الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل هناك سينما إسرائيلية نقدية؟..

بشار إبراهيم

2008 / 10 / 31
الادب والفن


شكل مهرجان «أوسيان للسينما العربية والآسيوية»، المنعقد في نيودلي في الفترة ما بين 10 – 20/7/2008، فرصة مثالية لمشاهدة مجموعة من الأفلام الإسرائيلية، التي نالت شهرة وحضوراً عالميين واسعين، خلال السنتين الأخيرتين؛ فرصة يحتاجها المشاهد العربي، ربما أكثر من الجمهور الهندي.. فسواء أكان الأمر من باب «اعرفْ عدوك»، أو من باب معرفة ماذا يجري على الضفة الأخرى من خنادق المواجهة، فإن الإنسان العربي يحتاج لمعرفة الصورة الحقيقة للعدو الإسرائيلي، خاصة وأن واحدة من أكبر مآسينا طيلة الستين سنة التي مضت من عمر الصراع العربي الإسرائيلي، تكمن في أننا بنينا صورة لهذا العدو، ليست بالضرورة هي الصورة الصحيحة، ومع ذلك قد قمنا بمقاتلة هذه الصورة التي صنعناها، فما أنجزنا سوى الخيبات المتتالية، المتجلية على هيئة نكبة، ثم نكسة، ثم اجتياح، ثم حصار، ثم..
يبدو لي أحياناً أننا إنما نقاتل الصورة التي صنعناها عن العدو الإسرائيلي، ولسنا نقاتل العدو نفسه!.. إننا نقاتل عدواً افتراضياً، لا نعرف عنه ما ينبغي، وبالقدر الكافي، فلا نقدر على مصارعته في ميادين القتال، ولا منافسته في مجالات العلوم والثقافة والفنون، ولا مجاراته في الإعلام، والتأثير في الرأي العام العالمي.. إننا نتوهّم مقاتلته، ونترقّب لحظة انتصارنا عليه، في الوقت الذي نتركه يسبقنا في ميادين ومجالات، ونحن قانعين أن الحتمية التاريخية سوف تأتي لنا بالنصر، طال الزمن أم قصر!..
بدأ الصراع العربي الصهيوني على هيئة صراع على «الرواية» لكل طرف، على حد تعبير د. إداورد سعيد، الذي رأى أن القضية الفلسطينية تمثل في أحد أوجهها «صراعاً بين ذاكرتين، أو توليفتين تاريخيتين للذاكرة، أو نوعين من المخيلة التاريخية».. ثم آل الصراع إلى صراع على «الصورة»، كما نعتقد نحن، راهناً.. وفي الوقت الذي انشغلنا بإقناع أنفسنا بـ «روايتنا»، مرة تلو أخرى، لم ننتبه إلى «الصورة»!.. صورتنا نحن، وصورة العدو.
اهتم الاسرائيليون منذ البدء بالصورة. ليس صورتهم فقط، تلك التي شرعوا مبكراً برسمها، وتعزيزها، وتسويقها.. بل بصورتنا نحن أيضاً.. لقد قاموا بمراقبة صورتنا بتأنٍ وتأمّل، وساهموا في رسم جوانب منها، مدعومين بوسائل الإعلام الغربية، وتراثها العدائي تجاه العرب والمسلمين، وربما تجاه الشرق كله!.. ومستفيدين من تقصيرنا نحن في تظهير صورتنا، كما ينبغي..
مما لاشك فيه أن التحولات والتغييرات قد جرت على آلية ومنطق رسم «الصورة» التي اعتنى الإسرائيليون برسمها عن الآخر الذي هو نحن، ليس بفعل العديد من الظروف والمستجدات التي حصلت في مجرى الصراع، ومساراته، فقط، بل أيضاً نتاج التطورات التقنية، وثورة الاتصالات.. فخروج إسرائيل من مستنقع الخوف وإدعاءات «الرمي في البحر»، والوثوق من عدم قدرة العرب، جميعهم وفرادى، على تحقيق شعارات «التحرير من البحر إلى النهر»، لم يكن كافياً وحده لهذا التغيير الذي جرى على الصورة، لولا دخول العالم كله في «زمن الصورة»، وانتشار الفضائيات، وشبكة الانترنيت، وسرعة وسهولة الاتصالات، و«العالم القرية الصغيرة»!.. ففي زمن كهذا لم يعد من الممكن، أو المنطقي، الركون إلى رسم صورة العربي والمسلم على الهيئة المعتادة في الإعلام الغربي، منذ أول رحلة استشراق..
كما أن إسرائيل ذاتها، ومن جهتها، وجدت نفسها أمام استحقاقات دفع أثمان انتصاراتها المتتالية!.. لقد أقامت دولتها، وحققت تفوقها، وأمنت جانب العرب.. فماذا بعد؟.. من مفارقات الواقع، وتحايلات التاريخ، أن المنتصر، ومن حيث لا يريد ولا يرغب، يحمل أعباء المهزوم، تماماً كما القاتل يحمل رزء ضحيته، التي تبقى تطلُّ، إن لم يكن برأسها، فبأشلائها، أو بآخر نظرة جمّدها الموت في عينيها.. هكذا لن يفر المنتصر من المهزوم، ولن يتخلص منه، حتى وقد دمّره، كما لن يستطيع الجلاد الفرار من ضحيته، حتى وقد قتله..
في ذروة انتصارات إسرائيل العسكرية والسياسية، نشأت بين ثناياها تيارات سياسية داعية إلى «السلام»، ومنح العرب والفلسطينيين شيئاً من الحقوق!.. وفي غمرة تغنّي أفلام السينما الاسرائيلية بالانتصارات المتحققة في ميادين الحرب، وإقامة الدولة الحلم، وشعارات تحويل الأرض اليباب إلى جنة «اللبن والعسل»، طيلة العقود الثلاثة الأولى من مشروعها الاستيطاني الإجلائي الإحلالي، بدأت أفلام إسرائيلية مغايرة، تظهر بين الحين والآخر، خارج سرب التغني والتمجيد، هذا..
كان مساراً معقداً، ملتوياً، وغامضاً.. وذلك قبل الوصول إلى تلك اللحظة التي تسميها الباحثة إيلا شوحاط «التمثيل الذاتي للفلسطينيين في السينما الإسرائيلية». قبل تلك اللحظة، وحين لم يكن من الممكن، في فيض العنجهية الصهيونية، أن يظهر الممثل الفلسطيني لأداء دوره الواقعي على الشاشة، كان من المعتاد في السينما الإسرائيلية أن يتم إسناد أدوار العرب والفلسطينيين إلى ممثلين من اليهود الشرقيين.
فيما بعد، ومع تقدم مسيرة «التمثيل الذاتي للفلسطينيين في السينما الإسرائيلية»، وإدراك الممثلين الفلسطينيين أنهم لا يقومون بالتمثيل الفني في المشهد السينمائي فقط، بل يمثلون هويتهم القومية، سعى عدد من الممثلين الفلسطينيين إلى إجراء تغييرات وتعديلات على مسارات بعض سيناريوهات الأفلام الإسرائيلية، أو نهاياتها، على الأقل، كما عندما قام الفنان الفلسطيني الكبير محمد البكري في فيلم «وراء القضبان» إخراج أوري باباش، بتغيير نهاية الفيلم، وكما فعل الفنانان يوسف أبو وردة وسلوى حداد في تغيير أحد مشاهد فيلم «جسر ضيق جداً» إخراج نسيم دايان.
كانت تلك البدايات، التي جاءت بعض محاولات جنينية ومحدودة، ولعل فيلم «قرية خزعة» للمخرج رام ليفي 1978، سيُعدُّ أول محاولة نقدية من قبل السينما الإسرائيلية تجاه مفردات الصراع العربي الإسرائيلي. وقد أثار الفيلم عند عروضه الأولى، كما أوردت شوحاط، غضباً جماهيرياً، حتى بين الدوائر الإسرائيلية «الليبرالية»، وأدين هذا الفيلم بتهمة الدعاية لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن، فيما بعد، ومنذ الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وحصار بيروت 1982، تتالت الأفلام الإسرائيلية، من هذا النسق المفارق، نذكر منها على سبيل المثال: فيلم «الخماسين» لدانييل فاكسمان 1982، وفيلم «وراء الجدران» لأوري باباش 1984، وفيلم «ابتسامة الحمل» لشيمون دوتان 1986، وفيلم «ايفانتي/ بوبولو» لرافي بوكاي 1986، و«رفاق السفر»، ليهودا نيمان، و«جسر ضيق جداً» لنسيم دايان، وغيرها..
تنتبه إيلا شوحاط إلى «أن اعتراف هذه الأفلام الجديدة بوجود الفلسطينيين، لا يتعدى مفاهيم الإجماع الصهيوني، بل وتعكس مفاهيم حركة السلام الآن، في الصهيونية الواقعية، التي تعترف بالوجود القومي الفلسطيني، من خلال الحدود الآمنة، مع غموض في كل شيء يتعلق بمصير القضية الفلسطينية»، مع أننا نعرف أن أحد الركائز الأساسية في مفاهيم الاجماع الصهيوني، كان يتمثل بالانكار التام لوجود أي شيء اسمه فلسطيني، على الأقل كما عبّرت غولدا مائير ذات وقت!.. وبالتالي فإن هذه الأفلام تتماس مع أحد الركائز الصهيونية، والتغييرات الحاصلة، والتي لم تتجاوز حدود الاعتراف بشيء اسمه فلسطيني، متبوعاً باستدراك يتمثل بـ «ولكن»!..
من جهة ثانية، يمكن النظر إلى هذه الأفلام، وهي تتحول إلى ما يشبه تيار أو سياق، على إنه نوع من السعي نحو صورة «إسرائيل العاقلة»، التي عليها أن تتخلص من مأزقها الذي بنته بانتصاراتها العسكرية، ونكرانها للفلسطينيين، وجوداً وحضوراً وحقوقاً.. وطبعاً دون أن تمسّ هذه الأفلام شيئاً من أركان وجود إسرائيل، وقوتها، وتفوقها.. فتعيد شوحاط التأكيد قائلة: «على الرغم من أن هذه الأفلام كانت تقدم صورة أكثر تقدمية، داخل الإطار التاريخي لتمثيل إسرائيل للصراع، إلا أنها في النهاية قُدِّمت داخل الإطار العام للفكر الصهيوني، أكثر منها تعبيراً عن رؤية أيديولوجية واضحة».
هذه الأفلام لم تخرج عن الإطار الصهيوني العام!.. نعم، وهذا ما كان أدركه الفنانون الفلسطينيون الذين عملوا في هذه الأفلام، وربما قبل غيرهم. ينقل الناقد المصري أمير العمري، في كتابه «سينما الهلاك»، وفي وقت مبكر، عن الفنان الفلسطيني الكبير محمد البكري، قوله عن المخرج الإسرائيلي أوري باباش، مخرج فيلم «وراء القضبان»، وعلى الرغم من أنه استجاب للتغيير الذي أراده البكري لنهاية الفيلم، فيقول: «أوري بارباش مخرج جيد جداً، وصهيوني جداً جداً كذلك».. مما يعني تماماً أن الفنانين الفلسطينيين، الذين اشتغلوا في السينما الإسرائيلية، لم يساورهم الشك أبداً في جذرية هولاء السينمائيين الإسرائيليين، الذين عملوا معهم، أو ترددهم في الإجابة عن سؤال صهيونية السينمائيين الإسرائيليين هؤلاء، من عدمها، بل كان الأمر يتجه عندهم نحو تبيان أين يقف هذا السينمائي الإسرائيلي، أو ذاك، على قوس الطيف الممتد بين الصهيونية الأيديولوجية، والإسرائيلية البراغماتية.. أي بين موقف الإنكار التام والوقح للوجود الفلسطيني، من جهة أولى، وموقف النظر إلى وجود فلسطيني ما، لا يمس بركائز وجود إسرائيل، أو قوتها، أو منعتها، أو ديمومتها، أو استمرارها، من جهة ثانية.. ولكن أيضاً دون الرضى التام عن ممارسات إسرائيل، ومواقفها، تجاه ذاك الوجود الفلسطيني الـ «ما»!..
وإذا كان ثمة من يقول إن هذه الأفلام تريد تقديم صورة «إسرائيل العاقلة»!.. أي صورة إسرائيل التي ينبغي عليها أن تتخلص من حماقاتها الأيديولوجية، النابعة من صهيونيتها، والتخلص من الحماقات الإسرائيلية، التي ترثها بسبب نشوة انتصاراتها العسكرية المتتالية.. فهنا يبرز السؤال المتشابك، والمتفرع إلى العديد من الأسئلة الشائكة، تلك التي تبدأ من: هل ثمة وجود لـ «إسرائيل عاقلة»؟.. أو هل يمكن أن توجد «إسرائيل عاقلة» من حيث المبدأ، حتى نتناقش بشكل أو أشكال صورتها؟.. وهل من مصلحة للفلسطينيين، أو العرب، الاحتفاء بهذه الصورة، إن وُجدت؟.. أم على الفلسطينيين والعرب بذل كل ما يمكنهم لإثبات عدم إمكانية وجود «إسرائيل عاقلة»؟.. بل هل الواجب (الوطني الفلسطيني، والقومي العربي)، يستدعي نكران وجود هذه الصورة، مهما حاولت، والاكتفاء بالصورة التي كنا قد صنعناها عن هذا العدو، مرة واحدة، وإلى الأبد؟..
بشكل آخر، وفي اتجاه مواز، وفي محاولة للبحث عن المرجعية السوسيولوجية لهذه الأفلام، ثمة من يرى أن هذه الأفلام إنما «تعكس الحيرة والتشويش لدى جيل الصابرا، تجاه تحقيق وجود الآخر/ الفلسطيني، كضحية».. وهذا ما يدفع بالحديث عن «جيل الصابرا» إلى الواجهة، ففي التعريف: «جيل الصابرا» هم اليهود الذين وُلدوا على أرض فلسطين، وفي إطار دولة إسرائيل، وبالتالي لم يعرفوا وطناً لهم غيرها، ولا يرجع ارتباطهم بها لعقيدة دينيٍّة، أو لإيمان بالصهيونية، وإنما لأنهم وُلِدوا في إطارها، ولا يعرفون بلداً غيرها.. وبالتالي ثمة من يرى أن جيل الصابرا هذا يضع «إسرائيليته» قبل «يهوديته»، وهم وفق أدنى الاحصائيات يشكِّلون نسبة 63% من السكان في إسرائيل.
وفي الدراسات السيكولوجية، وبالاستعانة بالعديد من المصادر، نجد الاتفاق على أن ثمة خصائص تميز جيل الصابرا، منها: «الانطوائية، والكآبة، والتشكك، والتشاؤم، والشعور بالدونية، والعدوانية، واللامبالاة، والبرود الانفعالي، والإحساس بالفشل، والحساسية المفرطة للنقد، والحاجة إلى المديح والإطراء، وخشونة المظهر والعدوانية».. وهي صفات جميعها ترتبط بافتقاد الأمن. كما أن دراسات أخرى، وجدت أن «جيل الصابرا» بما له من تجربة اجتماعية مختلفة عن اليهود الذين هاجروا إلى اسرائيل (أي جيل الروّاد)، يتسم بالكثير من السمات التي تتمثل في: التمركز حول الذات، عدم الاهتمام بالتاريخ اليهودي الحديث، وفي النهاية التحول عن نموذج «اليهودي الرائد» الذي كان مساهماً في بناء الدولة، والميل إلى نموذج «الإسرائيلي العملي»، بصورة تقارب رجل الأعمال البراغماتي العملاني، على حساب صورة الصهيوني العقائدي الأيديولوجي..
وما بين هذه وتلك، تتشكل صورة الصابرا، على تناقضاتها العميقة، بدءاً من الجندي الذي يطلق النار على الشاب الفلسطيني المعصوب العينين المقيد اليدين، والنزوع نحو اليمين، وصولاً إلى نموذج الباحث الذي ينقّب في الكتب والمراجع والمصادر والوثائق، ليكشف عما ارتكبه جيل الرواد من جرائم فظيعة، في الطنطورة والدوايمة.. وربما على امتداد هذا الوتر المشدود، تتناثر أفلام إسرائيلية، ينبغي رؤيتها في موضعها الحقيقي، الذي أرادته هي، لا الموضع الافتراضي الذي يريده بعض النقاد الفلسطينيون والعرب.. وهي في كل حال أفلام إسرائيلية نقدية، حتى وإن كانت لا تروي غليل العرب، المترعين بالفشل..









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في