدتها عن طريق معدتها . لذلك, دخلت المطبخ بفكرة إعداد شيء ساخن تشربه , و يمنح جسدها البارد دفئا منه ... و ضعت الماء في إبريق نحاسي صغير فوق الغاز المشتعل , ووقفت أمام علب الشاي والقرفة والقهوة و البابونج تتنقل أناملها بين العلب , كي تنتقي المشروب الذي ترغب إعداده . و أخيرا رسى الإختيار على القهوة , فهي عشيقتها المفضلة ... وضعت ملعقة منها داخل الإبريق و أطفأت النار تحته ... سكنت رائحة القهوة المسائية في أعماق جوفها , وشرب بخارها من أعماق أعماقها ,سكبت كأسا من القهوة , وصعدت إلى السطح تتأمل الطقس الهوائي المتقلب البرودة , و بدأت تراقب الغيمات القريبة النابتة أسفل الشمس الدافئة , كقوارير بيضاء رمادية , ينبت منها زهر البنفسج الذهبي الخجول .

مشت على السطح , بهدوء ترتشف القهوة شفتاها , حتى دق البرد أبواب ملابسها الرقيقة ... نزلت إلى الأسفل . وأثناء وقوفها وسط غرفتها , التفتت إلى مكتبتها الصغيرة , المعلقة على جدار اهتماماتها , حتى تذكرت شيئا ما , شدها بسرعة جنونية فوضوية كبيرة ,للبحث بين الأوراق والكتب المرتبة بانتظام في مكتبتها ... سحبت دفترا أناملها من بين الكتب المرصوفة بقوة جانب بعضها , و مسحت غلافه بكم قميصها ... و قالت :
_ و أخيرا وجدتك ...

جلست سهاد في غرفة مفتوحة النوافذ , و البرد يملؤها , ومن كرسي يتمايل ولا يريح أبدا اتخذت مقعدا لها , و من طاولة تنشب خشونتها بين حناياها وضعت الدفتر الذي يحمل عنوان " حياتي ... و رأس قلم " و بدأت تقلب أوراق ذكرياتها وطفولتها من خلاله , و تقرأ ما به من كلمات كتبتها عليه بسرية تامة , بعدما خافت مفرداتها -المخبأة تحت لسان يعشق الحديث- الظهور لأي شخص كي يتخذها سكينا يحارب بها سهاد, فدفترها هذا حضارة جديدة داخل زمان قديم , و ذكريات ببابها واقفة . ولأنها أضاعت عمرها بين تلك الذكريات , و أنست زهرها الرحيل عن ذلك الماضي . جاء دور هذا الدفتر ليقرع باب الماضي متى يريد, و أينما يريد .

غرقت مراكب حاضرها في محيطات الماضي , عند لحظات ذهبية ماضية , خلدها الدفتر, و أخذت أوقات قراءتها للدفتر , من محيطها إلى عالم آخر بعيد , يحجب عنها جميع من حولها , من ظروف متعددة غير مريحة , و ينسيها غربتها , ووحدتها داخل المنزل .

مضى الوقت الحاضر بسرعة , ولا تزال سهاد تذاكر الماضي من نافذة الدفتر , و أكلت ذكريات الماضي حاضرها , و واجباتها داخل حاضرها , بعدما قاد وحدتها رأس القلم , كي ينير حياتها حين تشعر بغربة ووحدة . و يحيي الماضي الذي ما مات بين أوراقها ... حتى عادت من الماضي , و خرجت من سفينة كلمات دفترها , على صوت والدتها تسألها:
_ ماذا أعددت طعاما للعشاء ؟؟
التفتت سهاد حولها ... و أدركت البرد الذي تجمدت مفعوليته أثناء قراءة دفترها , كما أدركت الظلام المغطي بذيله الغرفة , بعدما نورت كلمات الدفتر ظلمتها ... و أدركت أيضا , كرسيها المتمايل , بعدما ثبته الماضي مكانه ... كما أدركت جميع الظروف غير المحتملة , من حولها . ابتسمت لما شعرت به من ذهاب إلى عالم آخر اسمه "الماضي" ...


نظرت سهاد إلى والدتها و أجابتها وهي تحتضن الدفتر بين ذراعيها , ليتكأ على دفء قلبها :
_ أعددت حياتي ... و رأس قلم .
لم تفهم والدتها ماقالت , و إنما هي فهمت ذاتها بذاتها , و أنها تعيش في عالم آحر اسمه "الماضي" فقط ... حينما تكون وحيدة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت