الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في رواية راوي حاج -مصائر الغبار-

عاصم بدرالدين

2008 / 10 / 19
الادب والفن


قراءة في رواية راوي حاج "مصائر الغبار": حديث عن العبث ومصائر الناس

تبدأ رواية، راوي حاج "مصائر الغبار"، من توصيف مرعب ورتيب للمنزل الذي يسكنه بسام الأبيض، بطل الرواية، مع والدته، حيث يستحيل صوت "فيروز" الكئيب المنبعث من جهاز الراديو، الدائر منذ بداية الحرب، أكثر تدميراً من الحرب نفسها، وأبلغ فتكاً من القذائف المتساقطة بالآلف على بيروت. من هذا المشهد الفوضوي تتحرك الرغبة في الرحيل، لتصير طوال مسيرة الرواية السردية العامل ألتشويقي الأساسي أو بمعنى آخر الخيط الذي تحاك عليه الأحداث لتصل إلى خاتمتها.
ولا ريب أن العنوان خير معبر، عن مضمون الرواية، التي يسردها بسام نفسه، متقاسماً بطولتها مع صديقه جورج. إذ أن الناس في الحروب يتحولون إلى مجرد غبار، تعبث بمصائرهم الأحداث الدموية.
ترتكز القصة على فكرة أساسية، صميمها علاقة الصداقة منذ الطفولة التي تربط بسام بجورج. لتعبر عن المنحى الانفصالي لعلاقتهما مع تطور الأحداث. فالأول بسام يمقت الحرب، ويرفض الانضمام إلى الميليشيات المسيحية ويحلم بالرحيل إلى روما، بينما الثاني، جورج، فقد انضم إلى صفوف إحدى التنظيمات المقاتلة وتدرج مع الوقت ليصبح من أهم قادتها.
تنعكس مهنة الراوي كمصور محترف، بشكل جلي على التقطيع السردي للنص، ملتقطاً العديد من الصور الشعرية والعبثية لحياة مشتتة لشابين تائهين وسط الخراب، بمستوياته كافة: الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، على أن تصوير بشاعة الحرب ليس الغاية الأًصل في هذا العمل على ما تبدى لنا، رغم ما يذكره الكاتب من مظاهر الدم الفاقع في الشوارع عقب كل انفجار، وعن فقدانه لجده وأبيه في قذيفة واحدة أصابت منزلهم، ومن ثم موت أمه بالطريقة ذاتها. إنما السرد يلعب على وتر الانفصال الحياتي وتقرير المصير. لكن المفارقة، أن بسام الذي يبدو مسالماً في آرائه، رافضاً لمنطق النهب والزعرنة الممارسة من قبل المسلحين، يقوم بالأفعال المستهجنة نفسها. فهو يعمل مع صديقه جورج على سرقة أموال لعبة "البوكر" التابعة لقادة التنظيمات المسلحة أو سرقة أرباح الكازينو، ولا يرى ضيراً في إخافة الناس بقوته وسلاحه كما فعل مع صاحب الدكان في حيه. ولا مشكلة لديه أن يقتل إحدى قادة الميليشيات المسمى "رامبو"، انتقاماً لذاته التي انتهكت في أثناء فترة التعذيب، وأخيراً قتل صديق طفولته بطريقة غير مباشرة.
يسعى حاج في هذه الرواية، لتصوير الحرب على أنها فعل لا إرادي، غير مختار من قبل البشر، بل هم ينساقون إليها جبرياً، ضمن الآليات التي تفرضها هي نفسها، مثل النهب والقتل والشعوذة والخيانة، كما فعل جورج حين أخذ من رفيق عمره، أو أخيه كما يناديه، بسام، حبيبته رنا.
تشترك أغلب الروايات اللبنانية التي تناولت الحرب الأهلية بمختلف أطوارها، بفعل الندامة الذي يعلنه أحد شخوص القصة، وفي هذه الرواية يبدي جورج ندمه عما اقترفته يداه خلال مجزرة صبرا وشاتيلا. لكن هذه المراجعة تبدو دائماً متأخرة، وليست ذي جدوى طالما أن الواقعة قد حصلت، وطالما أن اليد نفسها، اللبنانية عموماً، على استعداد دائم لتكرارها دون أي أسف آني، ومن هنا تحديداً تستمد رواية الحاج، استمراريتها وأهميتها مثل نظيراتها من الروايات التي أرخت لحرب لبنان.
وإذ يسجل للرواية مشهديتها الرائعة في تصوير الحرب وبؤس ناسها ومصائرهم، فإنه وفي نقيض هذا الأمر، تبرز في طياتها المبالغة المفرطة في تبني نظرية المؤامرة عند فبركة أحداثها. وخاصة في حكاية جوزيف المقاتل على الجبهة الشرقية ونظيره حسن على الجبهة الغربية اللذان اتفقا على عدم أذية بعضهما رغبة منهما بالالتقاء بعد نهاية الحرب، يشي هذا الأمر بالفكرة القائلة بأن المقاتلين يتآمرون على الناس الذين يقتلون وحدهم في الحروب. مهما يكن من أمر هذه القصة، أكانت واقعية أم متخيلة، فإن العقل الذي عاش في، أو سمع عن، الحرب لا يقدر على استيعابها لا سيما أن الوعي الذي دفع بالمقاتلين إلى الجبهة كان مقفلاً ومعبئاً على مشروع واحد، فإما "نحن" وإما "هم"، وأقصد هنا أن الرواية وحكاياتها الصغيرة تقصي أهمية الأيديولوجية التي كانت تتحكم بشارعي الحرب وقتذاك والقائمة على النفي، وعدم التفكير بإنهاء الحرب إلا بعد القضاء على الآخر-العدو تماماً، لكي يتسنى للفائز تحقيق مشروعه.
وفي سياق المؤامرة نفسها، نرى أن الموساد الإسرائيلي، الذي يبدو في الرواية كأنه جهاز ضعيف وساذج وفردي، متحكم في كل شيء داخل القصة، وكأنه الشبح الخفي الذي يتحكم بناسها، فبسام الذي ذهب إلى فرنسا خصيصاً ليبحث عن والد جورج بطلب من خالة الأخير نبيلة، يعرف في النهاية أن الابن والأب قد التقيا سابقاً في إسرائيل وتعارفا، وإنهما يعملان معاً في خدمة الموساد، مع أن جورج في اللقاء الأخير مع بسام، وقبل أن يختفي من أحداث الرواية قتلاً، طلب معرفة اسم أبيه، لاقتناعه بأن صديقه يعرفه لعلاقته بخالته، ولولا الحالة النفسية المتداعية التي كان فيها جورج لقلنا أنها حركة ذكية من رجل مخابرات، غير أن حقيقة الأحداث التالية تدل على عكس ذلك فجورج كان منهاراً تماماً عقب حصول المجزرة في المخيم الفلسطيني وثمل إلى درجة البوح بكل شيء والإقرار بكل أخطائه!
أما التبسيط الأخر فهو طريقة هروب بسام من لبنان عبر باخرة مصرية متوجهة إلى فرنسا، سيما أن الهارب متهم بقتل "الريّس" في أيلول 1982 بالتعاون مع عمه الشيوعي القاطن في المنطقة الغربية، والميلشيات المسيحية كلها تبحث عنه، فكيف يمكن له الهروب عبر المرافئ؟ وخاصة إذا ما علمنا أن هنالك حروباً خيضت طوال فترة الحرب للسيطرة على هذه المنافذ البحرية. بمعنى أن الهروب السهل لم يكن منطقياً أو مقبولاً، لئن المسيطر على المرافئ كانت الميليشيا نفسها التي تريده، والتي من المنطقي أن تعتقد بإمكانية هروبه عبر البحر، بعد تنفيذه عملية الاغتيال، لغياب الطرق الأخرى.
لا نستطيع أن ندعي أن رواية حاج، فريدة في هذا المضمار، أي الحديث عن المصير الإنساني في الحروب اللبنانية، فقد سبقه إلى تناول الموضوع الكثير من الروائيين ومن مختلف الاتجاهات، وعلى سبيل المثال رواية "يالو" للروائي الياس خوري، وبطلها السرياني "دانيال" والذي هرباً من الحرب، بعد أن شارك فيها، رحل إلى فرنسا ثم عاد إلى لبنان ليعمل عند أحد الأغنياء كحارس، ليتهم بعدها بالاغتصاب والسرقة والإرهاب. بيد أن ما يميز "مصائر الغبار" هي تلك اللغة التي تنساب من النص، لتجعل من الحروب، الدموية، متعة.

مصائر الغبار، راوي حاج، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 2008.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام