الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع ضد الحتميات السائدة .. قراءة في نقطة النور ل بهاء طاهر

محمد سمير عبد السلام

2008 / 11 / 3
الادب والفن


تتميز بعض الكتابات الإبداعية الجديدة بمحاولة القبض على الظواهر الروحية ، و استعادتها في شكول عديدة مختلفة تؤكد ثراء التجربة الإنسانية ، و قدرتها على تجاوز المنطق الثقافي الشمولي الذي يهمش مثل هذه الظواهر ، و يؤجلها ، و لكنها تظل فاعلة من خلال التمرد ، و الاختلاف ، و الحب ، و التصوف ، و الحلم ، و الفن ، و الارتقاء المعرفي بالذات ، في توحدها باللاوعي ، و تداخلها الثقافي ، و الروحي مع الآخر .
و قد رصدت الدراسات الثقافية المعاصرة ، أهمية هذا التحول الروحي في الكتابات المعاصرة ، و أرى أن بروز هذه الظاهرة يدل على ثلاث نقاط :
الأولي : أن الحياة الروحية تنمو كظواهر لها خاصية التكرار الأول في الوعي و اللاوعي ، مما يؤكد أصالتها ، و قدرتها على تحريف المسار الحتمي للشخصية ، و سياقها الحضاري .
الثانية : قدرة الظواهر الروحية على تجاوز منطق السوق ، و سيادة القيم الحتمية ، و المادية مما يؤكد وجود عمليات استبدال و صراع بين أكثر من مبدأ ثقافي ، و يذكرنا هذا المبدأ بدراسات رايموند ويليامز ، و إيجلتون ، و دريدا حيث يفقد المركز الثقافي الهيمنة على الواقع ، أو النص .
الثالثة : التداخل بين عناصر ، و أشكال الحياة الروحية ، و من ثم التطور الخلاق دون نهاية لتجليات هذه الحياة . و بهذا الصدد يرى كارل يونج في المبادئ الأساسية لعلم النفس التحليلي ، أن تداخل المصادر المادية ، و العقلية المنتجة للحقائق الروحية سينهي قضية النزاع بين الروح ، و المادة ؛ فالصور الذهنية التي تخلفها النار تشبه الخوف من الأطياف المجردة ، كما يرى أن كلا من ثقافات الشرق ، و الغرب يمكنها ولوج الروح الإنسانية الغامضة ( راجع – Carl Jung - The Basic Postulates Of Analytical Psychology ) .
إن كشف يونج عن أهمية الحقائق الروحية و ولوجها لبنية المادة ، و أخيلتها يدل على فاعلية هذه الحياة الخفية ، و تجلياتها الفريدة ، و مظاهرها التي تؤكد ثقافة الاختلاف مقابل سيادة قيمة ثقافية واحدة ، و لكن بروز الكتابة عن هذه الظواهر مرة أخرى في الأدب المعاصر يعكس قوة مضطربة خلاقة ، و مجهولة تصارع الحتميات السائدة ، و تحاول استبدالها .
و من أهم النصوص التي تؤكد هذا التوجه في الكتابة " نقطة النور " لبهاء طاهر ، و قد صدرت عن هيئة الكتاب المصرية ، و دار الهلال .
لقد حاول بهاء طاهر القبض على الطاقة الروحية القوية ، و المنقسمة من خلال شخصية سالم ؛ فهو نقطة التمرد في نشوئها ، و تطورها المضاد لمنطق الأبوية الثقافية ؛ فالشتائم التي كان يطلقها ضد أفراد عائلته ، ثم الأصوات التي كان يعايشها عقب فراق لبنى ، تدل على التنازع بين ارتقاء الوعي عن طريق التوحد بالظواهر الروحية الأعلى ، و السقوط في آلام الحتميات الشمولية التي تجعل من هذه الظواهر طاقة مدمرة تؤكد اختلافا لا يمكن القبض عليه ، أو تحديده ، و لكن المسار الروحي لسالم ينتهي في الزهد ، و تفكيك منطق السوق من خلاله ؛ فقد استغل عمله كمحاسب متفوق في شركة في احتقار قداسة المال السائدة ، فخصص دخله لمساعدة أخته فوزية ، و أبيه شعبان .
لقد حول سالم دورة المال الإيجابية في اتجاه سلبي قوامه استعادة الحب ، و الرغبة في التوحد ، بالعوالم الروحية ، التي بدأ تكوينه المادي / الإبداعي في إنتاجها خارج الذات بمدلولها الضيق .
هل كان سالم هو الروح الإنسانية القلقة في مسيرتها نحو العناصر الكونية الفريدة الكامنة في اللاوعي ؟
هل كان انحرافا عصابيا للمادة ؟
إن سالم يعبر ذاته في ذلك الآخر المتمرد ، و تجلياته الروحية الكامنة في رغبة الانفصال ، و في احتقار الجد الأخير للجسد ، و انهيار المنزل الذي يخلف وراءه أشباح الذكرى ، و سقوط المادة في نقطة النور الغائمة ، التي تقاوم التحديد.
تقوم رواية " نقطة النور " على تطور العلاقات الروحية في ثلاث شخصيات ؛ الجد توفيق ، و سالم ، و لبنى ، و كل منهم يحمل رغبة لا واعية في معرفة ذاته من خلال الآخر ؛ فالجد يحمل أطياف زوجته الأولى سمية ، و نصائح زميله أبي خطوة المتصوف ، و سالم يرغب في التوحد بالقوى الروحية المجهولة ، و كذلك لبنى ، و الأخيرة تبحث عن التوحد بين المادة ، و الروح معا في سالم .
و قد جمع السارد بين تداخل وعي الشخصيات الثلاث من خلال الحوار ، و كذلك استبطان كل منهم ؛ ليكشف عن الرغبة في المعرفة بتلك النقطة التي تلتقي عندها الذات بالروح الإنسانية المفقودة .
و تكشف الإشارات الثقافية – النصية عن تحول المجتمع باتجاه قيم المنفعة وحدها ، و إهمال المبدأ الإنساني ، و من ثم صارت الرواية بحد ذاتها استعادة للعنصر الروحي الكامن في هذا المجتمع ، و قدرته على التطور من خلال هذه الشخصيات ، و غيرها ، دون نهاية .
إن بهاء طاهر يؤرخ لولادة مبدأ الروح منذ كانت طاقة غائمة في سالم حتى انشطارها إلى تجاوز الجسد في الجد ، و ولوج طاقة الحب للمادة في كل من سالم ، و لبنى ؛ و كأنه يؤكد تشابه البدايات ، و النهايات الغامضة لهذا المبدأ . هذا الغموض يدل على قداسة روح الإنسان في مقابل آلية السلطة الثقافية ، و هنا تظل نقطة النور معلقة مرة أخرى ؛ لتكمل عمليات التطور ، و الاستبدال دون الإحاطة المعرفية بها .
إن نقطة النور في رواية بهاء طاهر ترتبط بالمعرفة ، و الكشف لا الوجود ، و الكينونة المتعينة في الزمان ، و المكان ؛ فالوجود التاريخي يعني التحقق ، و البداية ، و النهاية . و رغم تداخله مع الغياب ، فإن النقطة تمثل الوجود قبل حالتي الحضور و الغياب ؛ فهي مجال توليدي للإبداع و المعرفة معا ، و يظل البحث عنها دائريا بينما تتجلى هي في التداخل الروحي بين الأصوات ، و الشخصيات ، و مفردات الواقع ، و تظل مع ذلك مؤجلة في أخيلة المادة ، و المستويات العميقة من الأنا .
تتجمع إذا الوحدات السردية في نص بهاء طاهر حول حدث خفي يقوم على لقاء الشخصية بالظاهرة الروحية ، و من جهة أخرى التجليات المختلفة التي تبدو من خلالها هذه الظاهرة بصورة كونية تتحدى الزمكانية .
و نستطيع أن نرصد بعض المستويات الدائرية لهذه الظاهرة من خلال بعض المقاطع السردية في النص .
أولا : بكارة التعرف على الآخر الطيفي ، الذي يظل وجوده معلقا في العوالم الروحية المتخيلة ، و فيها يسود الإحساس بالغربة ، و الانفصال ، و القلق ، و هو ما شعر به سالم عندما وصف للجد الكائنات ، و الأصوات التي كان يراها في مرضه ؛ فقد كانت تتجلى في صور غزلان ، و خيول ، أو ترتدي فساتين ، أو لباس العسكر ، أو المعاطف البيضاء ، أو في هيئة أحجار ، أو أشجار ، كما كانت تحدث ضجة كبيرة .
إن سالم هنا يعاين لحظات التكوين الأولى دون أن تتحقق في مادة بعينها ، و كأنها تجارب للتحول الإبداعي الكامن في اللاوعي ، و لكنه تحول يتميز بالانفصال ، و العصابية ؛ لأنه يصارع المادة ، و يحاكي صخبها الأول في مواجهة الوعي .
هل هي دهشة اللقاء الأول بالعالم ؟
أم أنها تحاكيها من خلال ما يتجاوزها و هو العالم المتخيل الذي يجسد القوة الغريبة في مستوى التحول لا الوجود ؟
و رغم خفوت لقاء سالم بهذه الكائنات فقد ظلت الظاهرة الروحية تراوده ، و لكن في مستوى النور ، و التصوف الذي يدفعه لاحتقار المال .
ثانيا : التفاعل الخلاق مع الأطياف ؛ و قد يكون للأطياف أصل في الذاكرة ، و لكنها تتخذ موقع العارف ، الذي يعيش عالما جديدا ضمن السياق الروحي ، و يوشك ذلك السياق أن يمتص من يراه ، أو يتجاوز الأخير من خلاله آلام الجسد ، و هذا المستوى من التجربة الروحية يستعيد عناصر ثقافية عديدة كامنة في اللاوعي الجمعي مثل التراث البوذي ، و استبدال الجسد بالروح عند القديس بولس ، و كذلك كتابات النفري ، و لكن بهاء طاهر لا يكتفي بهذا المستوى من التصوف الذي تجلى بصورة أوضح في شخصية الباشكاتب عقب مرضه ، و بحثه عن ذاته ، و لكنه يؤكد أيضا مستوى الحب ، و فيه يستعاد الجسد مرة أخرى ، و تظل نقطة النور تتراوح بين تحولات الجسد ، ثم غيابه ، ثم استعادته ، أو تأجيله .
لقد رأى الباشكاتب حلما يقف فيه طيف سمية في الصحراء ، و تشير له بيدها نحو الخلاء ، و فيه يرى وجوها كأنه يعرفها ، و لا يتذكرها .
هل هي نبوءة التحرر ؟ أم الغياب ؟
إنه العالم الروحي الذي يغوي الجد بالتفاعل معه ، و التحرر من المرض . هل كان هذا العالم كامنا في الذاكرة ، و ينمو داخليا في و عي ، و لا وعي الجد ؟
إن أطياف أبي خطوة ، و سمية تشير إلى الاتساع الكوني للروح ، في مقابل مرض الجد ، و انهيار منزله الواقعي ، و من ثم بدأ يكتشف الحياة الإبداعية للغياب .
ثالثا : بهجة الحب ، و الخلاص المتخيل معا ، و في هذا المستوى تتجلى نقطة النور من خلال رؤية سالم ، و قد التقى بلبنى في ممر مظلم ، و حلق فوقهما طائر أبيض ضخم له مخالب ، و فهربا ثم وجدا نقطة النور في نهاية الظلمة .
و يشير المقطع السردي السابق إلى خلاص سالم من الشعور بالغربة أمام الكائن الروحي القوي الذي يشبه الطوطم الأول في الأرض ، و هو خلاص يختلط بالحب ، و التباس المجال الإبداعي لنقطة النور .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطريقة كوميدية.. الفنان بدر صالح يوضح الفرق بين السواقة في د


.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية




.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه