الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسورتك لا بأس بها

عدنان الدراجي

2008 / 11 / 1
الادب والفن


هرع ولدي الصغير صائحا:بابا في الباب جماعة يسألون عنك, امتدت اكف تعلو معاصمها أسورة قبيحة مطلية بطبقة رقيقة من الذهب الرديء, كان الزيف والتباهي طاغين على تصرفاتهم حتى أنهم كانوا يحركون أيديهم من غير مناسبة ليظهروا ما خفي تحت أكمامهم.
لم تفلح أجواء ضيوفي الاحتفالية عن إزاحة مسحة الانزعاج والكدر المرتسمة على صفحة وجهي, وكحال هذه المناسبات اندلقت أكوام اللغو وتباهت الألسن الطوال بسوابق مدعاة ومآثر مدلسة وتدحرجت الأنا على ألسنتهم مزوقة ومغلفة بشمائل المروءة ومقارعة الطغيان.
أخيرا خلصت الضوضاء إلى منحى أخر إذ استأذنني احدهم لأريه اسورتي, تلقفت أيديهم معصمي وقد اشرأبت الأعناق, تصنعوا هيئة الخبراء العارفين, تناقشوا ودققوا وتباحثوا وتشاوروا قبل إعلان تقييمهم النهائي(أسورتك لا بأس بها) ثم بدأ فصل النصائح, فهذا يحذرني إياك أن تخلعها(ليتني أستطيع) وذاك يأمرني اظهر للناس زينتك, ومضى كل واحد منهم يروي كيف نال أسورته.
خبرتي بهم فضحت ما تحت أقنعتهم المتغضنة وما تخفي أنيابهم الباسمة, ولهذا امتنعت عن إشاعة خبر سقوط هذه الاسورة المقيتة على معصمي في أول الأمر لكن هيهات إذ سرعان ما استرقوا الأخبار, إلا أني حرصت على إخفاء قصة تورطي بهذه الاسورة إلى النهاية.
كنت دائم التوجس إذ لم أتوهم يوما أن بضاعتي ستلاقي رواجا لو عرضتها في أسواق الأمس أو اليوم, ثم ما الذي يدعوني لمزاحمة عَـيّـاري السوق وشياطينه ومن أين لي أنف يحتمل روائح النتانة والبرك الآسنة التي تواءمت مع أسواقنا, لم أبخس حق بضاعتي فكتنزتها, وساعدني على ذلك لجامي المتين الذي كبح جماحي, فتشرنقت بالجَلـََد منتظرا الغيث, كنت اختلق من أكوام شقائي أحلاما وردية فمضيت خفيفا أسابق عنت حياتي, حتى أدبرت عني شروخ العمر تترا غير آسف.
غداة اليوم سرت منتشيا في درب خلته يسلك بي نحو وادٍ مشجر ظليل فقد تاقت نفسي للهواء العليل ولفسحة من فضاء حر, كان الوادي يبدو قريبا إلا أني كلما اقتربت منه تملص مني , كانت أشباح المنهكين تتناثر في المنعرجات كأكوام لا ملامح لها مما زاد من وحشة الطريق, وقفت عند شجرة باسقة وافرة الظل مثقلة بثمار غاية في الجمال كان عطرها الفواح يطرب النفوس, تمعنت بها مسحورا بجمالها الأخاذ فزهدت عن متابعة طريقي, استندت إلى جذعها لاستزيد من نسيمها المعطر وأتمتع بمنظرها البديع فغفوت لا ادري كم لبثت بحضنها, أيقضني صوت طائر مغرد قد استوطن أغصانها ففركت عينيّ لأزيل ما علق بهما من النعاس فشعرت ببرودة معدن يحيط بمعصمي, ما هذا؟ سوار محكم الإغلاق في كل معصم.
كيف أحاطا بمعصمي؟ من الذي قذفني بهما؟ لا ادري!! وجدت نفسي مثقلا بأساور ما تمنيتها يوما, تحسستهما وحاولت الخلاص منهما, وفي كل محاولة كانا يضيقان حتى التصقا تماما بجلد معصمي.
لم اتفحصهما إن كانا من معدن نفيس أو زهيد, فما الفرق بين نجاسة الخمرة الفاخرة والرديئة, انحصرت آمالي في استرداد براءة معصمي, لكن القنوط قد اعتراني إذ تبددت حيلتي في نيل خلاصي.
استفزني تسارع قرص الشمس نحو الغروب ففزعت عائدا متعثرا بفوضى أفكاري, ترى هل ارضخ واحتمل زينة زائفة!!؟ تخبطت أفكاري وكأني أقاد إلى حتفي.
حاولت تهدئة روعي فعللت نفسي بالحداد لعله يحررني من أسورة الشؤم من غير أن يدميني, لن ابخل عليه بشيء, سأعطية ما يرضي طمعه ويخرس لسانه!! نعم سأفعل, سأتحرر, سأعود إلى سيرتي الأولى ولن يعلم الناس عني غير ما علموا, أزاحت الآمال ضغط الهموم عن صدري.
ترقبت خلو الطرقات لانسل سريعا, وفي اللحظة التي اتجهت بها نحو باب داري لأغادر نحو نافذة أملي (الحداد), في تلك اللحظة تماما طرق الباب فأسقط في يدي وكانوا فوج مهنئين تلتهم أفواجا.
كأنهم التصقوا بمقاعدهم فما من بارقة تنبؤ بقرب مغادرتهم فأسلمت أمري إلى الله ومضيت أتسلى بمراقبة لمعان معاصمهم التي ترسم خيوطا ضوئية تومض مع كل انبساط يد أو انقباض كف.
صخبهم خنقني دون رحمة إلا أن شعوري بالوحدة كان يتفاقم مع مرور الوقت فأطرقت انظر إلى معصمي.
وعلى حين غفلة شق صراخي عنان السماء!! تحلقوا حولي متسائلين, ما بك؟ ما الذي يؤلمك؟ رفعت عيني الجاحظتين إليهم وصحت بصوت أشبه بالنحيب, أترون هذه السلسلة التي تجمع بين السوارين.
فأجابوا بصوت آلي رتيب: لدينا مثلها!!
إذن تعلمون إنها ليست أسورة, إنها قيود, قيود, إنها قيود ذهبية لعينة.
رشقوني بنظرات الاستهجان وقد عَلا الامتعاض سحنهم.

د.عدنان الدراجي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري