الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يشتري الحرّية بلقمة؟!

منذر بدر حلوم

2004 / 2 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


 غالبا ما يأتي الحديث على الحرية بصفتها مطلبا جماهيريا أو مطلبا اجتماعيا. والواقع, أن حجم الطلب يقدّر بالنيابة عن المجتمع بناء على تقدير آخر لمصلحة الأخير في الحرية. كما أن نفي الحاجة إلى الحرية أو الطلب عليها يتم بالنيابة عمّن يفترض أن تشملهم أو تحجب عنهم. للوهلة الأولى توحي هذه المقدمة بضرورة أن تعبّر أغلبية المجتمع عن طلب الحرية أو الحاجة إليها حتى لا تكون الحرية حالة قسرية, فتكون معادية لروح الحرية ومغزاها. إنما من شأن إمعان النظر في الطلب على الحرية أن يحيل إلى خصوصية هذا الطلب وفرديته. فالحاجة إلى الحرية مسألة شخصية دائما, وهي تعكس وعي الفرد لوجوده الثقافي, لكينونته الثقافية, ولعدم إمكانية تحقق هذا الوجود أو هذه الكينونة بمعزل عن الحرّية. ذلك أن الوجود الثقافي, يتشكّل خارج الضرورة البيولوجية أو بما يتجاوزها, وبالتالي خارج إملاءات الغرائز. وهو وجود منفتح, يكون انفتاحه بالحرية, ويكون تطوره متطلبا للمزيد منها ومشروطا بها. ومنه فلا معنى للحديث عن طلبٍ على الحرية خارج فردية هذا الطلب, وخارج مفهوم وعي الحاجة الثقافية إليه, و وعي ضرورة الوجود الثقافي للإنسان, في اختلافه عن الحيوان. بيد أن وعي الوجود الثقافي ومستلزمات هذا الوجود لا يتحقق ما لا يتحقق البيولوجي الغرائزي أولا, وليس بمعنى أسبقية الوجود البيولوجي على الثقافي, أو بمعنى عدم إمكانية وجود ثقافةِ كائنٍ حي ما لم يكن هذا الكائن موجودا, الأمر البديهي, إنما بمعنى أولوية الضرورات, وما يمكن أن تفضي إليه المنافسة والمزاحمة من طغيان وجود على آخر واضمحلال وجود لصالح الآخر, ناهيك عن الحالة التي تفضي إلى انتفاء الوجود مع انعدام مقوماته. ولكن, هذا يعني القول بسلّم ضرورات وبتراتبية الحاجات, وبارتباط وجود إحداها بالأخرى, كأن تتحّدد الحاجة إلى الثقافة, وبالتالي إلى الحرية بالحاجة إلى الغذاء والمأوى والملبس, فلا تكون الأولى ما لا تكون الثانية, أو تكون, إذ تكون, مشوهة تابعة لها. وعليه يغدو طبيعيا ألا تشغل حرية الرأي والتعبير, وألا يشغل تحقيق الذات ثقافيا أفرادا يشغلهم تأمين عناصر وجودهم البيولوجي. كما أن من الطبيعي أن يجد هؤلاء في الاشتغال على الحرية تعاليا على حاجتهم إلى اللقمة والمسكن والملبس, الأمر الذي يقودهم بالنتيجة إلى معاداة فكرة الحرية. فلا يجد المطالب بها فيهم أنصارا, ما لا يكون قادرا على ربط تحقق حاجاتهم وضرورات وجودهم البيولوجي بها. بل تجدهم يسخرون من الثقافة بمظاهرها وبمقولاتها المختلفة باعتبارها ترفا وتعاليا على المجتمع.
    معاداة الحرية لا تقتصر على مستوى تعليمي أو معرفي دون آخر, على الرغم من تحقق تربتها الخصبة في الجهل. فأنا أكاد أسمع مع كل لقاء بزميل لي, يعمل معي أستاذا جامعيا, كلاما ساخرا لاذعا بحق الثقافة والمثقفين وطلبهم الحرية, وألمح سخرية مبطّنة في عيني آخر يفضل الصمت. فنكون هنا أمام معاداة للثقافة ومطلب الحرية ليس من باب عدم تحقق الغرائزي أو الحيواني أو البيولوجي, إنما من باب الاكتفاء بالمستوى اللصيق بالبيولوجيا من الثقافة, الاكتفاء بتنوع اللذة وطرائق الحصول على المتع, الغذائي منها والجنسي وخلافهما, في ظل تحقق المادي الذي يتيح ذلك. أمّا الشعور بالحرية فلا ينقص هؤلاء. ذلك أن طرح مسألة الحرية يستوجب تحديد الحرية التي يدور الحديث عنها. فلا وجود لحرية مجرّدة, وهي إن وجدت لا معنى لها, على الرغم من أننا نستخدم في لغتنا اليومية الحرية دائما مسبوقة بأل التعريف أو معظَّمة بها. فقد ترى مهووسا جنسيا يقتصر طلبه من الحرية على إتاحة المزيد من النساء له, وتجد لصا أو مستغِلا يتحدد فهمه للحرية بحرية نهب الآخرين واستغلالهم, وتجد ثالث لا يعنيه من الحرية أكثر من حرية خرق القوانين وربما القواعد الاجتماعية..الخ. وهكذا, يمكن لأنواع مختلفة من الحرية أن تتحقق في مخالفات البناء ورمي القمامة في الشارع وفي النميمة وتناول خصوصيات الناس وفي التسيب الوظيفي وفي التعدي على حقوق الآخرين.. ومحققو هذه الحريات أو حائزوها يستغربون, في أقل الدرجات, أن يتم الحديث عن الحرية, يقولون لك: ها نحن نفعل ما نشاء ولا أحد يعترض طريقنا, ونقول ما نشاء ولا يحاسبنا أحد. وليست الحماقة هي التي توجه حياة هذه الفئة من الناس, إنما وعي الحدود, حدود حاجاتهم, وحدود الممنوعات.
    وعي الحدود و وعي الضرورة من أهم محدِّدات الحرية. وهنا نقع على الفرق بين الذين يطالبون بحرية حدودها حدود انفتاح العقل, وآخرين لا يعنيهم ما يقع خارج حدودهم الضيقة, الحدود التي تتحقق ضمنها حرية وجودهم البيولوجي ويتحقق ما يجعل الحيل الكافلة لهذا الوجود متاحة, بما في ذلك ما سبق ذكره من ألوان التحايل على الواقع. في هذه الفئة الأخيرة تجد الأنظمة التعسفية سندا لها, وهي بدورها تشكل سندا لهذه الفئة, من خلال خلق الظروف المناسبة لحرية الفساد والتعدي والتحايل على القانون والدس والنميمة..الخ ورعاية مظاهر الحرية هذه بجعل كل من ينتقدها عدوا للسلطة. وهنا ينشأ تحالف قوي معاد للحرية من السلطة التعسفية وغالبية المجتمع القائم على الفساد. فتركن السلطة إلى الراحة تاركة للمجتمع أن يحارب الحرية, ويتصدى لمطلب الحرية باتهام من يقول بها ويتبناها بالتآمر على مصلحة المجتمع, بل على مصلحة الوطن والتآمر مع الأجنبي الذي يرى في الحرية إمكانية تخريب الأوطان الصامدة, صمودا قائما على معاداة الحرية.
    يتعين الفرق بين أعداء حرية الفكر والتعبير, النشيطين منهم والسلبيين,- وهي الحرية التي أعنيها في البحث-, والقائلين بها, ليس فقط بموقع الحدود الشخصية والمساحة التي تشملها, بل وبنمطين من وعي الثقافة وأهمية الوجود الثقافي, وبالتالي وظائف الثقافة ودور المثقفين. فحين يتحدد مفهوم المثقف بالثقافة, بما هي وجود يكون به الإنسان كما يكون بالبيولوجيا, وبوعي صيرورة الإنسان الدائمة عبر الثقافة, الصيرورة التي يتجاوز فيها نفسه باستمرار إلى صيغ من وجوده أكثر تطورا, تكون الحرية الضامنة لهذه الصيرورة شرط وجود. وهنا يقوم الفرق على تناقض مبدئي بين البيولوجي والثقافي, تناقض يعود إلى ضرورة انغلاق الأول وانفتاح الثاني, ضرورة انضباط الأول وانفلات الثاني إلى جميع الممكنات. انغلاق البيولوجي يأتي من ضرورة ضمان حدود الكائن البيولوجية, فلا يعقل أن يكون الكائن في حالة تحول عضوي دائم من نوع إلى نوع آخر, كما أن انفتاح الثقافي يأتي من ضرورة ضمان الوجود الثقافي الذي وإن كان يتعين بالبيولوجيا إلا أنه يتعين أكثر بالوسط المحيط بكل ما فيه من ممكنات يشير إليها الوجود أو يضمرها أو يغفلها. أي أن الوجود الثقافي لا يكون دون حرية البحث عن هذه الممكنات ومطاولة الآفاق, في عملية تنظّم ذاتها, فلا تكون مقيدة بحدود ثقافية مسبقة, ذلك أن فكرة الثقافي هي فكرة تجاوز كل الحدود, بما في ذلك البيولوجية منها, وتجاوز الأخيرة نشهد محاولات عليه اليوم في علم التقانات الحيوية.
    وعليه فإن الطلب على الحرية, بصفتها شرط وجود للثقافي, يتعيّن بوعي طبيعة الوجود الثقافي نفسه ويتحدد به. فثمة من يعدّ الوجود الثقافي وجودا معطى, مثله كمثل الوجود البيولوجي, كان أن تم مع انتهاء الخلق, ثم كان التصريح عنه وعن أقصى آفاقه وممكناته في الرسائل السماوية, إلى أن كان إغلاق باب التنزيل على يد الإسلام. وبالتالي فلا معنى للحديث عن انفتاح الثقافي وعن حاجته إلى الحرية, حيث لا صيرورة ولا ضرورة إلى ما تصير به. فللوجود الثقافي, هنا, طبيعة الوجود البيولوجي ذاتها. فلا يقوم بالتالي فرق بين طبيعة الضرورات والحاجات البيولوجي منها والثقافي. ولذلك تجد, هنا, دفاعا مستميتا عن حق ممارسة العقائد بصفتها ثقافة منزّلة, دفاعا لا يقل درجة عن القتال في سبيل اللقمة. وهكذا فالحرية التي تتعين, هنا, بممارسة المغلق والمنتهي لا تنزع إلى الإفصاح عن غيره. بمعنى أنها لا تكون حرية تعبير عن المختلف والمتمايز والجديد والممكن والمفتوح على مجهول, وبالتالي التعبير عن قيمة المجهول, الأمر الذي تلعنه الأديان بصفته ظلاما وشيطانا أو محمولا على شيطان. وكمثل العقائد الدينية المغلقة تكون العقائد السياسية المغلقة, التي تقول بمعطى أيديولوجي تتحدد الحرية بالسعي إليه ونشدانه, فلا تكون حرية. فهل يكون حَمَلة هذا الوعي على حياد من مسألة حرية التفكير والتعبير والحريات الأخرى الضامنة لها؟ أم يكونون أعداء لها, تلقائيا, فيكونون خدما للطغيان وللأنظمة الاستبدادية على اختلاف مسمياتها؟
    لمّا كانت حرية التعبير, التي تعنى بها هذه المعالجة, ترمي إلى التعبير عمّا ينفي المغلق والمنتهي والمعطى, وتقول بالخاضع للصيرورة والمفتوح على شتى الاحتمالات والإمكانيات, وقعت هذه الحرية, بالضرورة, في تضاد مع الوعي الذي يقول بثقافة مغلقة وبضرورة الحرية للتعبير عن مغلق, بصرف النظر عمّا يطلق على هذا الوعي وتلك الثقافة من مسمّيات, وبصرف النظر عمّا يمكن أن تدعيه من انفتاح على التطور. فثقافة الانغلاق أشبه بحياة في مستنقع يتحدد أقصاها بما فيه من أكسيجين, فلا تقول بغيره ولا تؤمن بما لا يكونه كي تسعى إليه, فتكرّس بنشاطها استنقاع المستنقع. وهكذا يكون حملة هذا الوعي أو أصحابه أعداء للحرية, ومناهضين لها وللمدافعين عنها, بالضرورة, حتى ولو لم يعوا ذلك. فليس من شأن الحرية التي يقول بها الانفتاح أن تتوقف عند حدود الثقافي القائم, ولا يكون الحال مع العقائد الدينية أو العقائد السياسية بصفتها ثقافة غير ذلك, كما ليس من شأن التبعية التي يقول بها الانغلاق أن تتقبل ما يطاول حدود مقدسها السياسي أو الديني. وهكذا يتشكل, تلقائيا, حلف ضد الحرية, ويقل الطلب الاجتماعي عليها, لينحصر في حدود ضيّقة. فمن هم القائلون, على الرغم من ذلك كله, بالحرية قيمة إنسانية عليا, المستعدون لدفع حيواتهم ضريبة لها؟
    تتعلق الإجابة عن هذا السؤال بشرطين؛ أولهما وعي شرط الوجود الثقافي للوجود إنسانيا, وثانيهما وعي صيررورة هذا الوجود, وبالتالي ربط أو تحقيق الذات بالتعبير عن هذا الوجود الثقافي في صيرورته, أي في انفتاحه على جميع الاحتمالات الممكنة وليس في اكتماله ونجوزه وكينونته. أمّا ربط الوجود الشخصي بممارسة هذا الوعي فسمة المبدعين الذين يشاركون الآلهة قدرتهم على الخلق, فلا يكون لوجودهم معنى ما لا يكونوا قادرين عليه. وهكذا فالحرية التي تكون شرط تحقق الذات الثقافية تكون شرط وجود للمبدعين, بل يكاد لا يكون لوجودهم البيولوجي معنى دونها, في الوقت الذي يكون فيه الوجود البيولوجي كافيا لكثيرين, والوجود الثقافي المغلق نعيما للأغلبية.
    وهكذا نكون أمام قلّة قليلة تعنى, حقيقة, بالحرية, وأغلبية ساحقة لا يعنيها من الحرية إلا حرية كينونتها, حيث(المال والبنون)شرطا الوجود. ولكن, هل يعني ذلك عقم المطالبة بحرية التفكير والتعبير لقلّة أنصارهما, وصعوبة كسب أنصار جدد في مجتمعٍ الانغلاقُ العقائدي من أهم سماته؟
    أولا, فيما خلصنا إليه, تبدو السلطات التعسفية, السلطات التي تضيّق على حرية التفكير والتعبير أصيلة في مجتمعاتها, منسجمة مع روحها. وبالتالي فلا يكون لمطلب الحرية وزنا كبيرا في استنهاض الناس ضد التعسّف في هكذا مجتمعات, ما لم تكن الحرية المعنية بالاستنهاض من طبيعة أخرى تمس جني اللقمة أو ممارسة المعتقد. بيد أن إنشاء حلف على مفهوم موسع كهذا للحرية, يعني بالضرورة حتمية انقلاب الحلفاء بعضهم على البعض الآخر, بمجرد النجاح في كسر صورة التعسف القائمة. ذلك أن التضاد كامن في طبيعة الحريات المنشودة: حرية الإغلاق مقابل حرية الفتح. وتبقى اللقمة, أو الحرية الاقتصادية خارجهما, وتكون ممكنة معهما معا, لو تجاوزنا تجربة المعسكر الاشتراكي السابق مع المعتقد السياسي المغلق. ولكن, هل يعني ذلك التسليم بالتعسف, التسليم بإمكانية تنحصر في استبدال سلطة تعسفية بأخرى, وبحلم بشري لا يتجاوز حدود استبدال صور الطغاة؟
    معظم الناس, كما يبدو لي, ينشدون العدالة أكثر مما ينشدون الحرية, ينشدون العدالة حتى في التعسف وانعدام الحرية. والحلم البشري بالعدالة, من حيث أن الأديان تقوم عليه (العدالة على الأقل بين أبناء الدين الواحد), والكثير من أيديولوجيات التغيير تقوم عليه, ما زال قادرا على استنهاض الناس وسيبقى كذلك ما بقي الحلم وبقي معه نداء في السماء ونداء في الأرض يدعوان إليه. بيد أن العدالة, كما يراها الكثيرون للأسف, لا تقتضي الحرية, وهذا ما يجعلها مقولة قادرة على استقطاب أنماط مختلفة من القائلين بحريات مختلفة, ويجعل القول بها ممكنا حتى تحت التعسف. فلا يبدو غريبا أن يقال: طاغية عادل, حين يتراءى لضحاياه عادلا في ظلمه, يساوي بينهم بالعقاب الجائر. لكن تفحّص هذه المقولة سرعان ما يبين أنها تعكس جوهر القبول بالظلم, بل المطالبة بأن يشمل الآخرين طالما هو قائم ولا سبيل إلى رفعه, وبالتالي قبول الدفع بالآخرين إلى ساحة الجلاّد, دون النهوض ضد الظلم. وهذا الموقف, ينطوي على قبول بمفهوم الضحية الذي يتعالق الناس فيه بسلسلة قد تنتهي بالطاغية نفسه إلى أن يكون ضحية. ومع ذلك يبقى نداءُ العدالة نداءً يمكن أن يستقطب غالبية الناس, وربما يكون الوحيد في قدرته هذه. أمّا نداء الحرية, ومطلب الحرية فلا يكون كذلك. ونحن لا نتحدث, هنا, عن تحرير الأوطان من حكم المستعمرين وقوى الاحتلال. الأمر الذي يستوجب قراءة أخرى.
    وهكذا تبدو الحرية مقولة اختلاف وبالتالي تفريق أكثر مما هي مقولة اتفاق وتوحيد. ذلك أن الحريات المنشودة تتباين بتباين وعي الوجود الشخصي وأولوياته. ومع ذلك فثمة غالبية تتوحد على التعيين سلبا بحرية الفكر والتعبير. ومن حيث أن الأخيرة لا تشغل وجودها, أو لنقل لا تقع في حقل ضروراتها, فإنها تتقبل الطلب الخارجي على هذه الحرية, سواء أتى من جهة السلطة أم جهة المعارضة, إذا ارتبط هذا الطلب بمفهومها للحرية, أي إذا تعيّن بما يحقق وجودها البيولوجي والمستوى اللصيق به من الثقافي. بيد أن الممكن نظريا, المتمثّل بتبني حريّة المعارضة, يتحدد عمليا بالخوف والعنف الممارس من قبل السلطة التعسفية لإلغاء الحرية. وإلا لما كان للمطالبة بالحرية معنى.وعليه فإذا بقينا في حدود الممكنات النظرية نجد إمكانية أن يتبنى العامّة مطلب الحرية إذا تبدّى لهم فيها حقهم بالمطالبة بظروف حياة أفضل, أو إذا رأوا فيها حرية التعصب لعقيدة دون الأخريات وللقائلين بها دون الآخرين.
    ومن الواضح أنّ ما يسمى بالحرية, هنا, يتحدد بالطلب الخارجي أكثر مما يتحدد بالطلب الداخلي, مما يجعل مطلب الحرية, في مثل هذه الحالات, شعارا تقول به سياسات مختلفة, ويلتف حوله أنصار مختلفون, أنصار غالبا ما يكون مؤدّى ما يعنيهم من الحرية مضادا لحرية الفكر والتعبير التي قد يهتفون مطالبين بها بحماس. ومنه, فلا يعود غريبا أن تبدو السلطات التعسفية, أحيانا, في تحولاتها وانسلاخاتها المختلفة, وتبديل أقنعتها, سابقة لـ(الجماهير) في طرح الحاجة إلى الحرية أو ضرورة الحرية, الأمر الذي يمكّنها من تعيين هذا الطلب وتحديده بشروطها الخاصة, مولِّدة مقولات مثل الحرية المقننة والحرية المسؤولة والنقد الإيجابي..الخ..التي لو شرحناها لظهر لنا بيسر مضمونها المضاد لفكرة الحرية. مما يجعل الحرية مطلبا يراد به المزيد من القيود.
    مما سبق يتضح, بصورة ما, أن الحرية بالنسبة لـ(الجماهير) تعني التخلي عن قيد لصالح قيد آخر, أو التنازل عن ولاء لصالح ولاء غيره. ولكن, ما أصعب أن يتخلى المرء عن معلوم لصالح مجهول! وما أصعب أن يتخلى عما تكيف معه وألِفه لصالح ما يجب بذل الجهد لفهمه والتأقلم معه! ولذلك تجد الناس محافظين حيال الجديد, بصرف النظر عن طبيعة هذا الجديد, متمسّكين بالقديم, بصرف النظر عمّا قد يسببه لهم هذا القديم من ضيق. وليس خافيا أنّ مفهوم القديم يشمل كل ما ألفوه من قوالب جاهزة وصيغ مسبقة ومسكوكات و ولاءات, بل كل ما يتعلق بنمط حياتهم اليومية, ومصادر قوتهم التي يستندون إليها أو يتوهّمون وجودها, ومثلها مصادر الخطر..الخ. وهنا, يبدو أنّ غريزة البقاء تلعب دورا هامّا في انتخاب الأولويات الثقافية, وبالتالي إهمال تلك التي لا يبدو أنها تمس الحياة البيولوجية بالمعنى المباشر. فتوجس الشر في كل جديد والحذر منه, ورد الفعل الأولي الرافض لكل مجهول هي من إملاءات غريزة البقاء, أو من طبيعتها في أقل تقدير. ولذلك تكون الخطوة الأولى في سيرورة القبول مشروطة بإثبات عدم خطورة الجديد المجهول, ومن ثم قابلية التعايش معه, وبعدها إمكانية الاستفادة والإفادة منه, وبالتالي تكييفه أو التحكم به بدرجة ما من الدرجات. ولذلك تكون المجتمعات التي تنتقل من نظام تعسفي إلى نظام تقول قواه المحرّكة بالحرية والديمقراطية, تكون قابلة للارتداد إلى الوجود الاجتماعي الذي تكيّفت مع ما فيه من معاناة, والالتفاف حول قيودها السابقة, خاصة حين يسوء الوضع الحياتي, أي حين يسفر الجديد عن خطر على الحياة, أو يوحي مجرّد إيحاء به. وهذا ما يكون, للأسف, سمة من أهم سمات المرحلة الانتقالية, مرحلة التحول من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي. فالقاعدة الشعبية التي يأتيها الطلب على الحرية من فوق وتلتف حوله أملا بأن يحسّن القائلون به من ظروف معيشتها لا تبدو مستعدة لدفع أي ثمن من أجل التغيير, فترتد إلى السابق الآمن, على ما فيه من جور وجوع, وتقول بفضائله قياسا بالمعاناة التي لا فكاك منها في المراحل الانتقالية. ولما كانت أية عملية تغيير, بما هي عملية بناء للجديد, عمليةً تترافق, بالضرورة, مع هدم القديم, هدمه بدرجةٍ تتحدد  بما تصبو إليه قوى التغيير من تغيير, فإن مقاومة الهدم بما فيه من خلخلة لمرتكزات الوجود الاجتماعي التي يقوم عليها الوجود البيولوجي تكون نتيجة طبيعية يصعب توقّع غيرها في المجتمعات المغلقة المحافظة, فكيف إذا رزحت الأخيرة تحت سلطة سياسية تعسفية! أما هذا القيد الأخير الذي لا يعمل, بحال من الأحوال, لصالح الحرية, فيأتي من مقاومةِ ليس فقط التضحية بمرتكزات الوجود الاجتماعي التقليدي, المحافظ, المغلق, بل والمساس بها, مما يخلق تغذية راجعة لصالح الاستبداد والتعسف, وبالتالي التضييق على الحريات التي تؤدي بالضرورة إلى زعزعة الواقع القائم والمفاهيم التي يقوم عليها.
    أمّا الشعور بـ(التورط) في عملية التغيير, والخوف الذي قد يرافق ذلك من التوغل أكثر في الجديد المجهول, وبالتالي الرغبة في التراجع, فيترك من يعانيه معلّقا بين ماضٍ آمن, من حيث أن قواعد العيش فيه محددّة ومعلومة جيّدا, وحاضر لا يفصح إلا عن قلق الانتظار ورهبة التوقع وخطر المجهول الممكن. فيكون الخلاص على المستوى النفسي في تقديس الماضي الذي يساهم غليان التغيير في جعله يبدو نعيما لاوجود فيه للبؤس والمعاناة, وهذا يدفع حتى معارضي الطغيان إلى القول بفضائل الطاغية بعد إسقاطه, ناسين أنّ معاناتهم من طبيعة البنيان الذي أشاده والذي لا يمكن أن ينتهي إلى غير السقوط وما يرافقه من هدم وزعزعة لقواعد الحياة. أمّا تقديس الماضي ورموزه فيترافق بالضرورة مع معاداة الحاضر وعدوانية تجاه المستقبل. وهكذا, يجد المتمسكون بقيودهم السابقة, بصفتها مقدّسة, هذه المرّة, يجدون في مقاومة الجديد ما يؤكد حريتهم. ولا يكون على الجديد إلا القبول بما يبدونه من مقاومة بصفته ممارسة للحرية. فمن غير اللائق ومن غير المقبول أن يقوم الجديد القائل بالحرية بتقييدها أو الحجر عليها كـ(حرية) وإن كانت لا تلائمه.
    وهكذا, لا ينتهي ما سبق من معالجة إلى غياب الطلب الاجتماعي على الحرية, فقط, إنما إلى واقع يكون الدفع الاجتماعي فيه باتجاه التعسّف متضمنا في روح الحاجات الاجتماعية البعيدة عن الثقافة وضروراتها. وهنا تجد القوى الاجتماعية الفاعلة, قوى السلطة والمعارضة, نفسها أمام إغراء التعسف الذي تصعب مقاومته, خاصة حين يترافق مع إغراء المستقبل الذي تقول قوى الحرية أو القوى المطالبة بالحرية بأنه سيقوم على الأخيرة ويزدهر بها, وتقول السلطة إنه سيكون لها أبديا طالما تحدد وجود غالبية الناس بالطلب على الحاجات الأساسية وعلى المتع المرتبطة بها أكثر من الطلب على الحرية.
    ولما كانت السياسة مقولة غير أخلاقية, وليس بمعنى أنها تتحدد بالأخلاق سلبا, إنما بمعنى أنها لا تعنى بالمقولات الأخلاقية بمقدار ما تعنى بمفهوم المصلحة, فإن الوصول إلى الغايات أو تحقيق الأهداف كثيرا ما يكون بأساليب تتناقض والأهداف المنشودة أو يترافق معها, كحرية يلتسين وديمقراطيته التي ترافقت مع قصف البرلمان. أمّا إغراء الأهداف, بل ويمكن القول عماء الأهداف, فيجعل الساعين إليها يستهلكون مقولاتهم في الطريق قبل الوصول وما أن يصلوا حتى يكونوا قد استهلكوا أنفسهم أيضا. وهكذا, تستهلك المراحل الانتقالية دعاة التغيير الفاعلين فيها الذين يتكشفون عن غير ما قالوا به ونشدوه, تستهلكهم لصالح غيرهم ممن يكون فيهم من النظام السابق أكثر مما من الجديد. وربما يكون في مثال تراجع القوى الليبرالية في روسيا لصالح أحزاب تقوم على الكثير مما كان في الماضي وتقول به وتنشده وإن بصور جديدة, ما يؤكد استهلاك التغيير لدعاته وتخلي أنصاره من (الجماهير) عن طلب الحرية, الذي تبنّته يوما رابطة إياه باللقمة, لصالح أشياء ألصق بحياتها اليومية وبرموزها ومقدساتها. ويعود ذلك, على الأرجح, إلى أن الحرية تأتي, في ظل غياب الطلب الاجتماعي عليها أو في حال ضعفه, حالةً قسرية خارجية تريدها قوى التغيير قيمة بذاتها,- وليس المعني هنا متزعّموها الذين غالبا ما يريدون منها السلطة التي ليس بالضرورة تضمن الحرية-, بينما يحمّلها أنصارها مشاريع أحلامهم, وتحمّلها الجماهير لقمتها ومسكنها وملبسها ونعيمها, وعموما يحمّلها كل معني بها ما يريده لنفسه منها, فإذا بها ورقة سياسية ضعيفة أمام أوراق كوبونات المواد الغذائية.
    فهل نخلص مما سبق إلى أن تكون الغلبة للمشروع الثقافي في السعي إلى الحرية على المشروع السياسي؟ وإذا كان الأمر كذلك, فما هي نقاط الارتكاز فيه؟
    لعل الشخصية تكون أهم نقاط الارتكاز, من حيث أنها تكون مقولة حرية,  ومن حيث أنها, انطلاقا من ضرورتها الذاتية, تفضي إلى واقعٍ, الحريةُ من أهم مقوماته.(أنظر مقالنا: مشكلة الشخصية, المنشورة على الحوار المتمدن ,في 17/01/2004) فيكون في بناء الشخصية إنجاز للحرية بصرف النظر عن السعي السياسي المباشر إليها, أو حملها شعارا يبنى عليه التغيير. فالحرية لا تترسخ في المجتمع ما لا تحمل علىالشخصية , وإلا فإنها سرعان ما تسقط لصالح قيود الغرائز وضروراتها. أمّا الشخصية فمن ملامح تحققها, بصفتها مقولة حرية, وقوف الإنسان أمام نفسه وربما أمام الوجود متسائلا: أيعقل أنني أعيش فقط لآكل وأشرب وأنجب وأَعبُد؟! إذا كنت لا أستطيع أن أعبّر عن وجودي بطريقة أخرى فالحياة غير جديرة بالحياة. بيد أن الشخصية نفسها لا يقوم لها قائم دون حرية. وهكذا نجد, نحن المستبد بهم وبنوافذ مستقبلهم ومستقبل أوطانهم, أنفسنا في حلقة مغلقة أشبه بدوامة الفناء الذاتي, حلقة لا يكون الخروج منها إلى الحياة إلا بكسرها.
           اللاذقية , في 23/02/2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟