الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(( التسييس)) اخطر امراض الشعوب العربية!

سليم مطر

2008 / 10 / 20
الصحافة والاعلام


نقصد بـ (التسييس)، ان يتم تحويل أي موضوع مهما كان اجتماعيا او علميا او فنيا او ادبيا، الى موضوع سياسي يتعلق بـ ((الحكومات والاحزاب))!!!!
لو تحدثت مثلا عن الغناء او الشعر او حتى الطماطة ، فأن جليسك او جلاسك العرب، وبقدرة قادر، سرعان ما يحولوا هذا الموضوع الى موضوع سياسي، ويبدأون يتشكون ويتباكون عن (خيانة حكوماتنا) وعن (الانحطاط العربي)، ويشرع احدهم بالقاء خطبة بركانية عن(قمع الحريات) و(الامبرالية الامريكية) و(الصهيونية العالمية).. واذا بـموضوع (الغناء) يصبح(حكومة) و(الشعر) يصبح(امبريالية) و(الطماطة) تصبح(صهيونية)!!!!!
وكثيرا ما تتحول الجلسة الى (اتجاه معاكس) حيث يتركز الجدال الحارق بين شخصين، احدهما (مع) والآخر(ضد)، ولا يهم فحوى الموضوع المختلف عليه، بل المهم هي(مسرحية الاتجاه المعاكس) بين الطرفين. فهذه المسرحية الحماسية تقوم بالحقيقة بوظيفة نفسية تفريغية لهموم شخصية جدا ليس لها أي دخل بالسياسة! فلو تمعنت جيدا في اعماق اولئك الاشخاص، لاكتشفت انهم في شكاويهم وشتائمهم ضد الحكومات فأنهم بالحقيقة يشكون ويشتمون بصورة تعويضية بعض الاشخاص من العائلة او المعارف او رب العمل او ربما احد الاشخاص الحاضرين!
وانت المسكين، اذا ما قلت( يا اخوان لنرجع الى موضوعنا وخلونا شوية من الحكومات والسسياسة)، سرعان ما تواجه بنظرات شزر، وتتهم مباشرة او غير مباشرة بأنك(بطران) و(خيالي) و(لا يهمك معانات شعبنا القابع تحت القمع والفساد والدكتاتورية والامبريالية والصهيونية والقوى الشيطانية الكردية والعربية والتركية والايرانية والشيعية والسنية والمسيحية... الخ.. الخ.. ))!

من اين اتت جراثيم هذا المرض الخبيث؟
كلنا نتذكر كيف كان اهالينا يتداولون في لقائاتهم نوعا من الثقافة الجميلة والمنوعة التي يمكن تسميتها بـ(ثقافة السوالف). فتراهم يمضون جلساتهم بسرد الحكايات التراثية والدينية والشعبية، ومعها الحكم والامثلة والنوادر، اضافة الى القضايا والمشاكل الشخصية التي يتم تداولها على امل الاسهام بحلها. وطبعا هم يتداولون ايضا المواضيع السياسية، ولكنها تبقى تشكل جزءا محدودا من مجمل احاديثهم. وهذا حال الجماعات البشرية الطبيعية في كل زمان ومكان. لان السياسة لا تشكل الا جزءا صغيرا من(الفضاء المعرفي)، فهنالك ما لا يحصى من المجالات المعرفية التي تهم الانسان عمليا وامتاعيا، من علوم واديان وآداب وفنون بمختلف تفرعاتها وتفاصيلها اللامنتهية. فحتى الجنود القابعون في خنادق القتال، يتداولون احاديثا متنوعة وطرائفا من دونها لا يستطيعون تحمل معانات الحرب.
اما بالنسبة للثقافة السياسية فقد ظلت حتى اعوام الثمانينات من القرن الماضي تنمو بصورة طبيعية وتأخذ حيزا اكثر فأكثر بدفع من اتباع الاحزاب والنخب السسياسة، يسارية وقومية ودينية. لكن هذه الاحزاب والنخب لم تكن تمتلك الوسائل الاعلامية والتثقيفية القادرة على الغاء(ثقافة السوالف الشعبية والانسانية) وفرض(ثقافتها السياسية الحزبية المحدودة)..
لكن الطفرة السياسية العملاقة ( ان لم نقل الكارثية) حدثت في اواخر اعوام التسعينات مع ظهور(محطة الجزيرة) وبرنامجها الشهير(الاتجاه المعاكس). بحيث تمكنت هذه المحطة من تحقيق ذلك الحلم الطائش الذي تتمناه في اعماقها جميع الاحزاب والنخب السياسية في العالم العربي:
( الغاء الثقافة الانسانية والشعبية، وفرض الثقافة الحزبية السياسية)!
وقد ساهمت غالبية الفضائيات العربية بهذه المهمة(التثقيفية التجهيلية)، بصورة حماسية ليل نهار، وجرفت معها جميع مكونات الشعوب العربية. ويكمن السر الكبير لنجاح هذه الثقافة الحزبية السياسية بفرض نفسها بهذه الصورة الجبارة شبه المطلقة، الى انها:
( ثقافة سطحية وسهلة جدا لا تحتاج الى أي تفكير وبحث، بل يكفيك ان تتابع الاخبار وتحفظ بعض اسماء المسؤولين وبعض العبارات التشدقية الطنانة وترفع صوتك بالزعيق وتكتب بعض المقالات التعليقية(وينصح ان تكون حادة وشتائمية)، حتى يتم اعتبارك(خبيرا سياسي) و(مختصا بشؤون فلسطين أو العراق أو حقوق النسوان وقبائل السودان، أو حتى ظليعا بقضايا الارهاب والكباب)..
بل ان هذه المحطات قد بلغت حدا مذهلا من القدرة على التحكم بالمخيال العربي. فهي وحدها التي تقرر من هو(البطل المنقذ) المناسب للمرحلة. فهي التي قد صنعت لنا( بن لادن والقاعدة)، بل هي التي اثبتت للعالم اجمع بأن(بن لادن) موجود حقيقة وليس صناعة افتراضية أمريكية اسرائيلية! وهي التي فجأة رفعت(صدام) من دكتاتور ممقوت من العرب اجمعهم، الى(بطل عربي اسلامي سني) راح ضحية(الشيعة والايرانيين)!! وهي التي جعلت من(حسن نصر الله) رمزا للمقاومة العربية ثم فجأة حطته الى(رمز طائفي)!!!
نعم هذه الفضائيات ومعها جوقات الاعلاميين و(الخبراء السياسيين) حولت الثقافة السياسية في المجتمعات العربية الى ثقافة اسطورية دينية نفسية بصورة تتجاوز المعقول. بحيث انه صار من الطبيعي جدا ان تشاهد الناس المساكين امام التلفزيونات في البيوت وفي المقاهي، يبكون على مشاهد دمار الفلسطينين ومذابح العراقيين وبنفس الوقت يلعبون الدومنة ويأكلون، بل حتى يتضاجعون وهم يفحون حزنا على حال العرب والمسلمين!!!!
مسخ المثقفين غصبا عنهم
دعوني اعطيكم مثلا من تجربتي الشخصية:
حتى سنوات قليلة كانت الفضائيات والاذاعات العربية تدعوني مباشرة او تستجوبني هاتفيا. وكانت الاسئلة دائما تتمحور حول(احداث العراق). ودائما يقدموني (الباحث او الخبير السياسي). واتذكر ان محطة الجزيرة اخذت تتصل بي لفترة طويلة لتقدمني في برنامج(الاتجاه المعاكس) على اني(خبير بالشؤون الكردية). وكنت دائما ارفض واجيبهم : (انا خبير بالشؤون العراقية عموما وليس الكردية). لكنهم اصروا، ثم نجحوا اخيرا باقناعي بعد احداث العراق وشروع القيادات العنصرية الكردية بهجومها الكاسح للاستيلاء على كل شمال العراق.
وكانت دائما اسئلة المذيعين سياسية اخبارية بصورة مكررة ومملة الى حد لا يطاق:
ماهو تعليقك على تصريحات اياد علاوي... كيف ترى موقف الصدر.. هل تعتقد ان السيد السيستاني.. الا ترى ان خطاب الرئيس بوش..الخ الخ من هذه الاسئلة السطحية الخبرية التي لا تتطلب الاجابة عليها أي عمق ثقافي، فيكفيك ان تقول(نعم اتفق) او(كلا لا اتفق).. ومعها بعض الجمل التشدقية بوقار مصطنع او صراخ ثوري.
علما انهم يفرضون عليك منذ البدء ان لا تتجاوز اجابتك على كل سؤال بضعة ثواني. اتذكر ان ربع طاقتي كنت اصرفها بالتفكير بفحوى الجواب، وثلاثة ارباعها اصرفها على كيفية اختصار جوابي ببضعة كلمات!! انها حقا لعبة متعبة ومقرفة، بحيث اني كنت احيانا احس بالانهيار العصبي بعد استجواب اخباري هاتفي لم يتستغرق مني سوى بضعة دقائق..
وقد بلغت المشكلة ذروتها، عندما فوجئت، قبل اندلاع المذابح الطائفية في العراق ببضعة اسابيع، ان المذيعين راحوا يسألوني هكذا:
ـ استاذ سليم مطر، باعتبارك باحث شيعي.....
الله الله الله.. هكذا اذن نجحت هذه الفضائيات بتحويلي من باحث عراقي، الى (خبير بالشؤون الكردية)، واخيرا الى (باحث شيعي).. ياالله اية قوة شيطانية تقود هذه الفضائيات لكي تصر هكذا على مسخ عقول العرب، بل هاهي تشرع بمسخ حتى عقول المثقفين العرب وتفرض عليهم ادورا سياسية دينية وعرقية وطائفية لكي يصبحوا جزءا من هذا السيناريو التجهيلي العالمي الجبار الجاري تطبيقية بصورة جهنمية رهيبة!!!
حينها قررت ان اوقف هذه الانزلاق الذي اعيشه من دون وعي.. ان احترم نفسي واطالب بالذي اعتقده. اعلنت رفضي ان يتصلو بي من اجل التعليق على الاحداث. قل لهم:
اسمعوا انظرو الى كتبي وكتاباتي. الجانب السياسي منها لا يتجاوز العشرة بالمئة، والباقي فكر وتاريخ وعلم اجتماع، كذلك الادب القصصي والروائي..طيب اطرحوا علي اسئلة اكثر عمقا تخص العراق او الشرق الاوسط او حتى العالم، عن المجتمع والتاريخ والقوميات ومشاكل الهوية والماضي والحاضر والمستقل.. كل ما ترغبون، لكن بلاش تعليقاتي على تصريحات فلان ومواقف علان.. فهذه الاسئلة الخبرية يمكن ان تطرحوها لأي طالب في الابتدائية!
ومنذ ذلك الحين، منذ اكثر من ثلاثة اعوام، وبصورة مفاجأة توقفت جميع الاذاعات والفضائيات العربية عن الاتصال بي ودعوتي..
سبحان الله وكأنهم تلقوا امرا واحدا من قيادة عليا مشتركة!!!؟؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح