الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جنون شاعرة*

سهر العامري

2008 / 10 / 21
الادب والفن


كانت تأخذ سوق المدينة جيئة وذهابا ، ليس لها غرض تؤديه ، مثلما يفعل الناس في المدينة حين ينهضون مبكرين صباحا من أجل قضاء عمل ما ، أو شراء سلعة وبيع أخرى ، ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء ، ولهذا تجد ذاك السوق ، الذي اصطفت حوانيته بانتظام تقريبا على جانبي شارعين متصلين ، غاصا بهؤلاء المتجهين والمتجهات نحو باحة من الأرض تحيطها المياه من جوانب ثلاثة ، ترسو عند شواطئها أصناف مختلفة من زوارق المتبضعين القادمين من القرى القريبة ، أو زوارق الصيادين وباعة الخضار والثمار ، خاصة حين يحل فصل الصيف حيث تزدهر زراعة البطيخ بأنواعه ، ويتكاثر السمك على صنوف مختلفة ، والى الحد الذي يطفو برؤوسه متزاحما على سطح مياه الأنهر القريبة من مكان بيعه في تلك الباحة بعد أن يضيق به المكان ، ويشح عليه الغذاء ، وهذا ما يضطر بلدية تلك المدينة الى إحراقه بعد إخراجه بكميات هائلة من تلك الأنهر في موسم مثل هذا الموسم الذي يتكاثر فيه السمك من كل سنة ، ذلك التكاثر الذي يسميه الصيادون بـ (الزرة ) وهي كلمة تعني في لغتهم كمّا متدفقا من السمك بعد تكاثره بشكل فضيع في أعالي الأنهار ، وفي حال غريبة لا تقوى فيها مياه الأنهار الصغيرة على حمله ، ويعجز فيها الصيادون عن صيده ، عندها يلفظ ما تبقى منه أنفاسه فتحمله المياه الى ضفاف الأنهار تلك ليحرق فيما بعد .
من بين كل أولئك المشاة المتجهين صوب باحة البيع والشراء تلك ، والذين يحتضنهم شارعا المدينة الوحيدان وقت أن تحط الشمس خطاها على كبد السماء ، تخرج امرأة زنجية حملت أقدام أجدادها سفن جاءت بهم من أفريقيا الشرقية الى مدينة البصرة منذ مئات السنين بحثا عن الرزق فيها ، وعملا في بساتين نخيلها وممالحها . وبعد أن استقر بهم الحال تعلموا مهن أهل البلاد الأصليين ، فراحوا يشاركونهم العمل فيها ، ولهذا صار بعض من أحفادهم يمارس مهنة صيد السمك في أهوار تلك المدينة ، أو الأهوار القريبة منها ، فعاشوا عيشة سكان الأهوار تلك ، بعد أن بنوا لهم بيوتا من قصب في قرى تلك الأهوار ، وكذلك في مدنها الصغيرة التي قام في إحداها بيت من قصب للمرأة الزنجية تلك وزوجها الذي سمقت قامته ، واشتد سواد بشرته ، وضخمت جثته ، حتى أن الكثير من سكان المدينة تلك كانوا يتساءلون متندرين ، وهو يمر عليهم : كيف لزوجته المجنونة ، ضبابة ، أن تتحمله حين يجمعهما فراش واحد ؟ فالمرأة الزنجية تلك ، مع ذهاب عقلها ، دقّ عودها ، وقصر قوامها ، وضعف بصرها ، وبشعت صورتها ، وقد كانت بالإضافة الى ذلك ثائرة ، هائجة ، تنشد الشعر على البديهة دون انقطاع ، وتغنيه وكأنها تخوض غمار معركة واقعة لا محالة منها ، أو أنها كانت تحث الرجال في هزجها ذاك على القتال ، وهي بذلك عادت على خلاف كبير مع زوجها ، عبيرة ، فهو رجل يجلس ساكتا ، ويقوم صامتا ، ولم يره أحد من أبناء المدينة تلك باسما أبدا ، فمع رحيله بهذا البحر من الصمت العميق يبدو في أحيان كثيرة عابس الوجه ، كريه الطلعة.
كان هيجان زوجته ، ضبابة ، يزداد حدة وضراوة حين يكون زحام الناس على أشده في سوق المدينة وقت الضحى من كل يوم ، تقول ما يحلو لها من الشعر ، ذاك السلاح الماضي الذي تشهره بوجه كل من يعترض طريقها ، أو يسمعها كلمة ( قبّّت ) تلك الكلمة التي تحمل في واحد من معانيها صوت الرعد ، وهي الكلمة ذاتها التي تكون مثار جنونها كلها ، فقد حفظ المعاكسون من أبناء المدينة تلك الكلمة التي صارت عود ثقاب يشعلون به ثورتها متى ما أرادوا ذلك ، ولهذا كانت ضبابة تثور ثورة عارمة بوجه أي رجل ، أو أية امرأة تطلق تلك الكلمة قريبا من مسامعها ، فترد هي على تلك المرأة الهازئة بهزج بيت من الشعر يجعل النساء تفر من أمامها . بيت من الشعر خسيس في معناه ينال من كل امرأة تسمعه ، ولهذا صارت الواحدة من النساء تخاف منها أشد الخوف ، وتحذرها أشد الحذر ، وتبتعد عنها إن هي صادفتها في شارع من شارعي المدينة تلك ، فقد سمعت نساء المدينة مرة كيف أن امرأة منهن قد أطلقت كلمة ( قبّت ) على مسامع ضبابة ، فما كان منها إلا أن قذفت من فمها بيتا مستعرا من الشعر بوجه تلك المرأة ، وعلى مرأى ومسمع من الناس ، وهذا ما جعل كل واحدة من النساء اللائي سمعن ذلك البيت تشيح بوجهها عنها ، هاربة من أمامها ، تحمل في مسامعها ذاك البيت المخجل الذي لا يمكن لأي امرأة أن تتحمل سماعه في شارع عام ، وهو على تلك الصورة البعيدة التي تصيدها عقل شاعرة مجنونة :

( لو كان لفرج كل امرأة لسان لكان قد نطق باسم ناكحه )

أما الرجال فقد أعدت لهم ضبابة سيوفا من الشعر ، وعلى قدر كل واحد منهم ، وحسب مكانته الاجتماعية ، فالمدينة لا تزال تتذكر كيف أن أحد صيادي السمك نطق كلمة ( قبّت ) وهي تمر من أمامه ، فما كان منها إلا أن ردت عليه ببيت واحد من الشعر جعل الخجل يسيل من وجهه عرقا أمام العشرات من أبناء المدينة تلك ، فهو صياد سمك لم يعتد على حمل سلاح سوى منجل صغير يدعى ( الشلبة ) مثله في ذلك مثل صيادي الأسماك الذين اعتادوا على حمل هذه المنجل الصغير معهم من أجل أن يشقوا فيه سمكة من ظهرها طولا ، وذلك حين يريدون إعدادها للشواء في وجبة الغداء ظهرا على عادة أولئك الصيادين الذين اعتادوا كذلك على دفن موتاهم في ( الغريرية ) وهو اسم من أسماء مدينة النجف القديمة ، ولهذا جاء بيت الشعر ذاك ساخرا من صياد السمك ذاك حتى بعد موته ، فضبابة قد طالبت ذويه أن يدفنوا شلبته ( منجله ) معه بعد موته ، فربما تحدث زرة للسمك في صحراء النجف القاحلة !

- ( دفنوا شلبتهْ وياهْ... أخافْ اتصيرْ زرةْ بالغريريهْ! )

فهي على ما بها من جنون تعرف أن الشجعان من الناس تدفن معهم سيوفهم ، وأن الملوك منهم تدفن معهم كنوزهم ، ولكن ماذا سيدفن مع صياد فقير ، معدم ، يعيش على سمك الهور ، ويستظل ببيت من قصبه ؟ ماذا يدفن مع هؤلاء الفقراء الذين افترشوا الأرض والتحفوا السماء غير خلاصهم من ظلم استبد بهم على مدى أجيال كثيرة ، وعلى ذلك فهي تعرف حق المعرفة أن هؤلاء الناس لا يملكون شيئا مهما يجعلهم يتفاخرون به ، حتى أنها حين مات واحد منهم يدعى ( مطنش ) لم تجد أمامها من صور الشعر إلا صورة شعرية واحدة رثته بها ، ارتكزت على القوة البدنية عند هذا الرجل الذي ما صرفها على إشهار سيف في وطيس حرب ، وإنما كان يصرفها على حمل سبعة من المرادي ، وهي تلك الأعواد الخشبية الطويلة التي يدفع بها الصيادون زوارقهم ساعات الصيد ، والتي كان مالك الزورق يعهد بحملها الى أقوى رجل فيهم في العودة من الصيد أو في الذهاب إليه ، ووفقا لهذه القاعدة فقد اختص ( مطنش ) بحمل تلك المرادي السبعة على أحد متنيه بعد أن يشدها عليه بيد واحدة وبقوة بحيث لا يدع الواحد منها يضرب الآخر فلا يخرج لها ، والحال هذه ، صوت ، وهو يسير بها على قدميه الى شاطئ الهور حيث يقف الزورق عنده ، والذي منه ستنطلق رحلة الصيد الى مكامن السمك في الهور.
مظهر القوة ذاك هو ما جعل ضبابة الشاعرة المجنونة أن تحوله الى صورة شعرية تنشدها بيتا من الشعر رددته بعدها نساء الصيادين النائحات على ذلك الرجل في مجلس عزائه : ( إلطمن صدوركن بقوة فقد مات مطنش الذي كان يحمل من المرادي سبعة دون أن تحدث صوتا ، وذلك لأنه كان لا يدع أحدها يضرب الآخر لعظيم قوة قبضته عليها !

- ( دقن حيل على مطنش ... يا شيال المرادي المايطقنش ! )

هكذا كانت ضبابة تتصرف مع الكبار من الناس ، بينما حملت بيديها أكثر من حجرة تخيف به الأطفال حيث لا يخيفهم الشعر ، فالويل كل الويل لطفل يعترض طريقها ، أو يمنع عليها قول الشعر ، وهو ينثال على لسانها دافقا مثل شلال ماء ساخن ينحدر من جبل شاهق ، تحث به القاعدين على النهوض من أجل الدفاع عن الوطن ، فهي حين تنظر ضحى الى جبهة السماء الغربية تشاهد حشود جيوش الأعداء المدججة بالسلاح قادمة من مكان بعيد يفصله عنها ، وعن أولئك القاعدين ، المتربصين ، مسافة بعيدة تتخللها بحار وصحارى شاسعة ، مثلما تفصله مساحة زمنية تصل الى سنوات عدة .
- انهضوا ! قوموا !
- جاءوا ! .. جاءوا !
من يجرؤ على تصديق امرأة مجنونة في وقت يصدق الناس فيه عاقلا كاذبا !؟ من يجرؤ على سماع كلمة حق من امرأة تلوذ عن قمع الكبار بالشعر ، وعن عبث الصغار بالحجارة !؟ سيتهم بالجنون كل من يحاول أن يقول : إن المجانين هم أولئك الذين أطلقوا على المحتلين صفة المحررين ، أولئك الذين جلسوا مع قطاع الطريق ، ولصوص النفط الذين حذرت منهم ضبابة الشاعرة المجنونة منذ سنين طويلة ، وها هي ترقد الآن في قبرها عظاما ، ولكنها تسخر من أولئك السفهاء الذين لم يهبوا للدفاع عن بيوتهم التي تنتهك صباح كل يوم ، أولئك الجبناء الذين صفقوا للأعداء طمعا بمنصب ، وبحفنة من مال هو في حقيقة الأمر مال أولئك الصيادين الذين تتدفق من أرضهم ينابيع النفط ، وتضئ دهماء ليلهم مشاعل الغاز المحترق ، أولئك يفتك بهم المرض ، ويقتلهم الفقر ، فهم على حال واحدة رغم دوران الأرض المتواصل ، ومنذ أن أبحر كلكامش من شواطئ أهوارهم باحثا عن سر الخلود ، هناك في بحار من مخاطر عميقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي