الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخل والخمرة والصديق

عبد الإله السباهي

2008 / 10 / 19
الادب والفن



كان الصيد هذا العام وفيرا والحمد لله، والموسم استمر على غير عادته كريما معطاء. فخرجت من محبسي أتصيد الساعات المشمسة في هذا الصيف الرائع.
عندما يحين فصل الصيف في الدنمارك تتبدل الحياة بعنف، فوجوه الناس المرسومة باللون القاتم، تتغير فورا فتصبح مرحة باسمة، عندها تستطيع اقتناص بسمات المارة وإن كانت مرسومة بتكلف، ولكنها بسمة على كل حال.
البحر لا يبعد كثير عن مسكني الذي عشش فيه برد الشتاء القارص، وغياب الشمس الدائم، وحزن لا فكاك منه، لذا قررت اليوم الثورة على واقعي الممل والذهاب إلى البحر مشيا على الأقدام، تاركا وسائط النقل المريحة هذه المرة، ما دامت الشمس ساطعة والسماء تبشر بيوم جميل.
تفصلني عن البحر أربعة الآف خطوة بالتمام والكمال.
ولكون ساعات التمتع بمثل هذا الجو الرائع لا تعوض، قررت أن أزيد تلك الخطوات ألف خطوة أخرى، وأسلك طريق الغابة الأبعد.
إلى الشمال من مدينة ( نيفو ) حيث سكني منذ وصلي إلى الدنمارك قبل اثني عشر عاما، توجد غابة اكتظت بأشجار البلوط الباسقة، تخترقها سكة حديد يسير عليها قطار الركاب الذي يربط مدن الشمال بالعاصمة كوبنهاجن فيقطع السكون فيها كل عشرين دقيقة مرتين.
فالقطار الصاعد إلى الشمال له ضجة وهدير لا يختلف عن ضجيج القطار النازل إلى العاصمة.
قطعت منتصف الطريق فرحا بخيوط الشمس اللاذعة، تاركا منخري الكبير يعب من ذلك النسيم الذي لا يعكره تراب طريق أو دخان معامل.
وجدت مسطبة من الخشب تساقطت بعض ألواحها ألتي تسند الظهر وظل منها لوح واحد أسندت ظهري إليه كيفما اتفق.
لن تجد عزيزي القارئ مكابرة أكثر من تمسك الشيوخ بذكرى الشباب الغارب، فلم ينفع حذاء الرياضة المريح ولا ملابس الرياضة الجديدة ولا حتى سلسال الفضة الذي راح يتدلى على الصدر، في شدّ العزيمة لمواصلة السير. فالأنفاس راحت تتقطع والقلب يضرب بعنف. فوجدت في تلك المسطبة لمسة من الرقة والحنو ودعوة صريحة للمكابرين مثلي، فجلست عليها متهالكا.
بعد أن استعادت أنفاسي رتابتها قمت بعد أطياف اللون الأخضر التي تحيط بي من كل جانب، وبعد أن أحصيت أكثر من ثلاثين طيفا لهذا اللون المبهج، رحت في شبه إغفاءة استرجع فيها ذكريات عمر ذهب معظمه في عراق تغطيه الرمال عند كل عاصفة، و تغوص الأرجل في سباخه عند كل زخة مطر. والعيش فيه صراع عبثي مع الحياة العصية على التحليل أو التبديل أو الفهم.
وأنا في شبه إغفاءتي تلك خطر على ذهني كلمات قرأتها في قصة لكاتبة واعدة، تشاطرني المواطنة الجديدة وتتصفح ذكريات المواطنة القديمة مثلي رغم صغر سنها.
تقول دنى غالي الكاتبة الرقيقة، في كتابها (اكتشافات متأخرة انتصارات صغيرة ):
ثلاثة أطيبها العتيق
الخل والخمرة والصديق
أخذت أغوص في هذا المثل الذي لم أصادفه قبل اليوم لا في كتاب الأمثال للميداني ولا في غيره من كتب التراث ولا حتى الحديثة منها.
تذكرت المخلل المعتق الذي كانت تعده أم محمد من الخيار ( التعروزي) والذي تحشيه بمختلف الأعشاب والبهارات وتعتقه بخل التمر لتقدمه لضيوفها بكرم.
فكلما كنت أذهبت إلى مدينة الحلة لبعض أعمالي، أو لزيارة صديقي المهندس محمد، لابد لي من تناول وجبة الغداء على مائدة أم محمد.
لا أذكر صنوف الطعام الشهية المختلفة التي تعدها في كل مرة، والتي تتفنن فيها تلك السيدة الرائعة، ولكن طعم المخلل الذي كانت تقدمة على المائدة في كل مرة لا يزال هو الصامد الوحيد في فمي يتحدى الزمن.
وهكذا مر شريط من الذكريات أمامي لمحلات بيع المخلل (الطرشي) في بغداد من (طرشي حنانش) في شارع الرشيد حتى (طرشي ملك في محلة السفينة في الأعظمية) وصولا (لبساتيك الطرشي) في بيت أم علي في محلة الشواكة.
سمعت أن الطرشي قد منع في عراق اليوم كجزء من سياسة أسلمة المجتمع، فترحمت على العراق وعلى الطرشي.
لم أجرب خمرة معتقة، ولكني سمعت أنها متعة من متع الحياة حرمها البعض وحرم سكرها آخرين. وهنا قفزت إلى ذاكرتي المرهقة، قصة عن الخمرة المعتقة رواها لي صديق لا أذكر من هو، تقول القصة:
أنه في أثناء التنقيب عن الآثار في ليبيا عثر على جرار رومانية مليئة بالخمر ومغلقة بإحكام، ولكون الخمرة محرمة عند القوم هناك، كسروا تلك الجرار وأهدروا ما فيها مسفوحا على التراب دون رحمة. ربما تلك آخر فرصة للبشرية لمعرفة ماذا يصنع تقادم السنين في معشوقة أبي نؤاس وزمرته.
وعندما جاء الدور للصديق المعتق تزاحمت الصور وراحت تتدافع بعناد لتحتل المكان الأول. ولكن لماذا يجب أن يعتق الصديق؟ وكم سنة يجب أن يعتق فيها ليبلغ مرتبة الجودة ؟ أليست الصداقة شيء متجدد؟ كل أصدقائي هنا جدد، لم أعرف أي منهم من العراق، فكم سنة يجب أن أنتظر لينطبق عليهم المثل الذي ابتلتني به دنى غالي؟
ولكن أولائك الأصدقاء الذين تركتهم في بغداد والذين يشدني الشوق إليهم دائما، هل سأجدهم كما تركتهم؟
وهل هم أطيب من الجدد؟ السؤال متروكة الإجابة عليه لصاحبة المثل.
تركت كل تلك الأفكار بعد أن تعاركت ( مصارين البطن) عند ذكر الطرشي، و ودعت المسطبة ثم واصلت مسيرتي إلى البحر عسى أن أعثر هناك على قطعة من الطرشي، ولتكن طماطة خضرة أو باذنجانة صغيرة.
أو يوفقني الحظ في العثور على جرة معتقة من النبيذ الذي ربما تركه ( أجدادنا الأقدمون – الفايكنك- ) فمدينة (النيفو ) تعد من أقدم المستوطنات التي سكنها الدنماركيون الأوائل.
أو أعثر على أي صديق يخفف عليّ وحدتي ويشاطرني فرحتي باليوم المشمس، ولا يهم إن كان معتقا أم جديدا ( فريش).
ولكنها كلها أماني فقط، و(التمني رأسمال المفلس).

عبد الإله السباهي
أيلول2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط