الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات ميت..........قصة قصيرة

نعمة ياسين غكظ

2008 / 11 / 1
الادب والفن



لم استطع كتابة مذكراتي عندما كنت حيا وسط زحمة الحياة واالعمل المتواصل والجهد الكبير الذي ابذله في سبيل ان اوفر لاولادي الخمسة وزوجتي العيش بكرامة حنى وان كان في بعض الاحيان على حساب كرامتي وحريتي وراحتي ... لكن هذا اليوم فقد تفرغت تماما من كل ما يتعلق بالحياة من امور او واجبات او التزامات وحتى اتاح لي هذا الوضع حرية كاملة بالتفكير وابداء الرأي بكل صراحة وجرأة فممن اخاف فانا ميت فهل لهم ان يفعلوا بي شيئا اكثر من ذلك ..كنت اخافهم لا خوفا على نفسي بل على مستقبل هؤلاء الستة الذين تركتهم يقاسون المرارة وامامهم مستقبل مجهول كنت احاول قدر الامكان ان اوصلهم الى بر الامان وبعد ذلك ليكن ما يكون .. جسم لا حراك فيه اصفر اللون فم مفتوح عيون مغلقة ممدا على ظهري بشكل مستقيم ويداي مسبلتان بالتوازي مع الجسم بعد ان وضعوني على دكة جنب حوض من الماء واخذ شخص غريب كنت قد رايته من قبل عندما احضر مع جنازة من اقاربي او اصدقائي اخذ بصب الماء والتدليك ووضع مواد كيمياوية ثم غلفوني بقماش ابيض من اعلى رأسي الى اطراف اصابعي ثم وضعوني في صندوق مستطيل من الخشب عريض عند الكتفين فيما يصغر عند نهاية الارجل وكأنهم اخذوا مقاس جسمي قبل ذلك هو اشبه بالزنزانات التي كنا نعرفها في الحياة ولكن لم الان ما زلنا لانستطيع الحركة ؟ عويل اولادي وبناتي وزوجتي واهلي اتعبني كثيرا وددت ان امنعهم من ذلك صرخت لكن دون جدوى عندها عرفت ان صوتي لا يصل الا لاطراف شفاهي فقط لكن هذا البكاء يثقب اذني هذه الدموع تحرق جسدي نسيت ان صوتي لا ليسمع فصرخت مرة واخرى وثالثة ... دون جدوى الا يعرفوا ماهذا الا شيء طبيعي يحدث لكل واحد فينا سواء اليوم او غدا او بعد سنين النتيجة واحدة هو الموت!. اراحني اخي الكبير عندما امرهم بالرحيل ثم نقلوني الى بناية احد المساجد القريبة وضعوني على الارض جنب احد الاعمدة التي تسند السقف الاسمنتي العالي الليل كان قد فقد ساعات عدة قرأ الجميع سورة الفاتحة وهم يحيطون بي من كل الجوانب ثم غادروا المسجد بعد ان قفلوا ابوابه وتركو لي اضاءة خفيفة تمزق سواد الليل داخل المسجد ... ها انذا الان وحيدا داخل الصندوق وسط هدوء كامل ارى العمود المنصوب بالقرب مني يمتد عاليا الى ما لانهاية يبدو انهم تعمدوا هذا المكان ليتسنى لروحي التسلق في رحلتها الى السماء ... من خلال السقف ارى النجوم تتهاوى واحدة تلو الاخرى وشريط من الذكريات يمر امام عيناي لحياتي الماضية بحلوها ومرها ابتداء من اول صرخة لي عندما خرجت من رحم امي الى وضعي الحالي لم اغفل كبيرة او صغيرة شاردة او واردة كلها مرة امامي ليس لمرة واحدة بل لمرات في وقت لا يتعدى بضع ساعات اه كم كانت قصيرة تلك السنون الخمسة والستون !!! كم هي تافهة !! فلم الناس تتقاتل وعلام الحقد والكراهية بين الناس؟ .... الظلام بدأ يخف هاربا من اشعة الشمس التي لاحت بوادر خروجها وبعد دقائق ولى هاربا فها هي الكرة الحمراء تخرج رويدا رويدا يصغر حجمها ويتبدل لونها وينتشر الضياء في كل الارجاء فيما كنت انتظر اقاربي الذين بدئوا بالتوافد واحدا تلو الاخر لاتمام المراسيم...
بعد ان حملوا الصندوق ورفعوه عاليا اتاح لي هذا الموقع ان ارى الجميع , بل استطيع قراءة التعابير المرتسمة على وجوههم واكثر من ذلك فانا استطيع التعرف على احاسيسهم , اما الهدوء الذي يسكن داخل الصندوق يتيح لي سماع الاصوات والهمسات .... عندما بدأ المسير وبدأ الصندوق يتمايل كنت ارقب الحشد السائر خلفي .... هؤلاء اولادي وأقاربي وأصدقائي.... وأولاءك افراد العشيرة والجيران والعاملون معي وهناك جماعات لااعرفهم . قسم من الجمع يتهامسون .. كل اثنين او ثلاثة والقسم الاخر يسير صامتا وهناك من يبتسم اويضحك عاليا . على الجانب الايمن هناك اثنان متميزون بالملابس الانيقة الفاخرة وربطات العنق البراقة الزاهية اسمع الكبير يحدث الاخر .... (كان عاملا متميزا مخلصا له خبرة كبيرة وله دور كبير في المعمل كيف لنا ان نحصل على البديل ؟ لابد اننا سنخسر جزءا من الانتاج لفترة قد تطول لحين ان نحصل على البديل الملائم )... مجموعة اخرى تسير خلفي يتسائل احدهم ما الذي قدمه للمجتمع ماذا ترك وراءه يفيد المجتمع ؟...
- كل هذه السنين الطويلة التي كنت اعمل بها اليست هي خدمة له . ماذا قدم لي مجتمعكم هذا ... كنت اعمل ليل نهار مقابل اجر بسيط لا يتجاوز نصف ما استحقه فعلا . هل انصفتني قوانين مجتمعكم هذا؟ ألم تكن هذه القوانين جائرة ... كم انا نادم الان على الاستكانة والسكوت ايام كنت حيا ... اصوات تندم على رحيلي بصدق واخرى برياء ... على الجانب الايسر من الحشد كان هناك مجموعة من رفاقي العمال يتوسطهم عادل زميلي على نفس الماكنة. يحدثهم وسحابة من الحزن تغلف وجهه كنا نسميه الصامت ولكني اراه الان هو من اخذ زمام الحديث ..... (هاهو قد رحل بعد ان سلبه حديد المكائن صحته وعمره تعرفون كم كان متفانيا في العمل ومقابل ذلك يحصل على ثمن بخس لا يكاد يغطي اكل العائلة , من سيعيل اولاده من بعده ؟ كيف ستكون حياتهم ؟ وهذا هو مصيرنا وعوائلنا جميعا .... سيبقى اهلنا فريسة للجوع والحرمان والامراض . علينا ان نعمل شيئا قبل فوات الاوان).... كان الجميع ينصتون وقد بدى عليهم الاهتمام ... لقد افرحني كثيرا هذا التفكير الصائب في الوقت الذي ندمت كثيرا على سكوتي وانا ارى حقوقى تؤكل امام عيني وكرامتي تستهان كل يوم بل كل ساعة صرخت باعلى صوتي لا تصمت ياعادل استمر حتى وان تسبب ذلك في موتك فهو نفسه في كل الاحوال وابدا لايتكرر مرتين....
انزلوني على ارض مرصوفة بالمرمر واحاط بالصندوق من كل الاتجاهات قسم من الحشد فيما توزع البقية على مجاميع صغيرة يتهامسون او يتكلمون او حتى يضحكون بعيدا بعض الشيء ... من بعيد وخارج الباحة التي انا فيها وقفت سيارة فارهة فتح بابها الخلفي , نزل شخص عدل هندامه واسدل العباءة السوداء على كتفيه جسم مكتنز , رقبة غليظة , وجه ابيض , يعلو وجنتاه لون احمر , يداه ناعمتان بعد ان سار بضع خطوات تبينته جيدا انني وكل الجمع يعرفه قبل ان يصل بخطوات تقدم البعض ليستقبله وعلى رأسهم الاثنان الذين كانوا على يمين الحشد ذوي الملابس الانيقة والاربطة البراقة ليقبلوا يديه ويمسحوا بها وجوههم ... لا أ دري لم اضحكني هذا المنظر تمنيت ان يسمع هذا الرجل صوتي صرخت عاليا دون جدوى اردت ان اسأله .... من اين لك هذا؟ وقف شمال الصندوق وطلب الاذن من ابني الاكبر لتأدية الصلاة وطلب المغفرة لي ... وددت لو كنت استطيع ان امنعه لكني قلت في نفسي ليطلب المغفرة لنفسه فانا لاحاجة بأن يطلبها لي مثله ... تمتم بكلمات وادى الحركات المطلوبة ثم رفعوني او رفعوا الصندوق الذي به انا. ليطوفوا بي حول مرقد الامام ومن اعلى ارى الامام جالسا تحت القفص الذهبي سمعته يصرخ لااريد هذا الذهب اريد العدالة والانصاف لهؤلاء ورأيته يؤشر باصبعه على الصندوق ... صحت اخرج انت انصفنا ياسيدي.... رد علي بصوت حزين سيقتلوني مرة اثر اخرى... خرجوا من المرقد متوجهين نحو المقبرة نظرت في كل الاتجاهات .... كم كثيرة هذه القبور! شواهد قبور شاهقة واخرى واسعة وكثيرا منها تعلو قليلا عن الارض منها المهدم والاخر مبني حديثا , اسماء رجال ونساء اعمار مختلفة اطفال وشباب وشيوخ وضعوني بالقرب من حفرة عميقة لايزال العامل يخرج منها التراب وبينما انشغل الجميع بالاحاديث اجلت ببصري في المنطقة ... نظرت داخل الحفرة , اني ارى اسراب من النمل تتأهب لنهش لحمي بينما في الاعلى شواهد لقبور شتى تنتصب حول الحفرة وها هو قبر والدي المهدم جنب الحفرة والى اليمين ينتصب قبرا مشيد من الاسمنت المسلح تعلوه قبة مستديرة مغلف ومبطن بالمرمر وارضيته مبلطة بالكاشي شبابيك وابواب من الالمنيوم والزجاج المضلل تضيئه الشموع بصورة دائمة والقطعة المخطوطة على الباب تشير الى اسم والد اصحاب المعمل الذي اعمل فيه....

النجف
9 - 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل