الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زنزانة رفعة الجادرجي !

جمعة الحلفي

2004 / 2 / 27
حقوق الانسان


رأيت زنازين سجن أبو غريب، لأول مرة، على شاشة التلفزيون. كان ذلك في برنامج (من العراق) الذي تبثه فضائية "العربية" كل أسبوع، ولم يخطر ببالي، وأنا أبحلق بجدران وزايا غرف الإعدام وغرف "استقبال" أولئك الذين سيعدمون بعد حين، سوى شخص واحد هو المهندس المعماري الشهير رفعة الجادرجي.  والجادرجي لم يكن من مصممي تلك الزنازين الكلحاء وليست له صلة بهندستها المعمارية الوحشية، لكنه قضى  عاماً ونصف العام، في واحدة منها بتهمة ملفقة وظالمة من تلك التهم التي طالت عشرات الآلاف من العراقيين الأبرياء، خلال حقبة صدام المظلمة. ففي كتابه المشترك "جدار بين ظلمتين" الذي أصدره مؤخراً مع زوجته بلقيس شراره، يتحدث رفعة عن تلك التجربة المريرة، التي خسر فيها ردحاً من حياته عبثاً ومجاناً ( وربحنا نحن كتاباً مهماً، سيضاف إلى خزائن الكتب وأطنان الوثائق التي تدين النظام الدموي السابق) فصولاً مؤثرة ومؤلمة عن تلك الأشهر العسيرة التي قضاها بين جدران زنازين الأمن العامة ودوائر المخابرات، ومن ثم غرف الإعدام في سجن أبو غريب حيث "أستضيف" بضعة أيام، بعد الحكم عليه بالسجن المؤبد، قبل أن ينقل إلى قسم الأحكام الخاصة في السجن نفسه.
يكتب رفعة، بخبرة المعماري، الباحث عن مسارب الهواء والأوكسجين وعن مصبات الضوء والشمس وجماليات المكان، ليصف واحدة من تلك الزنازين التي مرّ بها خلال رحلته الكئيبة تلك فيقول : لا تعدو سعة الزنزانة رقم 26 أكثر من متر وسبعين سنتيمتراً عرضاً ومترين طولاً، كنا نشعر فيها بثقل الهواء بسبب حشر المعتقلين في ذلك الحيز الضيق، فلا مجال لحركة الهواء النقي فيها فيدور الهواء كما لو أننا داخل فنجان، لأن الزنزانة مغلقة بباب حديدي لا منفذ للهواء من أسفله ولا فتحة في أعلاه سوى شق صغير لمراقبتنا من قبل الحراس، وربما للسماح بدخول كمية من الأوكسجين بقدر ما تؤمن بقاء المعتقلين أحياء ليتمكنوا من استدعاءهم متى شاءوا، لذلك تمتزج رطوبة أنفاسنا بهواء الزنزانة الفاسد.(...) كانت ثمة علاقة مباشرة بين سعة الزنزانة وغسق الظلمة، هكذا يكتشف رفعة، ولذلك فعندما كانت تنزلق جدرانها بجوانبها الأربعة كل مساء، كانت تقلص الحيّز وتضيقه على المعتقلين بداخلها، بقدر ما كانت تفقدهم اليسير من ضيائها عندما تقترب منهم وتنقّض في دفعها نحوهم. ومع اشتداد عتمة جدرانها تدريجياً يرتفع السقف بقدر ما كان يحمل من ضياء النهار فيصبحون في بئر عميقة من العتمة. ومن قلب هذه العتمة كان ينبثق الصمت، الصمت الذي يسميه رفعة صمت الخوف " لقد كنا نسمع، خلال ذلك الصمت، أصوات المعذبين بين وقت وآخر. كنا نسمع صراخاً لا يطاق، صراخ نساء وأطفال، من غير أن نرى ما كان يجري، وكانت تلك الأصوات ترعبني وتفزعني وتؤلمني".
ولأن تهمة رفعة الجادرجي كانت ملفقة وظالمة فقد أطلق سراحه بعد عام ونصف العام بجرة قلم، مثلما كان جرى اعتقاله بجرة قلم أيضاً. ولم يكن أمر إطلاق سراحه من قبل صدام حسين نوعاً من عدالة أو مكرمة لوجه الله، ولا رأفة بوالدته " أم رفعة" زوجة أبرز شخصية ديمقراطية في العراق المعاصر، التي كانت "توسلت" مراراً لذلك الطاغية الجلف كي يطلق سراح ولدها رفعة، إنما كان السبب يعود إلى حاجة صدام نفسه عندما أراد تجميل العاصمة بغداد أمام زعماء دول عدم الانحياز، فكان لابد من الاستعانة بموهبة رفيعة مثل موهبة رفعة الجادرجي الهندسية. وهكذا خرج   من "أحشاء السجن المظلم" على حد تعبير زوجته بلقيس شرارة، ولكن الرعب كان قد سيطر ومسخ المجتمع العراقي في تلك الأيام السوداء من حكم صدام حسين، لهذا لم يكن خروج رفعة  من السجن سوى خروج من ظلمة إلى ظلمة أخرى، كما يشي عنوان الكتاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -غوغل مابس- قد يكون خطرا عليك.. الأمم المتحدة تحذر: عطل إعدا


.. العربية ويكند | الأمم المتحدة تنشر نصائح للحماية من المتحرشي




.. في اليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية.. علم قوس قزح يرفرف فو


.. ليبيا.. المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان تصدر تقريرها حول أوضاع




.. طلاب جامعة السوربون يتظاهرون دعما لفلسطين في يوم النكبة