الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معاناة الحارس اللغوي

أحمد منتصر

2008 / 11 / 2
الادب والفن



مهنة التصحيح اللغوي مهنة شاقة تتطلب مجهودا ذهنيا ذا تركيز عال وشخصا دارسا ممارسا متفرغا طوال اليوم حتى يستطيع تقسيم عمله على عدة فترات لأنه يحتاج إلى تركيزه الكامل طوال عمله. وتكمن أهمية هذه المهنة في ضعف لغة المبدعين حتى نجد أن 90% من الكتاب بدءًا من كتاب المقالات إلى كتاب العامية ضعيفو المحصول اللغوي. وهناك شعراء أيضا تجد فيهم هذا الضعف على الرغم من أن الشاعر يجب أن يكون ذا لغة ممتازة لأن المصحح إذا عدّل في الشعر العمودي كسر الوزن. وحتى إذا عدّل في الشعر الحر أو شعر التفعيلة فإن الشاعر يهب ثائرًا من أجل تغيير كلمة أو لفظ.
وكل المصححين اللغويين المعاصرين يعملون على الكمبيوتر حيث يسهل التعديل زيادة ونقصانا في النص عن طريق برنامج الوورد بدلا من الشطب والكشط إذا كانت مادة العمل ورقية. ولكن يُعاب على الكمبيوتر أنه يرهق العينين بعكس الورق حتى تجد أن المصححين اللغويين من أكثر الناس إصابة بانتفاخ العيون والصداع من الكمبيوتر. ويتميزون بكثرة شرب المنبهات كالشاي والقهوة ولعلهم من يدخنون أكثر من الكتاب أنفسهم لما يعود به التدخين من يقظة وتسلية وتنفيث للغيظ. نعم فأحيانا يكون النص المقروء سمجا جدا فيحتاج المصحح إلى سيجارة يبث في أنفاسها سخطه بدلا من أن يحطم شاشة الكمبيوتر ويخسر شريكه الحبيب. ولكن في أحيان أخرى -وإن كانت أقل حدوثا- يكون النص ممتعا شيقا سهلا ولينا ويستقر هذا الإحساس عند من يعملون من المصححين خلف كتاب المقالات اليومية المتمرسين المشهورين كأنيس منصور أو إبراهيم عيسى. فأنا شخصيا أحسد مصحح إبراهيم عيسى اللغوي فبالتأكيد هذا المصحح يضحك ويفرفش وينبسط وتنفرج أساريره وهو يصحح للمايسترو مقالاته اليومية ولعله كان أكثر الناس فرحا بعدم سجنه وعفو الرئيس مبارك عنه!.
أما عن ماهية مهنة التصحيح اللغوي والتي لا يعرفها الكثيرون ربما لندرة المشتغلين بها. فهي تتفرع إلى ثلاث عمليات: تصحيح إملائي وهو أسهلها. وتصحيح نحوي وهو أكثرها حاجة للتركيز. وتصحيح بلاغي وهو أصعبها حيث يحتاج إلى قراءات سابقة وقارىء عارف بأساليب السرد وطرق بدء وإنهاء الجُمل ومواطن الألفاظ المناسبة فمثلا تركيبة (يقوم على) تختلف عن تركيبة (يقوم بـ) وكلاهما له موضعه الذي إذا جاء في موضع آخر تغيّر المعنى أو فسد. وليس كل من تخرّج من كلية الآداب قسم اللغة العربية أو كلية التربية من ذات القسم يصلح لأن يكون مصححا لغويا. كلا، وإنما يحتاج الأمر إلى تمرين مكثف أولا وتدريب على يد مصحح لغوي محترف وقبل ذلك -وإن كان ليس بالأهم- حفظٍ وإتقانٍ لقواعد لغتنا المتشعبة.
وكثيرا ما يسألني الناشر أو الكاتب عن الوقت المستغرق في تصحيح عمله. والحقيقة أنه لا وقت محدد لتصحيح عدد محدد من الكلمات ويرجع الأمر إلى سرعة المصحح وسنه وخبرته وأسلوب سرد النص وأخيرًا جاذبيته. ولكن تستطيع أن تسألني عن أيهما أحب إليّ في التصحيح: الرواية أم المجموعة القصصية؟. أقول إن الرواية أسهل من حيث وحدة عناصرها: الفكرة والأسلوب والمعالجة لأن وحدة تلكم العناصر عامل إعانة شديد الأهمية للمصحح في عمله بيد أنه يركز فيه. ولكن المجموعة القصصية إذا كانت متنوّعة قصصها في الأسلوب والفكرة والعاطفة والمعالجة فإنها تمتع المصحح اللغوي وتشبع قريحته الأدبية أكثر وتجعله ينتهي من عمله في أسرع وقت ممكن.
ومما يعجب له المصحح اللغوي في عمله اعتياد الكتاب على استخدام ألفاظ لو فكروا فيها لوجدوها توضع في غير مواضعها. وأضرب لك مثلا فلفظة (تعيين) تستخدم بمعنى (توظيف) ولو فكرتَ في معنى (تعيين) لوجدته (تحديد). وكذلك (تعتبر) تستخدم بمعنى (تعد) بينما (تعتبر) من الاعتبار أي الاتعاظ!. الغريب أن هذه الاستخدامات الخاطئة منتشرة شائعة ولا يوجد من يصححها للناس. مرد ذلك إلى أن مهنة التصحيح اللغوي على أهميتها يندر تعليمها أو تدريسها فإذا كنت تريد الحصول على دورة في التصحيح اللغوي فعليك بالسفر إلى كلية دار العلوم بالقاهرة أو أي من فروعها في المحافظات النائية. ناهيك عن قلة محبي لغتنا العربية أو بالأحرى قلة محبي إتقانها وانتشار اللغة الإنجليزية انتشار النار بالهشيم في كل مكان في مصرنا الحبيبة فواجهات المحلات باللغة الإنجليزية كلفظة (ماركت) والتي تعني بالعربية (سوق) يخجل الناس من قول سوق كذا ويقولون ماركت أو سوبر ماركت كذا. أيضا لفظة (كوفيه) والتي تعني (قهوة) يخجل الناس من قول انتظرني في قهوة كذا ويقول كوفيه كذا لكي يثبت أنه ابن ناس ومتعلم وراق. بينما لغتنا العربية ضاربة في العراقة منذ القدم بعكس اللغة الإنجليزية الحديثة ذات اللهجة الأمريكية المستفزة. حتى نزلت علينا من أمريكا شخصية هيثم دبور والتي يقوم بأدائها الفنان أحمد مكي ذلك الشاب ذو الشعر المهوش الذي لا تخلو جملة من جمله من لفظة أجنبية أمريكية دلالة على رقيه على الرغم من قطونه بحي شعبي (بيئة) على حد قوله. ولا يخفى على كل لبيب أن فرنسا استطاعت تغريب الشباب المغربي والجزائري ولا زالت عن طريق حصر لغة التعليم في اللغة الفرنسية ولا نتمنى بالطبع أن يصل شبابنا في يوم من الأيام إلى نفس مستوى الشباب المغربي في اللغة العربية خاصة مع انتشار موجة المدارس والجامعات الأجنبية أمريكية كانت أو فرنسية أو ألمانية.

بقلم: أحمد منتصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا