الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية الثقافة الانعزالية

أسعد الخفاجي

2004 / 2 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


 قد تكون للثقافة الانعزالية، أحياناً، مبرراتها المؤقتة المشروعة، في ظل ظروف موضوعية إستثنائية، كتفاقم الاضطهاد القومي والديني. وفي ما عدا ذلك لا يتولد عن ثقافة الانعزال سوي التبعثر الاجتماعي والتشرذم الفئوي وبالتالي الضياع الكلي لهوية الإنعزاليين أنفسهم، واغترابهم في وطنهم. واليهود المتدينون هم أفضل الأمثلة التأريخية علي الأقوام التي جعلت من ثقافة الإنعزال منهجاً دائماً لوجودها بين الآخرين. حقاً لقد عزل هؤلاء أنفسهم منذ الأزل عن بقية الناس الذين يعيشون بين كنفهم، فجري لهم بسبب ذلك ما جري من ظلم وإضطهاد، إبتداء من الحقبة التي عاشوا خلالها وسط العراقيين في بابل قبل آلاف السنين. تلتها عهود مظلمة مر بها اليهود بصورة مستمرة في مصر وروما وأوروبا والشرق الأوسط. ولاشك أن إصرار اليهود علي تبني ثقافة الانعزال هو الأساس في كل مالحق ويلحق بهم من مشاكل سياسية في كل زمان ومكان.

 

نعلم أنه أتي علي المسيحيين في العراق عهد عانوا خلاله من الإضطهاد الديني والقومي، ولولا اتحادهم وإذكاء الجذوة القومية والدينية بين أفرادهم، بعبارة أخري لولا رعايتهم ثقافة الانعزال الديني والقومي والاعتداد بالنفس لما إستطاعوا الصمود لحد الآن بوجه الهجمة العنصرية الشوفينية والإحتفاظ بديانتهم وأصولهم القومية. وما ينطبق علي المسيحيين ينطبق كذلك علي الأكراد والتركمان والصابئة واليزيديين وغيرهم من شرائح المجتمع العراقي الأساسية التي عانت من الإضطهاد القومي والديني والطائفي بهذا القدر أو ذاك من قبل أنظمة الحكم المتعنتة المتعاقبة. ولما كان العراق وحتي زمن قريب خاضعاً لنمط متواصل من السلطة الغاشمة التي لا تحترم حقوق الإنسان ولا تعترف بالتعددية السياسية والفكرية، أصبح من اللازم والشرعي أن تعزز الروح الدينية والقومية لشرائح المجتمع المضطَهَدة، وبعكس ذلك سوف (تنصهر) تلك الشرائح بأسلوب فاشي في قوالب الشرائح الأخري المتنفذة المستولية علي السلطة السياسية بالسيف لا بالتداول السلمي الديمقراطي. ولن نخوض في تفاصيل ذلك التاريخية ولن نذكر أمثلة معينة متعمدين خشية جرح مشاعر الأطراف المعنية. وبامكان القارئ الرجوع إلي سجلات الاضطهاد المختلفة في التأريخ العراقي الحديث لمعرفة حالات الاضطهاد المزمنة التي عانت منها بعض الشرائح المجتمعية العراقية لدهور طويلة.

 

واليوم وبعد أتيحت الفرصة لأول مرة في التأريخ أمام الشعب العراقي بكافة شرائحه المجتمعية لكي يتسلم السلطة السياسية سلمياً، نشهد إختفاء تدريجياً لمسوغات ثقافة الانعزال. وتملي علينا المرحلة الحالية من التطور التي يعيشها العراقيون أن يبدأ علي الفور حوار جدي هادئ ومتكافئ بين ممثلي الشرائح المجتمعية حول جدوي مواصلة رفع راية الثقافة الإنعزالية في ظروف أحوج مانكون فيها إلي الإتحاد والتلاحم والإنسجام والإنصهار في بوتقة العراق التعددي الكبير.العراق الذي تتساوي فيه أمام قانون عصري كفؤ مائة في المائة جميع الشرائح والمكونات العراقية دون وجود أي موطئ قدم لأطروحات غريبة ضارة مثل الأكثريات والأقليات وما إلي ذلك من مسميات ثقافة الهيمنة! فالعراق لكل العراقيين، لا يخص شريحة دون أخري بصرف النظر عن النسب والأعداد والأبعاد التي لا تخدم سوي الأعداء ولا تعود علي المتبجحين بها سوي بالذل والخسران والهوان الإجتماعي. ولا تولّد علي الأرض العراقية سوي كابوس التفرقة والتشرذم والانعزال! إن قوة الشريحة الإجتماعية الصغيرة ــ نسبياً! ــ لا تكمن في تشرنقها وانعزالها بقدر ما تكمن في إلتحامها الوطني الكلي بشقيقتها المجاورة لها الأقرب منها، كبيرة كانت أم صغيرة، وتقاسم الواجبات والمنافع بالتساوي.وينبغي أن يكون هذا النهج بداية لثقافة التكامل العراقية البديل المطلق الناجع لثقافة الإنعزال الديني والقومي والفئوي بأشكاله المتنوعة.

 

من المعروف أن المجتمع الأمريكي، مثله مثل العشرات من المجتمعات العالمية الأخري (كالمجتمع الهندي في الشرق والمجتمع السويسري في الغرب) يتكون من شرائح ومكونات أثنية دينية وقومية وعرقية متنوعة تشكل بمجموعها وتكاملها الهارموني سمفونية إجتماعية متميزة حازت علي إعجاب واحترام العالم. وبما أن القانون الأمريكي يضمن المساواة لكل الأثنيات فلم يعد من مسوغات أية (أقلية) عرقية أو دينية أن تنظوي تحت راية ثقافة الإنعزال. ولكي نكون صادقين في طرحنا فأن أفراد بعض الأثنيات المهاجرة إلي الولايات المتحدة ما يزالون أسيري الثقافة الإنعزالية التي جاءوا بها معهم إلي الجرف الأمريكي، كاليهود والعرب والسود.بخلافهم نجد الأوربيين إطلاقاً والكثير من الآسيويين (عدا المسلمين) والقادمين من شعوب أمريكا اللاتينية قد تحرروا تماماً من وباء الانعزالية وسمحوا لأنفسهم أن يصبوا في رافد المجتمع الكبير، ولم يبق في ذاكرتهم وفي وعيهم غير الثقافة الوطنية للولايات المتحدة القائمة علي تمجيد الوطن الأمريكي أولاًً. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة لا تعترف بدين بعينه دون آخر ولا بقومية دون أخري! إنها بلد نجح تماماً في تحرير السلطات الثلاث من الرواسب والمعتقدات الروحية.في الوقت نفسه لا أظن أن هناك بلداً علي الأرض يحترم الأديان جميعها ويضمن حرية التدين لجميع مواطنيه مثل الولايات المتحدة.ومما يلفت إنتباه السواح القادمين إلي هذا البلد حالة الإنعزال الواضحة التي يعيشها بعض اليهود والعرب والسود والمسلمين في الولايات المتحدة. ولا يوجد برأيي أي مسوغ موضوعي لرعاية واعتناق هذه الثقافة الإنعزالية من قبل تلك الشرائح في المجتمع الأمريكي. ومن المؤسف أن نذكر في هذا المجال أن عملية أيلول (سبتمبر) الارهابية، التي أريد لها إستهداف الأمريكان المسيحيين واليهود فقط، قد أودت بحياة أكثر من مائتي أمريكي مسلم كانوا يعملون كغيرهم في البنايات المستهدفة.

 

ويمكن الإستنتاج من ذكر المثل الأمريكي أن مجتمعنا العراقي الذي ينشد الديمقراطية والتعددية والدستور المدني المتحضر (كالدستور الهندي في الشرق والدستور السويسري في الغرب) سوف لن يكون مرتعاً خصباً للثقافات الإنعزالية الدينية والقومية وغيرها إذا أريد له بصدق أن يتبوأ مكانته العالمية المتمدنة وأن يستعيد أمجاد العراقيين بناة أول حضارة متقدمة في التاريخ. من ناحية أخري يتعين علي الشرائح العراقية التي لا ترفع في الوقت الحاضر شعارات الإنعزال والتقوقع الإجتماعي لأي سبب من الأسباب أن تحترم الواقع التعددي الذي يريده عموم الشعب العراقي وتنأي بنفسها عما يستفز مشاعر أشقاءنا من الشرائح العراقية التي ماتزال تتمسك بطوق (النجاة) الإنعزالي، وأن تطمئنهم علي ضمان سيادة الأخوة العراقية والمساواة الحقيقية بين جميع المنتمين لهذا الوطن، بصرف النظر عن الفوارق والاختلافات الثقافية والدينية والقومية والبيولوجية. حينذاك فقط تتهيأ الظروف الموضوعية والذاتية لإنحسار الثقافة الإنعزالية من أجندة كل الشرائح المجتمعية، وذلك لإنتفاء الحاجة إلي مثل هذه الثقافة كما هو الحال في مثال المجتمع الأمريكي التعددي. ولا يصح أن يُحترم فكر (الأغلبية) ويُهان فكر (الأقلية). فما المقصود بالتعددية إذن إذا كانت (الأغلبية) غالبة علي الدوام؟ وهل يتعين علي أفراد العائلة الواحدة أن يكونوا جميعهم كباراً لكي يُحترموا ويُذل الضغار فيها؟

 

إن ثقافة الإنعزال بلا شك سلاح مشروع يشهره (الصغار) للذود عن أنفسهم. ومتي ما ضمن العراق الأمان والعدالة والفرص المتكافئة لجميع أبنائه وبناته دون تمييز، تختفي الحاجة إلي أي سلاح للدفاع الشخصي وفي مقدمتها سلاح الثقافة الإنعزالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و