الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علي كريم سعيد... هل كان عليك أن تنتظر؟

جمعة الحلفي

2004 / 2 / 21
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


إذا مات العراقي، لأي سبب كان، في هذه الأيام، هل سيعتبر ذلك من سوء حظه أم من حسن طالعه؟ سألتُ  صديقاً هذا السؤال، على سبيل المزاح، وكنتُ أقصد به، ذلك القدر المأساوي الغامض الذي ينتظره العراق والعراقيون، كما ينتظر الأعمى من يأخذ بيده، وهو لا يدري هل سيساعده، فاعل الخير ذاك، على قطع الشارع أم سيدفع به إلى الهاوية.
لم يجبني الصديق عن سؤالي الساخر والمرير، واكتفى بابتسامة غامضة، هي الأخرى، لكنني سرعان ما اكتشفت أن ذلك السؤال العابر، إنما كان حدساً مشئوما بموت صديق عزيز وكاتب مدهش في دأبه وبحثه عن الحقيقة.  لقد مات علي كريم سعيد في لحظة رمادية من حياة العراق، وكان عليه أن ينتظر قليلاً لكي يرى ما سيؤول إليه عراقه المثخن الجراح، الذي حاول كثيراً وطويلاً، بعدّة المناضل حيناً والباحث حيناً آخر، أن يداوي بعضاً من جراحه القديمة.
مات علي كريم سعيد، الذي قضى آخر سنوات عمره المغدور، وهو (يبحّوش) في تلا فيف نصف القرن الماضي من حياة العراق السياسية، عن كل ما أوصل هذه البلاد، المسكونة بالخوف والرعود والمنايا، والآمال أيضا، إلى حالتها الراهنة، لكي يثبت لأصحاب الشأن، ممن أورثونا لوثة الأحقاد والضغائن والكآبات وأمراض التعصب والقناعات المغلقة، أن تلك العقود المريرة، التي ذهبت هباءاً من حياة العراقيين، كان يمكن لها أن تكون عقود رخاء ورفاهية واستقرار، لو أنهم كانوا أقل عنفاً ودموية في صراعا تهم، وأكثر مرونة وواقعية وتفهماً لاختلافاتهم وتنوعاتهم ومذاهبهم الشتى.
وإذ لم يلتفت كثيرون لمعنى ترويض التاريخ وإعادة كتابته بروح مخلصة لنقده تاريخياً، وتخليصه من ركام الشوائب والحزازات وسوء الفهم، باعتباره ماضي المستقبل، فقد تولى علي كريم هذه المهمة العسيرة عن رهط طويل من صنّاع تلك الأحداث الدامية وضحاياها معاً. وكان أكثر أقرانه جرأة على إعادة نبش القبور ووضع الشارات المناسبة على صدور الموتى، شهداء كانوا أم جلادين. وكان يحاول،كلما دخل حقل ألغام من حقول ذلك التاريخ، القابع كالذئب الجريح في عقول ونفوس الكثيرين منا، تشريح ما يمكن تشريحه برهافة جراح أكثر حرصاً من المريض على حياته الباقية، وأكثر حذرا على تجنب ما قد يعيد إنتاج الكارثة بلبوس جديد.
مات علي كريم سعيد ولا أعرف ماذا أقول بموته، فأنا لم أعده أبداً بإن أكتب عنه مرثية، بل كنتُ وعدته فقط أن أكتب عن كتابه الجديد "البيرية المسلحة وحسن سريع" الذي شعرت وكأنه كتبه نيابة عني، ليس لأنني كنتُ أستبعد موته ـ موتنا، في أية لحظة، بل لأنه كان نشطاً وحيوياً وفعالاً إلى درجة لا يمكن أن يتصور المرء معها أن هذا الإنسان يمكن أن يموت هكذا بكل هذه البساطة والعفوية والسرعة.
كان علي كريم من عشاق الحوار والتحاور، مع أي كان وفي أي موضوع، ولذلك كان يقترح علينا، كلما زارنا في المنتدى الثقافي العراقي بدمشق، دزينة من الندوات والطاولات المستديرة وجلسات البيوت، لمناقشة الكتب الجديدة والأفكار والتطورات، بمناسبة ومن دون مناسبة، وكأن لا همّ لديه غير هذا.
مات علي كريم سعيد، إذن، بعدما أتعبه الحوار وأرهقه البحث عما أوصل العراق والعراقيين إلى هذه النهاية الكئيبة من الظلام السياسي والانهيار الاجتماعي وحلكة المستقبل الغامض. مات وهو يحاول أن يجمع شظايا الحقائق من حقول الألغام ومستنقعات التناحر والتعصب، فكان أشبه بأولئك الذين يغربلون مياه الأنهر الراكدة  بحثاً عن ذرات الذهب. وكان يقول لي، وهو مؤمن بما يقول: لو أن العراقي ينصت جيداً إلى منلوغاته الداخلية اليومية، لوجد فيها حواراً قد لا يقبله مع الآخر، أو من الآخر، فالإنسان، كما يقول علي كريم، مختلف في ذاته ومع ذاته، وهو دائم السؤال مع نفسه ودائم البحث عن أجوبة وعن حلول وعن توصلات، فكيف به مع اللآخر، أو ما أجدى حواره مع الآخر.. وكان يختم وهو يتأفف.. كيف أوصلونا إلى هذه الهاوية؟
عندما أنجز كتابه الأول "أصول الضعف" كان حريصاً على أن يناقش من يقرأ الكتاب وأن يشرح له فكرته الأثيرة والمستحيلة، التي كان يريد بها تلطيف علاقة الإسلامي بالعلماني والجمع بينهما في كفاحهما المشترك ضد الدكتاتورية، وإثبات أن الشورى هي الديمقراطية ولكن برداء آخر، لكن فكرته كانت تصطدم دائماً بعصبوية الطرفين.
وعندما أنجز كتابه عن ذكريات طالب شبيب، وزير خارجية حكومة شباط63 ، مقلباً معه صفحات ذلك التاريخ، الأكثر التباسا واختلافا ودموية، في حياة العراق والعراقيين، كان مضطراً لمزيد من الشروح والإيضاحات، لأن ما أثاره، في ذلك الكتاب، لم يعجب أطراف ذلك التاريخ المشؤوم، ضحايا كانوا أم سافكي دماء. بيد أن علي كريم كان أميناً للحقائق أكثر من أمانته للصداقات والإخوانيات والعصبويات. ولأنه كان يغرد خارج الأسراب، فقد اختار، قبل رحيله بسنوات، موضوعاً لم يجرؤ أصحابه على الغوص فيه. فمن يخطر على باله أن يكرّس سنوات من عمره وجهده للبحث عن أصول وفصول وحياة واحد من الأبطال المغمورين في حياة الشيوعيين العراقيين؟
هكذا كان كتابه عن حسن سريّع، قائد انتفاضة معسكر الرشيد (1963) أسطع برهان على نزاهة البحث التاريخي لدى علي كريم سعيد، وأبهى دليل على تخلصه من عصبوية السياسي وروحه الثأرية المقيتة.

ملاحظة: هذه المرثية كتبتها بعد وفاة علي كريم سعيد بأيام، مطلع العام الماضي 2003  أي قبل الحرب والاحتلال، وقبل سقوط نظام الطاغية، وقد وجدتها، ويا للهول، لا تزال صالحة للنشر، بعد كل الذي جرى ويجري، وكأننا لا رحنا ولا جينا! ... ولا أدري الى متى ستظل صالحة للنشر؟ ( التعديل الوحيد الذي أجريته على المرثية هو إضافة عبارة "هل" على العنوان).

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام