الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البرئ .. بين فجاجة الواقع.. واستحياء السينما

اشرف بيدس

2008 / 11 / 18
الادب والفن



فيلم «البرئ» أنتج عام 1986 وعرض في 11 أغسطس 1986 بسينما مصر بلاس (مهجورة الآن) القصة لوحيد حامد والإخراج لعاطف الطيب، وبطولة أحمد زكي ومحمود عبد العزيز وممدوح عبد العليم وجميل راتب وإلهام شاهين وصلاح قابيل وناهد سمير وحسن حسني.
أحدث الفيلم عند عرضه جدلا واسعا هدد بعدم عرضه، وبعد أن شاهده وزراء الدفاع والداخلية والثقافة (عبد الحليم أبو غزالة - أحمد رشدي - أحمد هيكل) في عرض خاص، تمت اجازته بعد حذف بعض العبارات وتغيير نهاية الفيلم.. وفي أبريل 2..5 أصدر فاروق حسني قرارا بعرض الفيلم دون حذف بمهرجان السينما القومي تكريما للراحل أحمد زكي.
وبعد أكثر من عشرين عاما تتصدي (حريتنا) للفيلم مرة أخري، ليس بغرض التشهير بحقبة سياسية شهدت سجونها ومعتقلاتها أسوأ أنواع التعذيب، وإنما بغرض طرح الفيلم في ظروف تكاد تكون متشابهة ومتطابقة لحد كبير.. ولا نشعر بأي حرج من ذلك، خصوصا أن عصورنا جميعا شهدت أنواعاً مختلفة من التعذيب والتنكيل والملاحقة ومازالت. ولم يأت بعد ذلك العصر السعيد الذي خلت فيه السجون من تركيع المواطن واذلاله.
رغم الاعتراضات التي لاحقت العمل فإنه تعامل مع التعذيب علي استحياء، عكس الواقع الذي يشهد صنوفاً مختلفة ومتطورة من التعذيب تتناقلها الجرائد والمحطات الفضائية، ولم تجرأ الشاشة الكبيرة حتي يومنا الاقترابات من الممارسات الحقيقية التي تستخدم بالفعل، فالسينما كانت أرحم كثيرا من تلك السياط واللكمات والعصي التي راحت تعبث في جسد الآمنين الذين لم يقترفوا ذنبا سوي عشقهم لهذا البلد العظيم.
كتب وحيد حامد قصة فيلم (البرئ) علي خلفية أحداث 17 و18 يناير 1977 وعرفت بـ «بانتفاضة الخبز» والتي جاءت نتيجة ارتفاع أسعار بعض السلع التموينية، وهي ظروف تشبه الواقع كما أسلفنا، وإن كانت الأسعار الآن تشهد انفجارا رهيبا لم تشهده البلاد من قبل، ولا حتي في أزمنة المجاعة.
دارت فكرة الفيلم الرئيسية حول «أحمد سبع الليل» ذلك الفلاح البسيط الذي لا يعرف شيئا سوي فلاحة الأرض، يعيش مع أمه وأخيه - المعاق ذهنيا- ولا يطمح من الدنيا في شيء سوي الفتات التي يتحصل عليه لسد جوعه وأسرته، ليست لديه طموحات أو رغبات، فهو يعيش علي هامش الحياة، وقد وضح ذلك بصورة عندما قرر قبول رهان مع أبناء قريته علي التهام كمية كبيرة من الملح كفيلة بازهاق روحه، أو عندما يتوجه لشراء الفاكهة من أحد البائعين وهو يجهل اسمها، والمشهدان يدلالان علي ضيق الأفق والعزلة الذي يتمتع بهما. وتكون هذه السذاجة والجهل سبيلا لارساله لأحد المعتقلات لحراسة المسجونين السياسيين، فالسلطة في نهاية الأمر تريد أفرادا لا يفهمون لقمع أفراد يفهمون!!
يصل أحمد سبع الليل إلي المعتقل ليجد أول اختبار عندما يطلب منه قائده أن يصفع زميله علي وجه، فيمتثل للأمر ولم يتردد، وعندما يسأله قائده لماذا فعلت ذلك، يجيبه : «حضرتك امرتني اضربه، فضربته» وينجح في الاختبار ويلقي استحسان قائده؛ الطاعة العمياء حتي وإن خالفت المنطق، لاسيما أنه لا يتمتع بأي منطق أو وعي.
ولأن القمع ليس له حدود أو درجات فأن ذلك القائد عندما يتوجه لفناء المعتقل لتوبيخ المساجين، نري أحد أفراد الحراسة يتعقبه حاملا في يديه مروحه كهربائية، وهو مشهد استفزازي يكشف عن السطوة والصلف، ويظهر أيضا مدي الوحشية التي يتسم بها هؤلاء الرؤساء حتي تجاه بعضهم البعض.
يدخل سبع الليل في تلك الدائرة المغلقة بعد أن تم عمل غسيل لمخه (المتوقف أصلا عن التفكير) وأصبح مستعداً للتضحية بحياته في مقاومة هؤلاء المجرمين (أعداء الوطن) ويتضح ذلك في مطاردته لأحد الهاربين واللحاق به مزهقا روحه خنقا، ويكافأ علي ذلك من قبل القائد، ويترسخ لديه شعور بأن ما فعله عمل بطولي.
ثم يأتي المشهد الفاصل عندما يكتشف أن حسين وهدان ابن قريته المثقف التقي الذي شمله بعطفه أحد نزلاء لهذا المعتقل ، ويطلب منه قائده أن يضربه بالسياط، وهنا تبدأ الأمور تأخذ مجري آخر، عندما يصطدم بهذه المفاجأة وهو يعلم جيدا أن ابن قريته يتحلي بصفات أبعد ما تكون عن تلك التي تم غرسها في عقله، ويتساءل في لحظة فاصلة كيف يكون (حسين) من أعداء الوطن، وهو الذي أفهمه بأن الالتحاق بالخدمة العسكرية شرف لا يمكن التخلي عنه. ويحدث التصادم وينقلب السحر علي الساحر في مشهد بالغ عندما يرفض الامتثال للأوامر، وعلي الفور يصنف من قبل قائده علي أنه من ضمن هؤلاء (أعداء الوطن) فتصدر الأوامر بضربه ويحاول أن يتلقي تلك الضربات عن ابن قريته في مشهد يكتمل فيه الوعي والنضج ويكتشف الحقيقة المؤلمة، ليتحول في لحظة إلي برئ آخر!!
كثير من الأفلام المصرية طرحت فكرة التعذيب داخل المعتقلات ورصد الانتهاكات التي يتعرضون إليها، لكن اللافت في هذا الفيلم هو أداء بطله أحمد زكي والذي فاق كل المتوقع ، فقد تعامل مع الشخصية من الداخل والخارج وتوحد معها في حركاتها وايماءاتها وطريقة كلامها، انكسارها وانتصارها ، بلاهتها وسذاجتها، فرحها وحزنها، وهي أمور لو لم يلتف إليها الممثل كفيلة بسقوط الشخصية وفقدانها للمصداقية، وتجلي ذلك حتي في استطالة قفاه ومشيته وطريقة ضربه للفأس في أرضه، ولم يفوت «زكي» تصدير هذه التفاصيل لتتم المواءمة ويصعب الفصل بين الممثل والشخصية.
لم تكن آلة الناي التي صاحبت «أحمد سبع الليل» مجرد اكسسوار بل كانت دلالة علي إن تلك الغيام الكثيفة الظاهرة علي الشخصية سيأتي لها لحظة تنقشع فيها، وهو ما حدث بالفعل في النهاية.
رغم الممارسات القمعية الكثيرة التي مورست علي المعتقلين فأن حالات شحيحة جدا تم كشفها وعن طريق المصادفة المحضة، وتحفظ جدران السجون ملايين المظالم والصرخات لم تكشف عنها الأيام بعد، فمازالت الحريات مقيدة بأغلال الخوف والملاحقة، ويخشي الكثيرون ممن تعرضوا لانتهاكات من رفع مظالمهم ضد جلاديهم. والأمر في النهاية قد يكون في حاجة إلي قوانين تحفظ حقوق الإنسان ومتابعات صارمة، لكننا نحتاج أكثر في النهاية إلي ضمائر حية وصالحة وهي للأسف تشح مع الأيام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال