الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسار في اليمين ملاحظات على مشروع برنامج جبهة اليسار من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية

سلامة كيلة

2008 / 10 / 16
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


تقدمت كل من الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب الفلسطيني بمشروع برنامج من أجل تشكيل جبهة "يسارية". كان الحديث الأولي بأنها سوف تضم القوى "الماركسية"، لكن يتوضح من النص المقدم (أنظر ) أنها أوسع من ذلك. وليست المشكلة في هذا التفصيل، بل في السؤال عن مدى يسارية النص، ومدى ماركسيته. وهنا نحن لا ننطلق من النظري فقط، بل ننطلق أساساً من الواقع، بمعنى أننا ننطلق من مدى مطابقته للواقع، حيث هنا تتحدد ماركسيته. وهل انطلق من خلاصة تجربة أربعة عقود؟ وبالتالي هل أسس لرؤية يسارية تطابق اللحظة الراهنة؟
مدخل:
النص لازال في إطار النقاش، وبالتالي لم تتشكل الجبهة بعد، وهذا أمر مهم من أجل أن لا يجري الانزلاق إلى تحالف يشوه اليسار، ويدمر ما بقي من أمل للماركسية والقوى الماركسية. ومنذ البدء أستطيع أن أقول بأن الأفضل هو إهالة التراب عليه، دفنه، لأنه يكرر أفكاراً ثبت فشلها المريع، وأدت إلى أن يتهمش اليسار، ويشوه كل معنى اليسار، ويشكك في الماركسية. الأمر الذي أفضى إلى استمرار هيمنة قوى يمينية رجعية متهافتة، والى تقوية القوى الأصولية التي بدت أنها البديل عن هذا اليسار، البديل الجاد وليس الهزلي. وبالتالي لم يكن مستغرباً أن تكون حركة حماس هي البديل لحركة فتح بدل الجبهة الشعبية التي كانت القوة الموازنة لفتح في الأرض المحتلة على الأقل.
الآن، يطرح التحالف بين أحزاب وقوى تصارعت طويلاً، في اختلاف في المواقف التي تحسم بنص التحالف ببساطة. حيث كان الاختلاف الأول مع الحزب الشيوعي الأردني (الذي أصبح الحزب الشيوعي الفلسطيني ثم حزب الشعب الفلسطيني، ولهذا التغيير في اسم الحزب مدلولات معينة)، الذي كان مع قرار التقسيم ومع الاعتراف بالدولة الصهيونية، ومع النضال من أجل السلم العالمي. ولم تكن قضية فلسطين أكثر من أن توضع في هذا الإطار. حتى قضية اللاجئين كانت هامشية في نضاله. بينما انطلق كل من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية لتحرير كل فلسطين، وعبر الكفاح المسلح. ما لبثت الجبهة الديمقراطية أن قبلت أن تلعب دور "المدحلة" في طرح "البرنامج المرحلي"، الذي أراده ياسر عرفات وقيادة حركة فتح مدخلاً للوصول إلى دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، عبر الاعتراف بالدولة الصهيونية، وإيجاد حل ما لمشكلة اللاجئين. وهو ما أوصل إلى إعلان الاستقلال الذي أقر بالدولة الصهيونية على أساس قرار التقسيم رقم 181، أي كدولة يهودية، ووفق القرار 242، أي في حدود الأرض المحتلة سنة 1967. ولقد انساقت الجبهة الشعبية مع "الحل المرحلي"، وإن شددت في الربط مع الاستراتيجي دون أن نلحظ بأن هذا الربط بدأ منذ زمن في التلاشي. ثم عبر الموافقة على إعلان الاستقلال، لكن مع التحفظ على الاعتراف بالدولة الصهيونية.
وهذا السياق أوصل إلى أوسلو، ولم يكن ممكناً أن توقع الاتفاقات لولا هذه الصيرورة "اليسارية". وسنلمس بأن مجمل السياسات هذه أفضت إلى أن يتقارب المختلفين، حيث أصبحت مواقف الجبهتين (خصوصاً الجبهة الديمقراطية) تنهل من سياسات حزب الشعب، وهو الأمر الذي تفاخر به بسام الصالحي الأمين العام للحزب.
إذن، هنا كان طبيعياً أن يأتي النص أقرب إلى منطق حزب الشعب الفلسطيني، حيث بات الشعب هو سكان الضفة الغربية وقطاع غزة وليس كل الشعب الفلسطيني. وأصبح النضال هو أساساً نضال في "فلسطين"، التي غدت هي الضفة وغزة بالتحديد. أما اللاجئين فيمكن المساعدة في الضغط من أجل العودة على أساس القرار 194. أو يمكن، من أجل الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، التضحية بالعودة وإيجاد شكل بديل، يمكن أن يكون التعويض أو الإعادة إلى الأرض المحتلة سنة 1967. ومن ثم يمكن ممارسة كل أشكال المقاومة "السلمية".
ملاحظات أولية
يمكن أن نلمس أولاً ما هو غائب عن النص. وسنشير إلى أننا سوف نتناول المبادئ العامة والمهام دون الهيكلية التنظيمية التي تؤطر التحالف، حيث أنها خارج النقاش ما دامت الأهداف هي الأساس في أي تحالف. وبالتالي مادام التحالف ذاته لازال موضع نقاش. لهذا سوف أشير إلى ما تجاهله النص أولاً، لأنه معبّر، على الأقل من زاوية اليسار، والماركسي خصوصاً.
المسألة الأولى الملفتة هي تجاهل الطابع الأيديولوجي للتحالف، وبالتالي الاكتفاء بتعبير يساري، وبتحديد هدف العدالة الاجتماعية. حيث أن اليسار تعبير واسع، ويتحدد على ضوء مسائل واقعية (أهداف عامة). وهو لذلك لا يتضمن ما هو أيديولوجي. إنه التعبير عن سياسة معينة في لحظة محددة. لهذا كانت الناصرية وكان البعث والشيوعيون يساراً، رغم كل التناقضات فيما بينهم. لهذا هل التحالف هو لقوى من منابع أيديولوجية مختلفة لكنها تتوافق على سياسة هي في طابعها يسارية؟ طبعاً سنلمس تالياً بأن الأهداف المطروحة تحيل إلى اليمين وليس إلى اليسار. ثم أن العدالة الاجتماعية لا تشير إلى الماركسية، ولا حتى إلى الاشتراكية بمعناها البرجوازي الصغير، لأنه يمكن أن يطرحها البرجوازي (وفق المعنى الخاص به)، كما يمكن أن يتبناها الإسلامي (أيضاً وفق المعنى الذي يخصه). بالتالي ليس من إشارة إلى الماركسية هنا.
في هذا استمرار للميوعة الأيديولوجية التي تعممت مع "انتصار الليبرالية"، والتي فتحت على الليبرالية من جانب، والإسلامية من جانب آخر. وبالتالي أضاعت اليسار والماركسية.
لكن هل أن التحديد الأيديولوجي ضروري هنا؟ أظن بذلك، لأن الأيديولوجية ليست "راية" فقط، ولا شعار فحسب، إنها بالأساس منهجية تفكير وتراث، وموقف طبقي. لهذا، خصوصاً وأن التحالف يتجه لتأسيس "الحزب الموحد لليسار الديمقراطي"، أي أنه يتجه للتحول إلى حزب، الذي إذا لم يحدد طابعه الأيديولوجي الماركسي سوف يتبنى ضمناً أيديولوجيا أخرى (برجوازية صغيرة أو حتى برجوازية- أيديولوجيا مثالية، منحازة طبقياً إلى تلك الطبقات). ويبدو من تمييع اسم الحزب (في هذا الوقت بالذات) هو نتاج هذه الأيديولوجية بالأساس.
هل أن نوايا "الرفاق" تشير إلى أن التحالف هو تحالف ماركسي؟ لكن كيف يمكن أن يكون ماركسياً وماركسية القوى ذاتها تحتاج إلى نقاش؟ وهي مسألة تفترض نقاشاً للقوى ذاتها أولاً. ولسياساتها ثانياً، التي أبانت عن فشل ماركسي مريع، وبالتالي عن هروب منها بأشكال شتى. وهو الأمر الذي فرض ضياع الطابع الأيديولوجي .
والمسألة الثانية الملفتة تتعلق بالطابع الطبقي لهذا التحالف، حيث لا يشير النص إلى الطبقات (رغم كل الأوضاع التي يعيشها الشعب الفلسطيني)، ولا إلى الطبقات التي يمثلها هو، سوى إشارة واحدة إلى "الدفاع عن مصالح العمال والموظفين وسائر العاملين"، وفيها من التعميم ما يكفي، حيث أن سائر العاملين تشمل من العمال إلى الرأسمالية، كما أن الموظفين تشمل صغارهم كما تشمل كبارهم (والمدراء العامون كثر).
هل يعبر التحالف عن الطبقة العاملة وعن الفلاحين الفقراء، وهو الوضع الذي يستوجبه أي حزب ماركسي؟ النص معمم، ومتوافق مع تعبير اليسار أكثر من توافقه مع الماركسية. وربما متوافق أكثر مع الدعوة للعدالة الاجتماعية. لكن هل يمكن أن يتأسس عمل ماركسي دون تحديد الانتماء إلى الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء؟
هذا الوضع مكمل للفقرة السابقة، أي للميوعة الأيديولوجية، وربما ناتجة هذه الميوعة عن الميوعة في التحديد الطبقي. وبالتالي فإن أساسين من أساسات أي عمل ماركسي غائبان هنا، مضيعان، الأمر الذي لا يشير إلى تبلور يساري، وخصوصاً ماركسي. ولهذا يمكن تناول التحالف كتحالف عام، وفق أهداف عمومية، ولا تعبّر عن رؤية طبقية محددة، تخص العمال والفلاحين الفقراء، وحتى المهمشين.
هذا الوضع يؤشر إلى محاولة تجميع لقوى، وليس محاولة لتأسيس عمل يساري أو ماركسي. تجميع على أهداف معينة، وبغرض تحقيقها.
المسألة الثالثة الملفتة هي أن النص لا ينطلق من فهم الواقع الراهن، ربما انطلق من مسائل يتضمنها الواقع لكنها ليست الواقع، أو ليست كل الواقع، هي هوامش فيه، وهي بالتحديد الانقسام بين فتح وحماس، وبالتالي السعي لبلورة "قطب ثالث". وما يشير إلى أنه لا ينطلق من الواقع هو أنه يكرر فيما يتعلق بالهدف العام الصيغة ذاتها المتداولة منذ عقود، ولهذا ليس غريباً أنه يعيد إلى "إعلان الاستقلال". إنه يتجاهل:
- مأزق المفاوضات وتحولها إلى ما يشبه العبث، لكن الذي يؤسس لضرر كبير على الشعب الفلسطيني لأنه يغطي على السياسة الصهيونية الحقيقية، سياسة الضم وبناء المستوطنات والجدار، تحت غطاء أن المفاوضات جارية ويمكن أن توصل إلى نتيجة.
- وأن الوقائع على الأرض توضح بلا لبس نهاية إمكانية نشوء دولة مستقلة في الضفة وغزة، وفي الضفة ذاتها، ووضوح الصيغة الصهيونية الأميركية للحل القائم على الفصل بين غزة والضفة والربط مع مصر والأردن، وللسكان فقط.
- نتائج اتفاق أوسلو وتفكك الشعب الفلسطيني إلى "شعوب" (أرض سنة 48، والشتات، والضفة، وغزة). رغم أن هذا التعبير بات يخص سكان الضفة وغزة فقط. ليظهر أن جل الورقة يقدم برنامجاً لهم بالتحديد، مع إشارة إلى اللاجئين، والى التنسيق مع القوى السياسية العربية في (إسرائيل)، أي في دولة أخرى.
- أزمة اليسار العميقة وهامشيته كما يظهر في الواقع، والذي توضح في انتخابات التشريعي، رغم القاعدة اليسارية العريضة الموجودة في مختلف أماكن تواجد الفلسطينيين. وعلاقة ذلك البرنامج الذي يعاد طرحه في الورقة.
- ليس هناك موقف واضح من السلطة (في الضفة وفي غزة)، لا من ناحية تكوينها الطبقي، ولا من ناحية ممارساتها السياسية المخجلة عبر المفاوضات، ولا من التشابك المالي مع شركاء إسرائيليين، ولا من تكوين الأجهزة الأمنية، وتدريب الـ cia لها. واعتمادها المالي على الدول المانحة وإسرائيل. ومن ممارساتها كذلك.
وهذه النقطة بالتحديد تحتاج إلى وقفة، حيث أن تحديد الطابع الطبقي لـ "السلطة" مسألة حاسمة في أي صراع. فهل لازالت السلطة في "خندق التحرر الوطني" أم تحولت إلى مافيات لها مصالحها وشراكاتها؟ ما يلمس هو الترابط المالي الذي بات يحكم علاقة "السلطة" بالدولة الصهيونية والإمبريالية الأميركية والأوروبية. وليس من الممكن تجاهل هذه المسألة، وبالتالي يجب أن تكون نقطة في أي برنامج وطني وليس يسارياً أو ماركسياً فقط. وما من شك في أن "المطمطة"، والمماطلة في المفاوضات مبنية على ذلك. حيث لا تريد القطع رغم توضح النهايات لأن مصالحها باتت مترابطة مع هؤلاء.
إن النص يكرر ما تجاوزه الواقع، ويستمر في سياسة بان فشلها إلى حد يزكم الأنوف.
ملاحظات في النص
نقطة الانطلاق:
حقيقة وجود الدولة الصهيونية
جوهر الورقة ينطلق من الوجود النهائي للدولة الصهيونية، وبالتالي لا ينطلق من أن حل الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة هو حل مرحلي، وبذا يناقض برنامج الجبهة الشعبية بالتحديد التي لازالت تعتبر أن الدولة المستقلة هي خطوة مرحلية. وهنا يبرز أن برنامج حزب الشعب والجبهة الديمقراطية هو الذي يسود. ويظهر الاعتراف النهائي بالدولة الصهيونية عبر الاحالة وتضمين الورقة وثيقة الاستقلال التي تنطلق من قرار التقسيم والاعتراف في إسرائيل دولة يهودية كحل نهائي. وكذلك حين التطرق إلى حق العودة حيث ينطلق من عودتهم إلى ديارهم وفق القرار 194 وباعتبار أن إسرائيل هي المسئول عن ذلك. والقرار يقرر عودتهم إلى الدولة الصهيونية انطلاقاً من موقف إنساني وليس من مبدأ سياسي يقول بأن من حقهم كونهم جزء من الشعب الفلسطيني أيضاً ممارسة حقهم مع كل الآخرين في حكم ذاتهم في إطار دولة واحدة.
وبالتالي سنلمس هنا بأن البرنامج "اليساري" ينطلق من أن الشعب الفلسطيني هو فقط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، أما فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948 فهم إسرائيليون، واللاجئون يمكن أن يصبحوا إسرائيليين فيما إذا سمحت لهم الدولة الصهيونية بالعودة، أو يصبحوا فلسطينيين فيما إذا قبلوا العودة إلى الضفة الغربية ووافقت الدولة الصهيونية على ذلك، أو يقبلوا التعويض ويتحصلوا على "مواطنة" البلد الذي يعيشون فيه. وهذه هي السياسات التي تعمل على تحقيقها السلطة الفلسطينية.
إذن، "اليسار" يؤسس على وثيقة الاستقلال التي أوصلت إلى أوسلو، ويختلف في تفاصيل، مثل طريقة التفاوض، المرجعية، وليس أكثر. لكن المشكلة تتحدد في أن "اليسار" هنا يقر الاعتراف بالدولة الصهيونية حتى قبل أن يحصل على شيء كما فعلت قيادة حركة فتح، أي يقدم تنازلاً مجانياً دون أي مقابل. وهي الرؤية التي تنطلق من المسلمات التي إنبنت عليها كل السياسات التي قادت إلى المأزق، وربما الهاوية الحالية.
إذن، إن حدود برنامج "اليسار" هي "فلسطين الجديدة"، أي الضفة وغزة. أما باقي المسائل فهي تفاصيل يمكن حلها. هل يمكن، بعد كل ذلك، أن تتحقق دولة مستقلة في هذه الحدود؟ ما غاب عن النص هو الإجابة على هذا السؤال بالتحديد. لقد انطلق وفق "روحية التفاؤل والحلم" من أن الدولة ممكنة. وسوف نلمس تالياً أنه ينطلق من أنها قائمة. وهو هنا يبني على وهم، يعيد إنتاج الوهم. ولن أدخل في تكرار التفاصيل التي تشير إلى وهمية هذا الحل، واستحالته على الأرض. كما إلى فشل سياسة الضغط الدولي والشرعية الدولية.
هنا نضع نقطة: الأساس في البرنامج المقترح هو أن فلسطين هي الضفة الغربية وقطاع غزة. وأن الأساس الثاني هو الانطلاق من الاعتراف الكامل بالدولة الصهيونية، وبـ "حقها" في الوجود والاستمرار. وأن العمل الذي يجب على اليسار أن يقوم به هو طبيعة الدولة الموعودة، وإنهاء المشكلات مع الدولة الصهيونية لإكمال الاستقلال عبر "المؤتمر الدولي". هذه حدود التحالف "اليساري". وهو هنا يكرس الوعي الذي تعمم خلال العقود الأربعة السابقة حول طبيعة الدولة الصهيونية، حيث تحولت من كيان إمبريالي استيطاني عنصري يقوم على أساس الدين إلى دولة "طبيعية"، لكنها تحتل "فلسطين" التي غدت هي الضفة الغربية وقطاع غزة. والآن، بعد أوسلو، باتت المشكلة تتحدد في إكمال الاستقلال عبر المؤتمر الدولي.
هذا منطق الحزب الشيوعي الذي بات منطق "اليسار"، أو الذي يراد له أن يكون منطق كل اليسار. وهو منطق الجبهة الديمقراطية وهي تدافع بأسنانها عن "منجزها العظيم": "البرنامج المرحلي"، رغم أنها هنا تكرسه كبرنامج إستراتيجي.
أشكال النضال:
تجاوز الكفاح المسلح
فيما عدا الفقرة الأولى التي تشير إلى أن الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة التحرر الوطني الديمقراطي، والى السعي لتحقيق الحقوق الوطنية ...ألخ, والفقرة الخامسة التي تشير إلى حق شعبنا في المقاومة بكل أشكالها، فإن الورقة هي برنامج لدولة مستقلة، أي برنامج "نضال" في إطار دولة مستقلة. لهذا فإن معظم البنود هي حول ذلك، وبالتالي فإن أشكال النضال هنا هي في إطار هذه الدولة. لتكون المسألة هي مسألة إكمال الاستقلال الذي تحقق عبر أوسلو وليس التحرير. ليبدو أن مسألة التحرير حتى في حدود الضفة وغزة ليست ذات أولوية، وأن الأولوية هي لترتيب وضع السلطة بتحقيق المهمات المطروحة في الورقة. وهذا ما ينعكس على أشكال المقاومة التي يشير إليها. فإذا كان يشير إلى كل أشكال المقاومة فإن هذا الوضع، أي النضال الديمقراطي العلني سوف يفرض استحالة المقاومة المسلحة نتيجة العلنية ذاتها. فكيف يمكن ممارسة عمل مسلح من تنظيم مكشوف وتحت سلطة الاحتلال؟ إن وجود هذه الدولة المتوهمة في حضن الاحتلال سيعرض كل مقاوم "علني" لكل أشكال التنكيل. وهو الأمر الذي يقود منطقياً إلى التخلي (ربما ليس الرسمي ولا العلني) عن العمل المسلح، وحصر المسألة في "النضال التفاوضي" عبر الشرعية الدولية، وهذا ما توليه الورقة أهمية كبيرة (رغم تبيان فشله)، لهذا تشير إلى المفاوضات والمؤتمر الدولي باعتبار أنه الصيغة المثلى للحل. وترى الاستقلال يتحقق من خلال الدعوة إلى مؤتمر دولي "كامل الصلاحيات" في إطار الأمم المتحدة "لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة". وبالتالي فإن إكمال الاستقلال لا يكون سوى عبر هذا الطريق. أما الكفاح المسلح فقد بات من الماضي، لهذا لا يرد ذكره بأي شكل من الأشكال في النص، رغم تعميم المسألة الدعوة لكل أشكال المقاومة.
هنا يجري تجاوز المقاومة المسلحة، ليس بالإعلان عن ذلك، لكن عبر وضع النشاط كله في سياق جعل ممارستها مستحيلة، أي عبر تكريس العمل العلني الديمقراطي في إطار السلطة الفلسطينية. وهذا التناقض هو الذي يجعل كل جبهة "اليسار" لا تفكر ولا تعمل في إطار مقاوم، بل تمارس ما ذكر في النص من "تعزيز النضال الوطني الفلسطيني واستنهاض أوسع مشاركة شعبية في التصدي للاحتلال والاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري وعزل وتهويد القدس، ومواجهة سياسات الحصار والإغلاق والحواجز والقمع الاحتلالي بكل أشكاله، وتطوير حركة التضامن مع الأسرى والمعتقلين من أجل حقهم في الحرية دون تمييز ودون قيد أو شرط، والمشاركة في حشد الدعم العربي والدولي المساند لنضال شعبنا وحقه في الاستقلال والعودة". هذا هو "شكل النضال"، أو هذه هي "كافة أشكال المقاومة"، التي لا تتعدى "النشاط الشعبي" لإظهار الاعتراض وتحفيز الرأي العام للمشاركة. أما الكفاح المسلح فلا موقع له هنا. وهو أمر طبيعي في منطق ينطلق من سياسة تعتمد "النضال" العلني، وتؤسس على الضغط الدولي، وليس على قوة شعبنا.
والورقة هنا، رغم الإشارة إلى التحرر الوطني تعتبر أن التحرر يخص إكمال "تحرر" الضفة الغربية (وربما غزة)، لأنه ينطلق من اعتراف كامل ونهائي بالدولة الصهيونية.
إذن، سقطت مسألة التحرير، وحل محلها الاستقلال عبر المؤتمر الدولي. وطالبت بممارسة المقاومة بكل أشكالها لكنه وضعتها في بنية تجعل من الاستحالة ممارسة المقاومة المسلحة.
وبات الهدف هو طبيعة السلطة، شكل الدولة، التي يجري التعامل على أنها مستقلة. وهذا ما يتوضح في البنود الكثيرة الأخرى، والتي تركز على البنية الداخلية للسلطة باعتبار أنها كيان مستقل.
وبالتالي بعد الإقرار النهائي بالدولة الصهيونية يجري التعامل مع "احتلالها" للضفة الغربية وقطاع غزة وفق منطق "الشرعية الدولية" الذي بات هو المنطق الوحيد المسيطر.
الاحالة إلى "شعبنا":
من هو الشعب الفلسطيني؟
يحيل النص إلى "وثيقة إعلان الاستقلال" "كأساس ومرتكز لسياسات" الجبهة ومواقفها، والى برنامج منظمة التحرير "المتمثل في العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة بعاصمتها القدس"، وهو هنا يجعل سقف اليسار بسقف "البرجوازية" التي قادت النضال الفلسطيني، حيث أن برنامج م.ت.ف هو –كما يُفترض- الحد الأدنى المتوافق عليه مع هذه البرجوازية، وبالتالي فإن برنامج اليسار يجب حكماً أن يكون أعلى من ذلك. إنها إذن تقوم على أساس برنامج تحالفي هو ذاته البرنامج الذي يجري التحالف على أساسه مع "البرجوازية"، ليكون سقف "اليسار" هو ذاته سقف كل التنظيمات الفلسطينية المتوافقة على هذا البرنامج، الأمر الذي يستدعي التفكير أي يسار هذا؟
لكن الأهم هنا هو أن الانطلاق من إعلان الاستقلال يعني أن الشعب الفلسطيني الذي يناضل "اليسار" معه بات هو فقط سكان الضفة وغزة، أما الباقي فهم إما "مواطنين إسرائيليين" أو لاجئين. لهذا لا يشير النص إلى فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948، بل يشير إلى "التعاون والتنسيق مع القوى والاتجاهات السياسية العربية الديمقراطية داخل إسرائيل". وبالتالي يشطب هذا الجزء من الشعب الفلسطيني، يخرجه من اهتمامه نهائياً. ولهذا لا يرد ذكره في كل النص. أما اللاجئون فهو يتعطف عليهم بالدعوة إلى "المساهمة الفعالة في حركة اللاجئين في الشتات والوطن، وفي الدفاع عن حقهم في العودة إلى ديارهم تنفيذاً للقرار 194"، لكي يصبحوا "مواطنين إسرائيليين" كذلك وفق نص القرار.
هنا ينحصر "الشعب الفلسطيني" في سكان الضفة وغزة، وبالتالي يكون طبيعياً أن يركز النص على الوضع في إطار السلطة، وفي "النضال" ضمن حدودها ومن أجل مطالب خاصة بها. لهذا سوف نجد في النص كثير من المسائل المضحكة. مثل "بناء اقتصاد وطني مستقل قادر على إدامة مسيرة التنمية ..."، في ظل سيطرة إسرائيلية مطلقة على المعابر وبين المدن ومن خلال جدار العزل، وحيث تعيش كتلة هامة من الموظفين من أموال الدول المانحة، وحيث بقوم الاقتصاد على الحقن المالية القادمة من الاتحاد الأوروبي. ومثل "معارضة السياسة الليبرالية"، ومثل "تعزيز صلاحيات هيئات الحكم المحلي"، ودولة القانون والحريات وحقوق الإنسان، وسيادة القانون ومحاربة الفساد....ألخ. كلها توضح بأن البرنامج مطروح في دولة مستقلة، لهذا لا اعتبار لسلطة الاحتلال التي هي السلطة الأولى والأعلى، وهي المقررة في كل شيء، وليكون النشاط الأساسي هو هنا وليس ضد الاحتلال، الذي كما أشرت للتو يعالج عبر المؤتمر الدولي.
إن النضال من أجل المطالب الحياتية مسألة ضرورية، لكن يجب أن تربط بالنضال ضد الاحتلال بالأساس، وبالتالي لا يجب أن يصبح بديلاً عن ذاك النضال ضد الاحتلال الذي كان ولازال هو النضال الأساسي، لأن التناقض الأساسي هو مع الاحتلال. لكن تقزيم النضال الفلسطيني إلى مستوى سلطة في الضفة وغزة، وتجاهل كل الشعب الفلسطيني سوف يظهر ما هو مضحك أكثر.
وفق هذا النص يكون "اليسار" قد بنى برنامجه على أساس اتفاقات أوسلو، وانطلق من الحدود التي قامت عليها تلك الاتفاقات. فالأخطر فيها أنها كرست أن الشعب الفلسطيني هو سكان الضفة وغزة، وبالتالي حسمت الاعتراف بالنهائي بالدولة الصهيونية (وهو ما بدأ في برنامج م.ت.ف ووثيقة إعلان الاستقلال)، وتخلت عن اللاجئين وفلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948. وأسست لمنطق يقول بضرورة الانطلاق منها من أجل الوصول إلى تحقيق الاستقلال وفق قرارات "الشرعية الدولية". وهذا ما يطرحه النص كما أشرنا للتو.
منظمة التحرير الفلسطينية:
عن حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة
والنص يشدد على برنامج م.ت.ف الداعي إلى حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. ويؤكد على أن الجبهة تناضل "من أجل الدفاع عن وحدة ووحدانية التمثيل الفلسطيني المستقل مجسداً في منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني". وسنلحظ مرة أخرى بأن "الشعب الفلسطيني" هو سكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، حيث أشرنا إلى أن تقرير المصير بات يتحدد في حق العودة "للاجئين الفلسطينيين" على ضوء القرار 194، والاستقلال في دولة مستقلة في الضفة وغزة. وهو جوهر النص الذي يؤسس لتحالف "اليسار". وهنا باتت م.ت.ف هي الموازي للسلطة، لأنها باتت تمثل "الشعب الفلسطيني" في الضفة وغزة، وفقط تدافع عن حق العودة على ضوء القرار 194.
لكن، أي منظمة تحرير؟
ما أشرت إليه للتو، والذي بدا كاستنتاج هو في الواقع ما باتت عليه م.ت.ف. حيث أن ميثاقها عدّل وفق اتفاقات أوسلو، والتوافقات مع الدولة الصهيونية. وشطب كل ما يتعلق بالتحرير والكفاح المسلح، وكل ما يؤكد على رفض الدولة الصهيونية والدعوة لاقتلاعها. وبالتالي بات برنامجها هو برنامج السلطة ليس أكثر.
ثم أن الهيمنة المطلقة لقيادة حركة فتح، ولكل أزلامها، هي القائمة، وهي التي تحدد مسار المنظمة. ولهذا فهي خاضعة لقيادة السلطة، في جيب أبو مازن. والميل العام هو لتهميشها على طريق التخلص منها. وميزان القوى، سواء في المجلس الوطني أو المجلس المركزي يسمح بذلك.
وبالتالي هل من مراهنة على المنظمة؟ لكن في أي سياق، إذا كان برنامج "اليسار" هو برنامج السلطة وبرنامج م.ت.ف الراهنة؟
أي يسار؟
بعد كل ذلك، هل هذا البرنامج المطروح هو برنامج يسار؟ أظن أنه برنامج اليمين، وإذا كان يختلف مع السلطة فهو يختلف في الممارسات وبعض السياسات، ولا يختلف في الأساس. حيث أن "اليسار" قد تكيف منذ زمن مع برنامج وسياسات اليمين، وأكد ما قاله ناجي علوش منذ عقود: "يسار لا يعرف اليمين من اليسار".
ما يقدم هنا هو البرنامج الذي أفضى إلى الفشل الذي نعيشه وتعاني منه القضية الفلسطينية. وهو خلاصة مراهنة "اليمين" الفلسطيني، أو "القيادة البرجوازية" كما كانت تسمى، على الظروف العربية والدولية، التي بدت لها أنها سائرة نحو "السلام". والذي تشربه اليسار، وجعله برنامجه، كما جعل الفلسطنة أساس نشوئه من قبل.
إذن، هذا البرنامج هو ما يجب أن ينقد انطلاقاً من فشله، لا أن يصبح برنامج اليسار. وبالتالي أن يكون كل الذين تبنوه مجال نقد شديد، وتنحيتهم لأنهم من أوصل إلى ما وصلنا إليه. إننا هنا أمام تحديد واضح لليمين، لبرنامجه ولسياساته، وهو الأمر الذي يدفعنا للبحث عن برنامج اليسار الحقيقي.
وإذا كان النص لم يقرّ بعد، فأتمنى أن يلعب اليسار الماركسي الحقيقي في هذه التنظيمات دوراً أساسياً في إفشاله على طريق بلورة البرنامج الحقيقي لليسار الماركسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رولكس من الذهب.. ساعة جمال عبد الناصر في مزاد


.. Socialism 2024 rally




.. الشرطة الألمانية تعتدي على متظاهرين مناصرين لغزة


.. مواطنون غاضبون يرشقون بالطين والحجارة ملك إسبانيا فيليب السا




.. زيادة ضريبية غير مسبوقة في موازنة حزب العمال تثير قلق البريط