الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهدوء الذي يلي العاصفة

عبدالجليل الكناني

2008 / 10 / 30
الادب والفن


إذا كان الهدوء الذي يسبق العاصفة هو الأكثر شهرة وشيوعا حتى صار مقولة يتداولها الكتاب والشعراء قبل غيرهم فان ذلك ، في الواقع، لخطأ شائع ، فالهدوء الذي يلي العاصفة هو الأكثر وقعا في النفس، والأكثر إمتاعا وجمالا وذلك ما عرفته ، أخيرا ، حينما صرت بلا مأوى بمعنى ، المأوى الذي يوفر الملاذ الآمن لشاغليه ، لم أكن يوما في حياتي إلا وتحت سقف من الكونكريت الصلب واقله من الطابوق والحديد المغطى بكل ما يعطيه مناعة وحفظا من الظروف العاتية وإذ أنني اعشق المطر ، حتى وان غضبت السماء وأرعدت فاني اسخر من فورتها التي لا تأتي بغير سيل المياه الدافقة فاصرخ بها أن تعطي المزيد ، المزيد وبلا توقف لتغسل أدران الغضب والأجيج الصاخب في قرارة نفسي المنفعلة دوما حتى صرت في مستقبل أيامي التي رأيت فيها منعة ، بلا منعة . كيف ؟ وقد تراكمت سنين الوظيفة والخبرة في عظامي ولحمي وجلدي المتغضن ، أزمان الجهد المتصل والعمل الدءوب فأجدني اليوم ، بغير ما فكرت وظننت وأيقنت ، بعد زوال الطاغية في أسوأ مما كنت . نعم كما تقولون وكما يقول زملائي الذنب ذنبي لأنني أسير وهم الكرامة والشرف والأمانة وتلك صكوك حين تعرضها في السوق يسخر منك اصغر مريديها ويهز رأسه أسفا عليك ياعم ألا تخجل من شيبتك تريد خداعنا بهذه الصكوك المزيفة إنها، ليست سوى أغلفة ورق البافرا التي يدخنها أجدادنا وكنتم انتم تلهون بها إبان طفولتكم ممثليها بالنقود . والواقع برهن زيف تلك الأوهام فقد أرعدت السماء وهذه المرة لم تفرحني ولم اهرع كما كنت أيام فورتي وأحلامي البيضاء لاحتساء ما يزيد نشوتي فأتنفسها بعمق واشم رائحة التراب الندي واغسل ، كما اسفلت شوارع بغداد ، روحي بنشوة نظيفة ، نظيفة تماما ، كان ذلك ماضي حين ينام السكارى تحت نصب جواد سليم مستلهمين الحرية والنشوة معا . وبالإضافة إلى أن هزيم الرعد المتصل يشبه دوي قصف الطائرات والصواريخ الموجهة للأمريكان ، ويوحي بالويل ذاته فان ارتداد صداه ينافس الريح العاتية ويساندها في زحزحة البيت ، البيت الخشبي " الكرفان " العتيق الذي اسكنه الآن ، بعدما اضطررت إلى ترك بغداد ، مع أكوام اللحم البشرية حتى انه ينفذ من سقفه بكاءا مرا متصلا فنهرع لجمع ما لدينا من قدور الطبخ والأواني لنوزعها في أرجائه لجمع الماء وبعدها نكتشف عناده في النفاذ من السقف في مواقع أخرى لم ندركها بسبب الظلام .......
عذرا تركت الكتابة فالساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل وزوجتي تصرخ – أبو فرح ،جد لنا ( جارة ) حل فالبعوض أكلنا .
الريح تعصف منذرة بانتزاع سقف الكرفان والرعد يلي ومضات البرق التي تشبه انفجارات براميل حبلى بالبنزين وقرقعة المطر فوق السقف مثل مطارق لا تمل ولا تكل تعزف سيمفونية رعب رتيبة متصلة وخرير الماء في كل مكان كغزو آلهات للموت على شكل مستعمرات هلامية تنفذ من حيث لا ندرك فتبعث في العظام رطوبة عطنة راعشة يزيدها اضطرابا دوي الرعد القاصم الذي لا يكتفي بصم الآذان إنما بصعق الأعين بقوة ومضاته الساطعة كانفجار كتلة من شموس تختبئ في صفحة السماء الحالكة الظلمة . بدا إن الحالة ستدوم ابد الدهر. وحين أُعيدَ ، وبصورة لم تكن في الحسبان ، التيار الكهربائي ، لم تكن عودته مدعاة للسرور فقد سارعت بإطفاء الأضوية وعزل قواطع الدورة خشية أن تتسبب تلك المياه الغازية باشعال الكرفان الخشبي حين تلامس أسلاك الكهرباء . وحيث أنني في تلك اللحظات الحرجة لم افقد تماما قدرتي على التحليل فقد عرفت أن إعادة التيار الكهربائي تعني زوال عاصفة الغضب الرباني الذي يوازي الغضب الساخر الموجة بعقل شرير لصواريخ العنف والرعب التي تطلقها آلات أمريكا وعبوات المجاهدين ومطيعي أولياء الله الناسفة للحياة وسياراتهم المفخخة التي تحصد أرواح العراقيين بالأرقام المجردة في قنوات الإعلام الطربة المنتشية التي تنبجس غالبا من شفاه حقودة وان تلونت بأحمر الشفاه المثير للشهوة . ذلك المشهد الذي يتكرر يوميا ولكانك تشاهد سلسلة متصلة بطلتها عاهر شبقة من آكلات لحوم البشر تتلذذ بامتصاص صدور الرجال حتى تنفذ الى قلوبهم المترعة بالدم الطازج ، أو من الشذاذ من آكلي لحوم الصبيات والأطفال الطرية اللينة بنهم حيواني يمتزج بطقوس سوداء مخاتلة مزدانة بالخشوع والورع والنسك .
حتى إذا ما انطفأت قرقعة اصطدام قطرات المطر على سقف الكرفان غادرتُ ، أنا ، الأجواء الخانقة الرطبة التي خلفتها العاصفة الممطرة فيه ، إلى حيث الفضاء العاري اذ فاجأني ذلك السكون العذب المصحوب بنسائم باردة طرية لا تكاد تحرك الأشياء غير خلجات النفس التواقة للامان والدعة عندها أدركت أن السكون الذي يلي العاصفة هو الأروع والأكثر وقعا في النفس ، وانه بعض مما يلتمسه الأحرار الثملين تحت نصب الحرية . وحيث ازددت نشوة وتألقا رحت أعب في صدري النسائم الندية المغسولة بماء السماء لتمازج روحي وتعانق لهفتها حتى إذا ما ساد صمت بسحر المساء سمعت أصوات اطلاقات نار بدت تزداد قربا ونظرت الى الكرفان الخشبي ومن خلاله رسمت صورة أطفالي وزوجتي وهم يغطون في نوم صار هانئا بعد هدأة الصخب المناكد وأحسست بان تلك الرصاصات العمياء لن تجد مقاومة لو أنها رامت النفاذ بعمائها من خلال الجدران الخشبية الرطبة .
25/10/2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عوام في بحر الكلام -ليه نظلم شفيقة.. الشاعر جمال بخيت يحكي ق


.. عوام في بحر الكلام - صاحب أشهر سيرة شعبية في القرن العشرين..




.. عوام في بحر الكلام - الصعايدة هما أساس الجناس.. الشاعر جمال


.. قبل الامتحانات.. خلاصة مادة اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية




.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي